ورغم أنّ العنف لا يمثّل ــ إحصائيّا ــ أكثر السّلوكات تواترا في المدرسة، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي تأثيراته النفسية والاجتماعيّة الخطيرة ووقعه القويّ على كلّ الأطراف، ومن ضمنهم الأساتذة.
وقد رأينا الخوض في هذه الظّاهرة، لأنّ المقاربة التّربويّة تنطلق من أنّ العنف في المدرسة ليس حتميّة اجتماعيّة، وأنهّ بالإمكان تفاديه والحدّ منه، ونذكر في هذا السّياق أنّ برامج التّكوين الأساسيّ والتّكوين المستمرّ للأساتذة في فرنسا وعديد الدّول الغربيّة تشتمل على وحدات في مجال التّحكّم في العنف وتحسين المناخ المدرسي .
ولفهم ظاهرة العنف في المدرسة، وكيفيّة التّحكّم فيها ، قمنا باستقراء البحوث التّونسية والأجنبيّة في هذا المجال، بالإضافة إلى قيامنا ببحث ميدانيّ سعينا من خلاله إلى دراسة ملفّات التّلامذة المحالين على مجالس التّأديب من أجل العنف. ونقدّم خلاصة إضافات هذه البحوث في عنوانين:
- محاولة لفهم ظاهرة العنف
- كيفيّة التّعامل مع ظاهرة العنف
محاولة لفهم ظاهرة العنف في المدرسة
تظهر البحوث أنّ هناك العديد من المتغيّرات تجعل فئات من التّلامذة أقرب -إحصائيّا- إلى إتيان السّلوكات العنيفة ( التلامذة الّذين يعيشون صعوبات عائليّة ،اجتماعيّة ، نفسيّة، دراسيّة...). ولكن، مع هذا لابدّ من الوقوف عند معطى يبدو لنا أساسيّا: إذ ليس كلّ التلامذة الذين يعيشون صعوبات يأتون سلوكات عنيفة، وفي المقابل، هناك تلامذة لا يعيشون أيّة صعوبات اجتماعيّة أو دراسيّة، بل أنّهم أحيانا من المتميّزين دراسيّا ومن المنتمين إلى طبقات اجتماعيّة مرفّهة، ومع هذا فهم يأتون سلوكات عنيفة.
وهذا المعطى يجعلنا نفترض أنّ العنف هو بالأساس مسار تفاعلي سياقيّ ينبني من خلال ردود الفعل الانفعالية الآنيّة بين الأستاذ والتّلميذ.
ومن خلال دراسة ملفّات التّلامذة المحالين على مجالس التّأديب من أجل العنف، وجدنا أنّ أغلب وضعيّات العنف تشترك في كونها عبارة عن مسار تفاعليّ تصاعديّ تغلب عليه ردود الفعل الانفعالية، ويتّخذ نسقا تصاعديّا (escalade de la violence) ، فقد تكون الانطلاقة بسلوك للتّلميذ أو الأستاذ يرى فيه الطّرف المقابل استفزازا، ثمّ تتوالى ردود الفعل وبصفة عامّة يخرج المسار اللّاحق عن سيطرة الطّرفين (الأستاذ والتّلميذ) وينتهي عادة بالعنف (إن كان لفظيّا أو مادّيّا).
ويمكن القول أنّ الوضعيّة التّفاعليّة للعنف بين الأستاذ والتّلميذ تضع في مواجهة منطقين متقابلين:
ـ منطق عقلاني: هو منطق الأستاذ الكهل ذي التّكوين الجامعيّ والّذي يرجع في تفاعلاته إلى القانون والنّصوص الترتيبية ، وهو بحكم سنّه وتجربته قد اجتاز مرحلة المراهقة أي أنّه مستقرّ نفسيا وقادر على التّحكّم في انفعالاته.
ـ ومنطق انفعالي: وهو منطق التلميذ/ المراهق الّذي يمر بمرحلة فقدان توازن والّذي يعيش مرحلة بحث هويّاتي ويمرّ بفترة فوران عاطفيّ، وتتّسم ردود فعله عادة بالانفعاليّة.
والسّؤال المحوريّ: من هو الطّرف المؤهّل لإيقاف مسار العنف: الأستاذ أم التّلميذ؟
يبدو من خلال ما تقدّم، أنّ الطّرف المؤهّل لوقف مسار العنف هو الأستاذ وليس التّلميذ، ولكن بدراسة الملفّات تبيّن لنا أنّ الأستاذ عادة ـ على أرض الواقع ـ ينخرط في المسار التفاعليّ المؤدّي إلى العنف ولا يسعى إلى إيقافه أي بعبارة أخرى فإنّه ينخرط في المنطق الانفعاليّ للتّلميذ، والمفروض هو العكس أي أن يحاول التّحكّم في انفعالاته والالتزام بالمنطق العقلاني حتّى يتمكّن من إيقاف مسار العنف.
كيفيّة التّعامل مع ظاهرة العنف في المدرسة:
من السّهل أن نرجع كل الأسباب المؤدية إلى العنف إلى التّلميذ ولكنّنا نعيد بهذا إنتاج هذه السلوكات العنيفة ولا نعمل على تجنّبها والتّحكّم فيها. وبالرّجوع إلى حالات العنف التّلقائيّة الّتي درسناها وجدنا أنّ التّلامذة الّذين يأتون السّلوكات العنيفة يذكرون ــ في الغالب ــ أنّه وقع ظلمهم أو إهانتهم وأنّهم قاموا بالعنف اللّفظي أو المادّي تحت طائلة الانفعال. ونشير في هذا المجال إلى أنّ أغلب التلامذة الماثلين على مجلس التأديب من أجل العنف يعترفون بخطئهم ولكنهم في الآن ذاته يعزون تصرّفاتهم إلى الطّرف الآخر (الأستاذ أو القيّم...).ومن هذا المنظور فمن المهمّ تفهّم قراءة التّلميذ لبعض سلوكات الأستاذ والتّفكير فيها ، هذه القراءة التي تختلف في كثير من الأحيان عن قراءة الأستاذ، فعديد السّلوكات يرى فيها التلميذ إهانة في حين يعتبرها الأستاذ عاديّة. ونستخلص من خلال إجابات التّلامذة ـ بالإضافة إلى مجلوبات مختلف البحوث ـ أنّه يجدر التّدرّب على تفادي السّلوكات المؤدّية إلى العنف على مستويين اثنين: أثناء بدء التّفاعل العنيف، وأثناء التّفاعل العاديّ مع التلميذ.
تفادي السّلوكات المؤدّية إلى العنف أثناء بدء التّفاعل العنيف:
نقصد هنا الوضعيّات الّتي يبدأ فيها النّسق التّصاعديّ للعنف (l'escalade de la violence)، وقد ذكرنا في هذا السّياق أنّ الطّرف المؤهّل لإيقاف مسار العنف هو الأستاذ وليس التّلميذ وذلك من خلال الالتزام بالسّلوك العقلانيّ البعيد عن التّشنّج (الحذر من التّلاسن مع التّلميذ، تجنّب إخراج التلميذ بالقوّة عندما يعطّل سير الدّرس واستدعاء القيّم العامّ، الالتزام بأحكام منشور التّأديب المدرسي إزاء كلّ الإخلالات السّلوكيّة).
وقد يبدو أنّ إلقاء مسؤوليّة كسر مسار العنف وإيقافه على الأستاذ لوحده دون التلميذ مبالغ فيه، ولكنّنا نذكّر في هذا السّياق أنّ وضعية العنف التي يجد فيها الأستاذ نفسه في مواجهة مع التلميذ ليست مبارزة تفضي إلى منتصر ومنهزم وإنّما هي وضعيّة تربويّة على الأستاذ أن يعرف كيفيّة التّحكّم فيها لإيقاف مسار العنف وتجنّب المنزلقات الخطيرة الّتي يمكن أن يؤدّي إليها (عنف لفظي أو مادّي يطال الأستاذ ويترك تأثيرات نفسيّة ومهنيّة وهويّاتيّة سلبيّة عليه، وطرد مؤقّت أو نهائي بالنّسبة إلى التّلميذ...).
وقد يبدو انّ التّحكّم في الانفعالات والالتزام بالمنطق العقلاني البعيد عن التشنّج أمر صعب بالنّسبة إلى الأستاذ، ولكنّ الدّراسات التّربويّة والممارسة الميدانيّة تبيّن أنّ بإمكان الأستاذ التّحكّم في انفعالاته تدريجيّا من خلال الاشتغال على الذّات (le travail sur soi) في إطار اكتساب الاتجاه التّأمّلي المتمثّل في أن يتأمّل الأستاذ الوضعيّات الإشكالية التي يعيشها وأن يفكّر فيها ويقيّم مسارها ومدى مساهمته فيها والتّعلّم منها، حتّى يستبق الوضعيّات العنيفة الّتي يمكن أن تواجهه. وبهذا فإنّ الأستاذ يتملّك تدريجيّا كفاية التّحكّم في الوضعيّات العنيفة.
تفادي السّلوكات المؤدّية إلى العنف أثناء التّفاعل العاديّ مع التلميذ :
بما أنّ التّلامذة يفسّرون أغلب السّلوكات العنيفة الّتي يأتونها بشعورهم بالظّلم والإهانة، فمن المفيد أن يتجنّب الأستاذ كلّ ما من شأنه أن يولّد هذه المشاعر لدى التّلميذ ، ويعني هذا الالتزام بجملة من المبادئ الّتي التقت عليها مختلف الأدبيّات التّربويّة:
- احترام حقوق التلميذ وتجنب السّلوكات المهينة ـ أو الّتي يتصوّر التّلامذة أنّها مهينة ـ ونذكّر في هذا السّياق أنّ حوالي ثلثي التّلامذة الّذين أتوا حالات العنف (64 %) برّروا ذلك بأنّهم شعروا بالظّلم والإهانة والاستفزاز. ومن الأمثلة على السّلوكات التي يرى فيها التلامذة إهانة إطلاق نعوت مختلفة عليهم من قبل الأستاذ.
- تثمين جهد التلامذة بمختلف مستوياتهم والعمل على تشريكهم في كلّ الأنشطة بما في ذلك الأعمال الجماعية حتى لا يشعروا ــ وخاصة ذوي الصّعوبات منهم ــ أنّهم مقصون من العملية التعليمية التعلميّة، وحتّى نقلّل من ظاهرة الإحباط الّتي يغذّيها تعامل نسبة من الأساتذة مع التلامذة الموصوفين بــ«الفاشلين».
- العمل على تعديل التصوّرات حول التقييم: من الممارسات السّائدة لدى نسبة هامّة من المدرّسين أن يقع «بخس» التّلميذ ذي النّتائج الضّعيفة، من ذلك مثلا أن ينعت الأستاذ هذا التّلميذ بنعوت غير مستحبّة: «لقد تحصّلت على 4 من عشرين يا»....«...»، أو أن يخاطب الأستاذ التّلميذ بطريقة تجعل زملاءه يسخرون منه، وقد يكون هدف الأستاذ شحذ همّة التّلميذ ذي الأداء الضّعيف ولكنّ البحوث الميدانيّة تشير إلى أنّ نسبة من وضعيّات العنف تنطلق من مثل هذه السّلوكات.
لذلك وجب الفصل بين الأداء والشّخص، فالتّقييم إعلام للتّلميذ بمستوى أدائه ولا يجب أن يمسّ شخصه.
- من الممارسات السّائدة في مؤسّساتنا التّربويّة ما يعرف بـ«الوسم» (la stigmatisation) أي أن نعامل التّلميذ الّذي أتى سلوكا عنيفا واتّخذ ضدّه إجراء تأديبيّ على أنّه جانح وقابل لتكرار سلوكاته في كلّ لحظة. ويفيدنا علم النفس الاجتماعي ـ في هذا المجال ـ أن التّلامذة ـ في مجملهم ـ يستجيبون عادة لانتظارات المربّين منهم، فإن كانت الانتظارات إيجابيّة فسيحاولون الارتقاء إليها من خلال تحسين سلوكهم وأدائهم، وإن كانت سلبيّة فسيحصل العكس .
ومن هذا المنطلق من المهمّ تغيير نظرتنا إلى التّلامذة الّذين أتوا سلوكات عنيفة وتعرّضوا إلى إجراءات تأديبيّة حتّى نرجعهم إلى العمليّة التّعليميّة التّعلّمية ونجنّبهم دوّامة الإحباط والجنوح الّتي تضرّ بهم وبعلاقتهم بالأساتذة وبالمدرسة.
وبصفة عامّة تشير البحوث إلى أنّ نسبة هامّة من التّلامذة الّذين يأتون سلوكات عنيفة يعيشون صعوبات تكيّف على المستوى العائلي الاجتماعيّ أو على مستوى الفصل ، وهم في غالبهم يعانون من نوع من الرّفض الاجتماعي الّذي يؤِثّر على تقديرهم لذواتهم، هذه المتغيّرات تجعل منهم جمهورا ذا هشاشة، وتذهب الأدبيّات التّربويّة إلى أهميّة العمل على إعانة هؤلاء التلامذة على عدم التّمادي في منحى العنف الّذي يضرّ بهم وبالمدرسة وبالمجتمع من خلال جعلهم ينخرطون في العمليّة التعليميّة التعلمية، والأنشطة الثقافيّة والرّياضيّة بصفة عامّة، وفي هذا الإطار تفيد البحوث أنّ انخراط التّلميذ في المدرسة (التعلّمات والحياة المدرسيّة) عامل حماية له يساعده على التكيف الدّراسيّ والاجتماعيّ.