المصالح والاستراتيجيات وموازين القوى. لكن ثمة بُعدًا جوهريًا، غالبًا ما يُهمّش في الدراسات الجيوسياسية، يفرض نفسه اليوم بوضوح مقلق: فالأمم لا تتصرف بناءً على طموحاتها بقدر ما تتصرف بناءً على مخاوفها. فالدول، شأنها شأن الأفراد، تحمل قلقًا عميقًا وصدمات موروثة من تاريخها وهواجس تحدد قراراتها، أحيانًا بشكل غير عقلاني.
لم تعد السياسات الخارجية تُوجَّه فقط برغبة القوى في التوسع أو السيطرة، بل صارت الدول تخوض صراعًا دائمًا ضد سيناريوهات كارثية يختلقها عقلها الاستراتيجي. هذه السيناريوهات، وإن بدت أحيانًا بعيدة عن الواقع، تتحول إلى دوافع حقيقية تحرك الجيوش وتحدد مسارات الاقتصادات وتعيد رسم خرائط التحالفات. إنها لعبة نفسية معقدة، حيث يصبح الخوف من المستقبل أقوى من حقائق الحاضر.
في عالم تغمره الشكوك وتتقاطع فيه أزمات متعددة وتتسابق فيه الروايات لتفرض نفسها، يظهر التحليل النفسي للأمم كأداة حاسمة لفهم السلوك الدولي. إنه يفضح دافعًا خفيًا، قلّما يُعترف به، لكنه حاضر في كل تحرك: الخوف. وهذا الخوف ليس ضعفًا بل قوة محركة، تدفع الدول إلى اتخاذ قرارات قد تبدو متطرفة أو غير متناسبة مع التهديد الفعلي، لكنها تبدو منطقية تمامًا عند النظر إليها من خلال عدسة القلق الجماعي والذاكرة التاريخية.
أوروبا: خوف من الانحدار
القارة الأوروبية، التي طالما اقتنعت بأنها تمثل قلب العالم وبؤرة الحضارة الإنسانية، تعيش اليوم تحت شبح التراجع الديموغرافي والاقتصادي والجيوسياسي. خوفها العميق ليس من الانهيار المفاجئ، بل من التآكل البطيء، من الذبول الصامت الذي يحولها تدريجيًا من لاعب رئيسي إلى متفرج على هامش التاريخ.
أيقظت الحرب في أوكرانيا قلقًا وجوديًا طال كبته: ماذا لو لم تعد أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها، أو إنتاج تقنياتها، أو تأمين حدودها، أو حماية نموذجها الاجتماعي الذي بنته عبر عقود من الرفاهية والاستقرار؟ ماذا لو أصبحت مجرد ساحة للصراع بين قوى أخرى، تابعة لقرارات تُتخذ في واشنطن أو بكين أو موسكو؟
يدفع هذا الخوف من الانحدار الاتحاد الأوروبي إلى ردود فعل متناقضة: تشدد استراتيجي متأخر، استثمارات عاجلة في إعادة التسلح، تركيز متزايد على السيادة الاقتصادية والتكنولوجية، لكن أيضًا توترات داخلية تعكس اختلافات عميقة حول الهوية والمستقبل. تتحرك أوروبا بشكل محموم لتجنب أن تُختزل في دور ثانوي، حتى وإن كان هذا الخوف أحيانًا يشلّها أكثر مما يحفّزها.
هذه المخاوف تتداخل مع صراعات داخلية حادة على الهوية والقيم، وتزيد من شعور القارة بأنها مضطرة للحفاظ على مركزها التقليدي، ليس بالقدرة فحسب، بل بالاستمرارية الثقافية والاجتماعية. وفي هذا السياق، يبدو أن أوروبا تبحث عن توازن دقيق بين الانفتاح على التغيير وحماية ما تبقى من نموذجها التاريخي، محاولة الجمع بين الدفاع عن نفسها والاحتفاظ بمصداقيتها على الساحة الدولية، وسط عالم لم يعد يدور حولها كما كان في القرون الماضية.
روسيا: خوف من الحصار
تتشكل الرؤية الروسية للعالم من مخيال يقوم على الحفاظ على مساحات شاسعة وصد أي تهديدات محتملة عبر تاريخ طويل من الغزوات المتكررة التي تركت ندوبًا عميقة في الذاكرة الجماعية. موسكو ترى نفسها غالبًا محاصَرة، لا توسعية، وتُفسَّر أي توسعات للناتو أو حركات الثورات الملونة أو النفوذ الغربي على أنها تهديدات وجودية مباشرة تستهدف صميم الأمن القومي الروسي.
من نابليون إلى هتلر، مرورًا بالتدخلات الأجنبية في الحرب الأهلية، تحمل روسيا ذكريات أليمة لغزوات جاءت من الغرب. هذه الذاكرة التاريخية ليست مجرد سرديات في كتب التاريخ، بل هي جزء حي من الوعي الروسي المعاصر، يُستدعى في كل خطاب سياسي وكل قرار استراتيجي.
يدفع هذا الخوف من الحصار روسيا إلى اعتماد استراتيجيات هجومية تُقدَّم على أنها دفاعية بحتة، تشمل ضربات استباقية، إنشاء مناطق عازلة، وتكوين تحالفات مضادة للهيمنة الغربية. هذا المنعكس للبقاء الجيوسياسي، المتجذر في صدمات الانهيارات التاريخية المتتالية — من الإمبراطورية القيصرية إلى الاتحاد السوفييتي — يظل حجر الزاوية في السياسة الخارجية لموسكو حتى اليوم، ويفسر الكثير من تحركاتها التي قد تبدو عدوانية من الخارج لكنها تُفهم داخليًا كضرورات دفاعية.
الصين: خوف من الفوضى
على الرغم من القوة الاقتصادية والعسكرية المتصاعدة التي جعلت من الصين قطبًا عالميًا لا يمكن تجاهله، تظل الصين محكومة بمخاوف جوهرية عميقة: الخوف من التفكك الداخلي والانهيار الشامل. هاجس "الفوضى" (لوان (乱 luàn) يطبع تاريخها الطويل، فهو يمثل التفتت الذي يفسح المجال للأزمات الداخلية والحروب الأهلية الدموية والمجاعات المروعة أو التدخلات الأجنبية المذلة.
تحمل الصين ذاكرة مؤلمة لقرن الإذلال، حيث تقاسمت القوى الاستعمارية أراضيها وانهارت السلطة المركزية وعمّت الفوضى. هذه التجربة التاريخية المريرة تشكل اليوم الخوف الأكبر للقيادة الصينية: أن يتكرر السيناريو، أن تفقد السيطرة على أراضيها الشاسعة وشعبها الهائل العدد.
السيطرة المحكمة على الأراضي والسكان والخطاب السياسي والفضاء الرقمي ليست إلا رد فعل استباقي لدرء هذا القلق العميق المتجذر. في السياسة الخارجية، يتجلى هذا الخوف في سعي مستمر ودؤوب للحفاظ على استقرار الدولة، رفض قاطع للتغيرات غير المتوقعة، واتباع سياسات اقتصادية حذرة تقلل من أي ضعف محتمل أو تبعية خارجية. صعود الصين إذن ليس مجرد توسع إمبريالي، بل هو في جوهره وسيلة للوقاية من الانهيار والفوضى، محاولة لبناء جدار صيني جديد، ليس من الحجارة بل من القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.
الولايات المتحدة: خوف من فقدان السيطرة
الولايات المتحدة، القوة النظامية الهيمنية التي صمّمت وأرسَت قواعد النظام الدولي منذ عام 1945، لا تخشى التراجع المادي المباشر بقدر ما تخشى فقدان السيطرة على المشهد العالمي الذي ساهمت في تشكيله ودفعت ثمنًا باهظًا للحفاظ عليه، ذلك المشهد الذي بدأ يفلت تدريجيًا من قبضتها.
الحروب التي تشنّها تنتج نتائج غالبًا عكسية لما كانت تتوقعه، والتقنيات التي ابتكرتها تصبح أدوات في أيدي منافسيها، بينما يُشكّك المتنافسون الصاعدون في القيادة الأخلاقية والسياسية التي تدّعيها، ما يضاعف شعور القلق والإحباط لديها. العراق وأفغانستان وليبيا، كلها تذكيرات مؤلمة بحدود القوة الأمريكية وبقدرة العالم على المقاومة.
يتجلّى هذا الخوف في دبلوماسية متقلبة ومتناقضة تفتقد للاتساق، حيث تتأرجح ردود الفعل بين التسرّع الأهوج والتباطؤ المفرط، وتتشكل تحولات مفاجئة وغير مفهومة في التوجهات الاستراتيجية. يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد تملك موقفًا ثابتًا أو رؤية واضحة تضمن لها السيطرة على مجريات الأحداث، بل تتصرف وكأنها تحاول استعادة سيطرتها الضائعة في عالم معقد ومتشابك لم يعد يستجيب لمنطق الحرب الباردة البسيط.
العالم العربي: خوف من الإذلال
العالم العربي، الذي كان عبر التاريخ محورًا حيويًا للطرق التجارية ومركزًا للإمبراطوريات العظيمة والحضارات الكبرى التي أضاءت العالم، لا يزال مثقلاً بجروح عميقة متراكمة ومتعددة الطبقات: جرح الإذلال بكل أشكاله وتجلياته. إذلال استعماري طويل، هزائم عسكرية مدوية، تبعية اقتصادية مزمنة، وتهميش سردي متعمد في وسائل الإعلام الدولية، كلها عناصر ترسخ شعورًا عميقًا بالظلم التاريخي وتؤثر بشكل حاسم على خياراته الدبلوماسية وتحالفاته الإقليمية.
هذا الخوف ليس مجرد انعكاس للماضي أو حنينًا لأمجاد غابرة، بل هو خوف حي من تكرار التجربة المريرة: الخوف من أن يكرّس المستقبل موقعه الثانوي في النظام العالمي ويؤكد التهميش والتبعية. من هنا، تُفسَّر جهود التنويع الاقتصادي الطموحة، والمبادرات الإقليمية الكبرى، ومحاولات بناء قوة عسكرية مستقلة، لكنها تفسر أيضًا الصراعات الداخلية العنيفة والتشنجات الهوياتية المؤلمة التي تعاني منها المنطقة.
في هذا المسعى المعقد نحو احترام الذات ومكانة معترف بها دوليًا، يتأرجح العالم العربي بين البحث الجاد عن دوره الفعلي في النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب، والتنافس الداخلي الحاد الذي يعيد تشكيل أولوياته باستمرار ويستنزف طاقاته. إنها معركة مزدوجة: ضد الإذلال الخارجي والانقسام الداخلي في آن واحد.
المخاوف أقوى من الأسلحة
غالبًا ما تقوم نظريات العلاقات الدولية التقليدية على توقع التهديدات الخارجية الموضوعية والقابلة للقياس، إلا أن التحليل النفسي العميق يكشف حقيقة مختلفة ومقلقة: أن التهديدات الأهم التي تتفاعل معها الدول وتحدد سلوكها غالبًا ما تنبع من مخيالها الداخلي الجمعي، ومن مخاوف لا علاقة لها دائمًا بالعقلانية الصارمة أو الحسابات الباردة لكنها تبقى فعّالة للغاية في رسم سياساتها وتوجيه قراراتها المصيرية.
هذه المخاوف العميقة تحدد الميزانيات العسكرية الضخمة، وتوجيه الحروب الكارثية والتحالفات المعقدة، وتشكيل الاستراتيجيات الطاقوية والاقتصادية بعيدة المدى. يصبح العالم الذي تتحرك فيه الدول عالمًا تتكاثر فيه سوء التفاهمات والتفسيرات الخاطئة، حيث يفسّر كل طرف تصرفات الآخر على أنها إشارات عدائية أو نوايا خبيثة، ويصبح جنون الارتياب بنيويًا ومؤسساتيًا، والعجز المتزايد عن استيعاب قلق الآخرين وفهم دوافعهم العميقة يغذي النزاعات المستمرة ويعمّق المواجهات الدموية.
الجيوسياسة المعاصرة ليست مجرد خريطة جافة للقوى والموارد والمصالح، بل هي في الحقيقة خريطة حية ونابضة للمشاعر الجماعية وللقلق الوجودي الذي ينسج خيوطه الخفية في كل قرار دولي مهم، من أصغر مناوشة حدودية إلى أكبر حرب إقليمية. فهم المخاوف المدفونة رغم خفاءها المتعمد وقوتها الحاسمة يتيح لنا قراءة مختلفة وأعمق لتصرفات الدول، لتناقضاتها المحيرة، لتجاوزاتها الصادمة، ولانقلاباتها الاستراتيجية المفاجئة التي تحير المحللين.
ربما يكون هذا الفهم النفسي العميق هو المفتاح الحقيقي والوحيد لفهم عالم معقد لا يزال يبحث بيأس عن توازنه الهش بين قلق عميق ممتد من الماضي البعيد وشكوك جديدة مستمرة ومتجددة تواجهه في الحاضر المضطرب، عالم حيث الخوف، لا القوة وحدها، هو المحرك الأول للأمم.
بقلم أمين بن خالد
الخوف محرّك الأمم
- بقلم المغرب
- 15:11 11/12/2025
- 18 عدد المشاهدات
في تحليل العلاقات الدولية، كثيرًا ما نتحدث عن