في الفكر السياسي المعاصر. فهو، من جهة، التجسيد العملي للعمل الجماعي ولإمكانية تشكيل الإرادة العامة، ومن جهة أخرى، يتحول في كثير من الأحيان إلى آلة للاستلاب والانغلاق، تسجن الطموحات التحررية في أطر بيروقراطية متصلبة. إن قراءة الحزب من منظور تفكيكي، انطلاقاً من التمييز الجوهري بين الملكية والوعد، تفتح لنا أفقاً مغايراً لفهم هذه الظاهرة. فهي تدعونا إلى التوقف عن رؤية الحزب كجهاز يمتلك الحقيقة أو يمثل الشعب تمثيلاً نهائياً، والنظر إليه بدلاً من ذلك ككيان واعِد، أي كيان يقدم وعوداً، يفتح أفقاً للمستقبل، ولكنه يظل، بحكم طبيعته، قاصراً عن تحقيقها بشكل كامل ونهائي. هذا الانتقال من نموذج التملك إلى نموذج الوعد ليس مجرد تغيير نظري، بل هو شرط ضروري لإعادة إحياء السياسة في عصر تشهد فيه أشكال التمثيل التقليدية أزمة وجودية.
ينزع الحزب السياسي في تصوره الكلاسيكي السائد إلى العمل ضمن منطق الملكية بثلاثة تجليات رئيسية. أولاً، ملكية التمثيل، حيث يتحول الادعاء بتمثيل فئة أو شعب من فعل سياسي ديناميكي ومؤقت إلى ممتلك ثابت. يختزل الحزب الإرادة العامة المعقدة والمتغيرة إلى برنامجه وخطابه، وكأنه قد استولى عليها واستحوذ عليها. الشعار الانتخابي "نحن صوتكم" يتحول، في الممارسة، إلى افتراض ضمني مفاده "صوتكم مِلكنا"، ما يخلق وهم الحضور الكامل والنهائي لإرادة الجماعة داخل حدود الحزب. ثانياً، ملكية الحقيقة والأيديولوجيا، حيث يتشكل الحزب غالباً حول خطاب كلي يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة حول قوانين المجتمع ومساره (سواءً كان دينياً، ماركسياً، ليبرالياً، أو قومياً). تتحول الأيديولوجيا هنا من أداة نقدية لفهم العالم إلى عقيدة مغلقة، إلى ملكية فكرية يجب الدفاع عنها بشراسة ضد "الانحرافات" و"الهرطقات". هذا يؤدي إلى انغلاق داخلي خانق، حيث يتحول النقاش من استقصاء جماعي إلى تأكيد طقوسي لعقيدة سائدة، ويُختزل الخصم السياسي إلى عدو يجب إقصاؤه. ثالثاً، ملكية السلطة كغاية، فالدولة تصبح في هذا المنظور هدفاً نهائياً يمكن امتلاكه والاستيلاء عليه. يتحول النضال السياسي من صراع في الفضاء العام حول الرؤى والمشاريع إلى معركة تقنية للاستيلاء على جهاز الدولة، لاستخدامه بدوره كأداة لفرض رؤية الحزب الواحدة. وهكذا تتحول السياسة من فضاء للحوار والصراع الخلاق إلى مجرد إدارة لملكية عامة من قبل نخبة تدعي امتلاك المعرفة المتفوقة.
لكن جوهر الفعل السياسي الأصيل، كما يتجلى في لحظات التأسيس الثوري أو التجدد الأخلاقي، لا ينبع من منطق التملك، بل من منطق الوعد. فالحزب، في أعظم لحظاته، ليس كياناً مملوكاً، بل هو مجمع للوعود (Une communauté de la promesse). ما يجمع أعضاءه ليس عقيدة جامدة يمتلكونها، بل التزام مشترك بمجموعة من الوعود حول المستقبل: وعد بالعدالة، وعد بالحرية، وعد بالكرامة، وعد بمجتمع أكثر إنسانية. هذه الوعود، على طريقة دريدا، هي مستقبلية (à-venir) في جوهرها: إنها تشير إلى ما هو آتٍ، إلى ما لم يتحقق بعد، ولا يمكن اختزالها إلى برنامج حكومي أو سلسلة إجراءات قابلة للتطبيق. قوة الحزب هنا تكمن في قدرته على إبقاء هذه الوعود حية ومفتوحة، في كونه يحافظ على الأفق مشرعاً، لا في ادعائه تحقيقها الكامل والنهائي. هذا المنطق يفرض مسؤولية أخلاقية تتجاوز نطاق الأعضاء والمنتصرين، لتشمل من هم خارج الدائرة، بل وأجيال المستقبل. الحزب كوعد يعني الالتزام بـ الضيافة السياسية، أي الانفتاح على المختلف، والاعتراف بأن رؤيته ليست كاملة، وأن الحق قد يكون متوزعاً. كما يعني أن "النصر" الانتخابي ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسؤولية أعظم في الوفاء بالوعد، دون الوقوع في وهم امتلاك المجتمع وتدجينه. وهذا يستلزم تفكيكاً داخلياً مستمراً، حيث يمارس الحزب شكاً منهجياً تجاه يقينياته وهياكله، ويظل على استعداد لإعادة النظر في خطابه وأدواته لفحص مدى وفائها بالوعد الأصلي الذي جمعه.
تظل العلاقة بين منطق الملكية ومنطق الوعد علاقة توتر وصراع دائم. فالتاريخ السياسي مليء بالأحزاب التي بدأت كحركات واعدة (حركات تحرر، حركات ديمقراطية)، ثم أخذت آليات التملك (البيروقراطية، احتكار الخطاب، السعي المحض للسلطة) تتسلل إليها تدريجياً، لتصبح في النهاية أشباحاً للوعد الذي حملته في مهدها. لكن إمكانية الوفاء تبقى قائمة في قدرة الحزب على الاعتراف الدائم بأنه حامل لوعد، وليس مالكاً لحقيقة. هذا يتطلب، أولاً، التخلي عن أسطورة التمثيل الكامل والاعتراف بأن الحزب لا يمثل إلا جزءاً من الحقيقة الاجتماعية المعقدة، وأن عليه أن يظل في حوار دائم مع الأجزاء الأخرى. ثانياً، الاحتفاء بالانفتاح، وجعل المؤسسات الداخلية والحوارات الخارجية فضاءات حقيقية للمساءلة والنقد، وليس مجرد مسارح للتبرير والترويج. وأخيراً، فهم السلطة كمسؤولية وليست ممتلكاً، أي رؤية الوصول إلى الحكم كفرصة لممارسة المسؤولية الأخلاقية للوفاء بالوعد تجاه الكل الاجتماعي، وليس كفرصة لممارسة الامتلاك والهيمنة.
هذا التحول النظري ليس ترفاً فكرياً، بل هو إجابة على أزمة ملموسة. فالأحزاب التقليدية، كما تظهر التجربة التونسية والعربية بعد الربيع العربي، تواجه اتهاماً مزدوجاً: اتهام بالانغلاق والبيروقراطية والعجز عن تمثيل هموم الشارع الحي، وفي المقابل، اتهام الحركات الشعبوية أو "اللاحزبية" لها بالعجز التنظيمي والعفوية التي تمنع تحويل الغضب إلى مشروع سياسي قابل للاستمرار. إن إعادة تخيل الحزب كـوعد تقدم مخرجاً من هذا المأزق. فهي تسمح ببناء كيانات مرنة وشبكية، قادرة على الاستجابة للزمن السريع للفضاء الرقمي ولغة العواطف التي تهيمن عليه، دون التخلي عن العمق الفكري والحاجة للتنظيم. تسمح بخلق تحالفات مؤقتة حول قضايا محددة بدلاً من الولاءات الأيديولوجية الصلبة، وتبني آليات قيادة دورية وتشاركية تمنع تركيز السلطة. باختصار، تحرير الحزب السياسي من نموذج الملكية (التمثيل، الأيديولوجيا، السلطة) لصالح نموذج الوعد (المستقبلية، المسؤولية الأخلاقية، الانفتاح الدائم) يعني نقله من كونه أداة للاستيلاء والإغلاق إلى كونه فضاءً أخلاقياً وسياسياً مفتوحاً، يحافظ على حيوية الفعل الديمقراطي. الحزب الحقيقي، في هذه الرؤية، ليس ذلك الذي يملك الإجابات الجاهزة، بل هو الذي يستمر في طرح الأسئلة المزعجة، ويبقى وفياً، في كل خطوة، للوعد بمستقبل أكثر حرية ومساواة وعدالة، معترفاً بأن هذا المستقبل سيظل دوماً قيد التحقق، ويحتاج إلى مراجعة ونقد لا ينتهيان.
تُختَبَر فكرة "حزب الوعد" اليوم في بوتقة الواقع التونسي بأشد صورها وضوحاً وحِدَّةً. فتونس، التي شهدت لحظة تأسيسية أطلقت طاقة واعدة هائلة، تواجه اليوم الاستنزاف المُزدوج لهذه الطاقة: استنزافٌ من قِبَل أحزابٍ حوَّلت نفسها إلى أجهزة بيروقراطية تدَّعي امتلاك الشرعية والحقيقة، واستنزافٌ من قِبَل حركاتٍ رافضة للتنظيم تُخاطر بتبديد هذه الطاقة في فوضى عاطفية لا تنتج مشروعاً.
في هذا السياق، يتحول "حزب الوعد" من مجرد تصور نظري إلى شرطٍ للبقاء للفعل السياسي الأصيل. فهو ليس مجرد حزب "جديد" بالمقاييس القديمة، بل هو إعادة تعريف للسياسة نفسها في زمن انهيار الوسائط التقليدية. يتجلَّى هذا التحول في ثلاثة أبعاد مترابطة تمثل خريطة طريق للخروج من المأزق التونسي والعربي الراهن:
أولاً، الانتقال من أيديولوجيا الماضي إلى أخلاقيات المستقبل. لم يعد التحدي هو الدفاع عن عقيدة مكتملة (ماركسية، إسلامية، قومية...) يُعتقد أنها تملك تفسيراً شاملاً للتاريخ والحاضر، بل هو بناء التزام أخلاقي جماعي تجاه وعود مُستقبلية. الوعد بالكرامة الذي تفجَّر في الانتفاضة، والوعد بالعدالة الذي ما زال ينتظر التحقُّق، والوعد بحريةٍ لا تكون مجرد شعار. الحزب هنا يصبح الإطار الذي يجعل من هذه الوعود الفردية والمبعثرة مسؤولية جماعية منظَّمة، دون أن يدَّعي أنه يمتلك الطريق الوحيد لتحقيقها.
ثانياً، تحويل التنظيم من آلة هرمية إلى شبكة حيَّة للوعد. البنية التقليدية للحزب، بقيادتها الثابتة ولجانها المركزية وأعضائها المُجَنَّدين، هي بنية مُصمَّمة للملكية – ملكية القرار، الخطاب، والسلطة وهكذا فإن بنية "حزب الوعد" يجب أن تكون أشبه بـ شبكة عصبية أفقية، حيث تنتقل المبادرة والقيادة، وتُتَّخَذ القرارات عبر حوارات تشاورية حقيقية (وليس استفتاءات شكلية)، ويبقى التركيز على حمل الوعد مشتركاً بدلاً من التركيز على الولاء للهرم. التكنولوجيا الرقمية هنا ليست مجرد أداة دعاية، بل يمكن أن تكون نواة لهذا النموذج الشبكي، إذا أُسْتُخْدِمَت لتعميق النقاش وليس لتسطيحه، ولتوزيع المبادرة وليس لتركيزها.
ثالثاً، فهم السلطة كمسؤولية مؤقتة للوفاء، لا كممتلك دائم للهيمنة. إننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت سابق إلى إعادة النظر في علاقة الحزب بالدولة والسلطة. فـ "حزب الوعد" لا يسعى لـ امتلاك الدولة كغنيمة نهائية، بل لـ استخدام مؤسساتها مؤقتاً كأداة لتحقيق خطوات عملية نحو الوفاء بالوعود. الفوز في الانتخابات أو المشاركة في الحكم يصبح اختباراً أخلاقياً لمدى الجدية في الوفاء، وليس غاية تنتهي عندها السياسة. وهذا يتطلب آليات مساءلة داخلية وخارجية مستمرة، وقدرة على الاعتراف بالفشل والتصحيح، وربط الشرعية باستمرار الجهد في الوفاء لا بمجرد حيازة المقاعد.
الواقع التونسي اليوم، بصراعه بين تحجُّر المؤسسات وتشَتُّت الحركات، يصرخ بأهمية هذا التحول. فالمأزق ليس في غياب الإرادة التغييرية، بل في غياب الأشكال التنظيمية القادرة على تحويل هذه الإرادة إلى قوة سياسية مستدامة وأخلاقية. إن "حزب الوعد" هو محاولة لاختراع هذا الشكل. إنه رهان على إمكانية سياسة تكون في آن واحد: جذرية في التزامها بالقيم التي أطلقت الثورة، وعملية في تنظيمها وقدرتها على الفعل، وأخلاقية في اعترافها بأن الطريق طويل وأنها حاملة لوعد وليست مالكة لحقيقة.
ختاماً، قد يكون مصير الديمقراطية الناشئة في تونس، ومصير فكرة التغيير السياسي الأصيل في المنطقة، رهناً بهذه القدرة على التخيُّل الجذري. تخيُّل سياسة لا تخاف من التنظيم كي لا تقع في الفوضى، ولا تستخدم التنظيم كي تمتلك وتسيطر. بل سياسة تتنظم كي تظل وفية للوعد، وتعترف بأن هذا الوعد سيظل أمامها، كأفق يتحرك كلما تقدمت، دافعاً إياها إلى الأمام، ومذكِّراً إياها بأن السياسة الحقيقية ليست في امتلاك الحقيقة، بل في السعي الدائم نحو تحقيق وعود الشغل والمساواة والحرية والعدالة التي تجعل من الحياة المشتركة جديرة بأن تُعاش.
بقلم: نوفل حنفى