شعرنة الخطاب الطفولي في قصة " الفراش الذي اختفى "للفقيد محمد الغزي

"الفراش الذي اختفى" ، هو عنوان القصة التي

صدرت للشاعر والناقد التونسي محمد الغزي عن الدار العربية للنشر في طبعة أولى ، لتنضاف إلى ريبورتواره القصصي الموجه للأطفال ، ونذكر من هذه القصص الطفلية على سبيل التمثيل :الأمير والخطاف ، مَمْلكة الجَمْر، كان الربيع فتى وسيما ، ذهب المملكة ، الطفل والطائر ، قطرة الماء وشجرة الورد ،

تقع هذه القصة في 20صفحة من القطع المتوسط ، وتزين غلافها صورة للفنان " أحمد الصوابني " ، وتتضمن تسعة رسوم داخلية لنفس الرسام ، بعضها جاء ملونا بالكامل أو نصفه ، في حين ظلت بعض الرسوم من دون تلوين ، مما يوحي بنية الكاتب والرسام في إشراك الطفل في كتابة نصه القصصي بصريا وجماليا ، إذ كل الصور جاءت مناسبة وموازية لتشخصها مرئيا شخصيات القصة من " زهرة الأقحوان ، الفراش ،الشمس ، الطيور ، الورود ،الفراشات".
أما العنوان الذي رشحه القاص " الفراش الذي اختفى "، فقد جاء جملة اسمية مشوقة، محرضة للطفل على تلقي القصة بشوق ، بغاية البحث عن أسباب هذا الاختفاء للفراش، وهذا من شأنه تصيد المتلقي الصغير للدخول إلى عوالم القصة .
فما الذي تحكيه هذه القصة ؟
تحكي عن زهرة أقحوان خجولة ، لكن يشاء الربيع أن يتسبب فراش ف8ي إخراجها من حيائها ،بعد انبهارها بتلاوين أجنحته ، وبعدها يغادر لتهريب الربيع إلى مدن أخرى قاحلة ، وتحزن الزهرة لرحيله وغيابه ، وبعد انتظار يأتيها خبر نهايته في أحدى مدن الشمال ، لتدخل في حزن وحداد
وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن قصة " الفراش الذي اختفى"، تتركب من استهلال ونهاية ، وثلاثة أنفاس على الشكل التالي :
المقدمة وقد خصصها السارد للحديث زهرة الأقحوان ، وتزويدنا بمعلومات عنها ، مما يوحي أنها ستكون الشخصية المحورية في القصة ، نتعرف على لونها الأحمر الجميل " كانت زهرة الأقحوان حمراء جميلة " ص 3، وعن تفتحها ، وانفتاحها على النهر والشمس والطيور، من ناحية ، وهناك تحديد لزمن الأحداث ّ في القديم من ناحية أخرى ، أما أنفاسها فيمكن ترتيبها كما يلي:
- حياء زهرة الأقحوان وانفتا على الفراش
- الانتظار الحارق للزهرة
- موت الفراش وحزن زهرة الأقحوان
بخصوص النفس الأول " خجل زهرة الأقحوان والتعرف على الفراش " ، نتعرف على انغلاق زهرة الأقحوان عبر إخفاء رأسها و يبتلعها الصمت كلما اقترب منها الطيور " الخطاف أو طائر أو السمان أو الكناري "،:"وكانت الطيور تتقرب إليها وتهمس إليها بكلمات الحب ، لكنها كانت تخفي رأسها بين أوراقها الخضراء ، وتغرق في صمت طويل " ص5 ، لكن ريثما سيحوم حولها فراش مزركش أبهرتها ألوانه فظنته طائرا ، ويطلب منها السماح بالاستراحة قربها لترتبك بعدها من فرط الخجل":
- هل تسمح مولاتي أن أستريح قربها لحظات ؟
ارتبكت الزهرة واداد وجهها احمرارا ، وقالت :
لك ماتريد ياسيدي "ص7
وحين تسأله عن وجهته وسرب الفراشات، يخبرها " أن هناك بلادا أخرى مازالت قاحلة، مقفرة ، ها نحن ذاهبون إليها لنبشرها بقدوم مولانا الربيع " ص 8، لتقطب جبينها،ويرحل الفراش .وفي هذا النفس تزود القصة القارئ بانفتاح الزهرة وافتضاضها لحجاب الحياء ، بدل الانغلاق والتوقع ، والسبب هي تلك الألوان التي تزركش الفراش ، والتي تركت في نفسيتها تأثيرا ساحرا وانطباعا خلابا
وعليه ، يكون الجمال سببا في فتح شهية الزهرة للانفتاح على العالم الخارجي ، والدخول في علاقة تفاعلية مع الفراش التي اكتشفت زركشته وروحه الجميلة،
في النفس الثاني" الانتظار الحارق " ، يقربنا الراوي من حزن ولوعة الفراق والغياب :" كل الطيور رأينها مطأطئة الرأس " ص9 ،و" كل الزهور أبصرنها مسندة رأسها إلى ركبتيها " ص 9، " وجاءت الأشجار ، وجاءت الأنهار ، لكن الزهرة ظلت حزينة " ص 9 ،
في النفس الثالث " الانتظار الحارق" ، تقترب من الفراشات العائدة ، لتخبرها بموت الفراش جراء رداءة أحوال الطقس في إحدى ممالك الشمال :" ودخلنا المملكة ، كان فراشك قربي ، وقد رأيته ، بجناحيه الناعمين يقاوم الأمطار والريح ، لقد قاوم طويلا " 18، وهو يلفظ انفاسه الأخيرة كان يهتف بلون زهرة الأقحوان ويوصي بها خيرا :" حين سقط تحت وابل الأمطار ، هتف باسمك مرات " ص18
هاهنا نقترب من نهاية الفراش ، نهاية استشهادية ، وليست مجانية ، والأكثر منه ، وفاؤه لعلاقته بالزهرة ،التي نطق باسمها وهو على مشارف الموت ، وهذه الأخبار التراجيدية حملتها الفراشات للزهرة ، ومن ثمة إسدال الستار عن فعل الانتظار .
أما الخاتمة ، فقد خصصها السارد لشحوب الزهرة وإيغالها في الحداد ، وإضرابها عن المكيجة حدادا على الفراش :"لقد صارت زهرة الأقحوان صفراء شاحبة ،، تقضي يومها حزينة ، مفكرة ، إنها أقسمت ألا تتعطر بعد موت الفراش، وألا تضع مساحيق " ص 19
هاهنا نجد نفس الشعور الإنساني متبادلا بين الزهرة والفراش ،والذي يرسخ ويستقوي ثقافة الوفاء والاعتراف لدى الطفل، ويجسدها دخول الزهرة في حداد على الفراش .
قصة " الفراش الذي اختفى " ، لم تتوقف شاعريتها في استثمار المكونات اللغوية والفنية لاقتناص الخيال، بل اعتمدت الرشاقة الموسيقية ، التي نجدها في الشعر كما في كل أنواع السرد ، والنص بلا موسيقى يشبه طاحونة بلا ماء كما يقال .
يمكن تتبع هذه الموسيقى من خلال التوازي الصوتي، ونقصد به كل ماله علاقة بتوازن الأصوات اللغوية ، كالتوازي المزدوج ومن نماذجه :
"كل صباح كان يجيء الخطاف
كل صباح كان يجيء طائر السمان"ص 5
لقد حققت الجملتين توازيا مزدوجا ،وذلك عن طريق أسلوب التكرار " كل صباح كان يجيئ " ، مما أحدث توازيا صوتيا ،كما يمكن أن نطلق على هذا النوع من التوزاي ، التوزاي البصري الذي يمنح العين جمالية من شأنها استقواء الثقافة البصرية لدى القارئ الصغير .
ثم التوازي الأحادي ويظهر في النموذج التالي : " أزرق وأخضر و أحمر" ، فعلى الرغم مما تحمله الكلمات من اختلاف في الألوان ، إلا أن التماثل الصوتي بقي متساويا ، مما أدى إلى نوع من الإيقاع الذي أحدث انسجاما وفق إيقاعاته التي تتكئ على الهندسة المتساوقة .
وتساوقا مع هذه الموسيقى السردية يأتي التكرار ليبعث الإيقاع على جهة التأكيد والترسيخ، وفضلا عن قيمته الإيقاعية فهو ذو دلالة تعبيرية هادفة كما في النموذج الآتي :
"أريد أن أبقى قرب هذا الفراش ، أريد أن أتعشق ألوانه ، أريد أن يحط كل صباح فوق أوراقي ، أريد أن يبسط فوق جناحيه" ص 9
يتجلى هاهنا التكرار في " أريد أن " إذ تؤكد زهرة الأقحوان تعلقها بالفراش ، ومن ثم ، التأكيد على رغبتها وإلحاحها على عودته والتشبث بقربه ، بزركشته وظلال جناحيه الملونين والمزركشين .
ولتعميق رنين الإيقاع ينضاف السجع إلى هذه الهندسة الموسيقية ، ومن نماذجه :
"وجاءت الأشجار ، وجاءت الأنهار" ص
"ولم نترك نترك مكانا إلا ووزعنا زهورا ، وأطلقنا طيورا"ص
وإن من شأن الأسجاع إضفاء نوع من الأناقة والجمال ال\ي تهتز له مسامع القراء الصغار، ومن ثم إشباع تلقيه الجمالي وتربيته فنيا وجماليا .
وبذلك ، يكون نص " الفراش الذي اختفى " قد مرر مجموعة من القيم التربوية ، من قبيل الوفاء ، والاعتراف ، والإخلاص والحس الشعري وتذوق الجمال الذي اصبو إليه المشاعر,
وبخصوص متعلقات الجانب الطباعي جاءت حروف الخط واضحة المداد ومشكولة أمام عيني الطفل ، ونستثني الخاتمة التي كانت حروفها معكوسة مما من شأنه تشتيت نظره وذهنه على التركيز، هذا بالإضافة إلى قطع أوصال الكلمة الواحدة ، وغياب علامات الترقيم التي غابت في بعض الفقرات مثل نقطتي القول ، علما أنها تساعد على فهم المعنى والوقف بشكل صحيح ، وهذا الغياب للترقيم ، وأيضا القلب للخاتمة، يعودان إلى دار النشر ، التي لم يعد يعنيها سوى الشراهة و الربح المادي، وبعض هذه الدور قليل ويعد على رؤوس .
ومجمل القول ، " الفراش الذي اختفى " نص موغل في شاعريته من خلال التوازي الذي يعتبر ظاهرة فنية إيقاعية ، وركنا اساسيا من أركان التركيب اللغوي ، توالدت من خلاله سلسلة من العلاقات التي خلقت متوازيات هندسية لفظية وايقاعية ، أكسبت القصة بعدا فنيا وجماليا.

 بقلم: عبد الله المتقى 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115