عالم تائه: نهاية الأيديولوجيات، هيمنة الانفعالات

كان هناك زمن تؤمن فيه الأمم بمعنى لوجودها

كانت تقاتل باسم فكرة عن العالم، عن مستقبل يُبنى، عن رؤية تُورّث. كانت الليبرالية تريد أن تكون شاملة، والاشتراكية تحلم بفداء الإنسان من الاستغلال، والقومية تحررية. حتى الحروب كانت لها آفاق، ولو كانت مأساوية: كانت الأمم تؤمن بأنّ الهدم طريقٌ إلى ولادةٍ جديدة.

اليوم، لم يعد الأمر كذلك. فالعالم يمضي بلا بوصلة، بلا سردية مؤسِّسة، بلا مخيال جماعي يجمعه. باتت الدول تتصرف ككائنات عصبية: تتفاعل مع المحفّزات، دون اتجاه ولا ذاكرة. تحولت الدبلوماسية إلى إدارة للفوضى، والسياسة إلى منعكس للبقاء. نحن نعيش في عالم تائه، محروم من المعنى بقدر ما يفتقر إلى مرجعيةٍ ناظمة.
أولاً: سقوط السرديات الكبرى
منذ نهاية الحرب الباردة، تحرر العالم من استقطاباته الأيديولوجية القديمة، لكنه لم يستبدلها بشيء. فانتصار الرأسمالية المعولمة لم يدمر خصومها فحسب، بل دمر أيضاً المُثُل التي كانت تجعل الصراع نفسه محتملاً ومفهوماً.
تلاشى وعدُ الليبرالية بعالمٍ يحكمه السلام من خلال السوق تحت وطأة الأزمات المالية المتتالية، واتساع الفوارق الطبقية، وتنامي الغضب الاجتماعي. أمّا التقدّم التكنولوجي، الذي رُوّج له يوماً بوصفه أفقاً للنهضة الإنسانية، فقد غدا مصدراً للقلق الوجودي: الذكاء الاصطناعي، والمراقبة الرقمية، واضطراب المناخ ترسم اليوم ملامح مستقبلٍ مرتبك ومجهول.
تحدث جان-فرانسوا ليوتار منذ الثمانينيات عن "نهاية السرديات الكبرى": اختفاء الأطر الكبيرة للمعنى التي كانت تعطي توجهاً وتماسكاً للحداثة. ها قد وصلنا إلى هذه اللحظة. انهارت الاشتراكية مع الاتحاد السوفياتي، واستُنزفت القومية في كاريكاتوراتها الهوياتية، وأُفرغت الليبرالية من جوهرها الأخلاقي.
لم يفقد العالم الأيديولوجيات وحدها، بل ذاق مرارة فقدان الإيمان بإمكانية وجودها. ما يملأ النفوس اليوم ليس الإيمان ولا الاقتناع، بل ضجرٌ أخلاقي وسخرية عامة تولدها اللامبالاة السياسية. عصر ما بعد الأيديولوجيا هو عصر بلا أفكار كبرى، حيث تصير الرؤية مجرد انعكاس مشوّه للمصالح الآنية.
ثانياً: حكم الدول بالخوف - عصر الانفعال لا المبادرة
في هذا الفراغ الأيديولوجي، ومحرومة من المشاريع الكبرى، لم تعد الدول تحكم بالمعنى التقليدي: إنها تدير. القادة لا يبنون مستقبلاً، بل يديرون أزمات طارئة لا تكاد تنتهي. الأزمة المناخية، الجوائح، الحروب، الهجرة، الانهيار الاقتصادي — كل حدث يتحول إلى "حالة طوارئ"، والسياسة تختزل في سلسلة من الاستجابات الفورية المتشنجة.
سمّى عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك هذا الواقع بـ«مجتمع المخاطر»: عالم لم يعد يخطط للمستقبل، بل يحمي نفسه من حاضرٍ متقلب لا يُطمأن إليه. السياسي المعاصر، كما لاحظ ميشيل فوكو، لم يعد منظماً لمشروع جماعي تحرري، بل صار مديراً بيروقراطياً للخوف. ما نشهده اليوم في واشنطن، موسكو، بكين أو باريس، هو تفاعل فوري يسبق أي تفكير عميق، استجابة للحظة العابرة لا للمخطط الاستراتيجي.
الخوف من الانحدار، من الآخر، من الفوضى، من الثورة، من التغير المناخي؛ كل شيء يُحكم بواسطة الخوف وإدارته التقنية. حلّت الردود الفورية محل التفكير المتأني، وصار الحذر بديلاً فقيراً عن الرؤية المستقبلية الطموحة.
هذا التحول الجذري يُغيّر طبيعة الدبلوماسية نفسها: لم تعد فن المدى البعيد والتخطيط الاستراتيجي، بل تحولت إلى فن التفادي والمراوغة. القوى العظمى تتحالف يوماً، وتتصارع في اليوم التالي، وفقاً لمنطق الظرف العابر والمصلحة الآنية. التعددية القطبية تتفكك، الأمم المتحدة تنحسر إلى دور المتفرج العاجز، والجيوسياسة تتحول إلى مسرح للقلق المتبادل والشك الدائم.
ثالثاً: حين تصبح الحقيقة متغيرة
الفوضى الراهنة ليست عسكرية أو اقتصادية فحسب؛ إنها رمزية ومعرفية أيضاً. الحقيقة، الأخلاق، العدالة — هذه الكلمات التي كانت تشكل أساس الخطاب السياسي لم تعد لها قيمة ثابتة أو معنى مشترك. كل معسكر، كل بلد، كل رأي عام يُلوّيها على طريقته ويوظفها لخدمة أغراضه.
أدركت حنة أرنت هذا الانقلاب الخطير مبكراً: «الكذب كان دوماً رفيق السياسة، لكن الجديد هو ضياع شعورنا المشترك بالحقيقة». اليوم، صارت القيم "العالمية" مجرد أوراق تكتيكية تُستخدم في اللعبة الدبلوماسية، وحقوق الإنسان تتبدل قيمتها من مكان إلى آخر. السيادة مقدسة عند بعض الدول، قابلة للانتهاك والاختراق عند أخرى. السخط الدولي يختار ضحاياه بانتقائية فاضحة، والأخلاق تتحرك على خريطة المصالح الجيوسياسية.
صور غزة، أوكرانيا، السودان أو الكونغو تكشف هذا التنافر الأخلاقي الصارخ: الموتى ليس لهم نفس الوزن الإعلامي أو السياسي حسب المكان الذي يسقطون فيه والمعسكر الذي ينتمون إليه. هذا التراتب الضمني للمعاناة الإنسانية يُدمّر فكرة الإنسان الكوني ذاتها، تلك الفكرة التي قامت عليها الحداثة السياسية.
تيه العالم إذن هو أيضاً تيه أخلاقي بامتياز: إنه ينبع من اختفاء لغة مشتركة تجمع البشرية. لم نعد نتشارك قيماً إنسانية جامعة، بل خوارزميات انتقائية للسخط والتضامن.
رابعاً: الجنوب العالمي يبحث عن معنى
أمام هذا الفراغ الأيديولوجي والأخلاقي، يحاول الجنوب العالمي استعادة صوته المفقود وفرض حضوره. مجموعة بريكس، إفريقيا، أمريكا اللاتينية، جنوب آسيا — جميعها تطالب بمكانة جديدة في النظام العالمي وفي حفل الأمم. خطابها لم يعد خطاب التبعية والمظلومية، بل أصبح خطاب السيادة المستعادة والكرامة المطلوبة.
ومع ذلك، تبقى هذه الثورة غامضة المعالم ومتناقضة: فهي لا تزال تستعير أدوات النظام القديم ومنطقه — الرأسمالية، المنافسة الاقتصادية، منطق القوة العسكرية — مع ادعائها قلبه أو تجاوزه. لا يكفي الاعتراض على الغرب وهيمنته لإنتاج بديل حضاري حقيقي. الكثير من أنظمة الجنوب، بينما تتذرع بخطاب إنهاء الاستعمار وتصفية آثاره، تعيد إنتاج نفس آليات الإقصاء، الاستبداد والتبعية داخلياً تجاه شعوبها.
حذّر الفيلسوف فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" من هذا المأزق: «المستعمَرون يخاطرون بأن يصبحوا المستعمِرين الجدد لأنفسهم». ما نراه اليوم يؤكد عمق هذا التحذير: تحرر غير مكتمل، لا يزال مقيداً بلغة القوة ومنطق الهيمنة ذاتهما.
الجنوب العالمي لا يسعى فقط للوجود والاعتراف، بل يحتاج إلى إعادة صياغة جذرية للتفكير السياسي نفسه. لكن التفكير المختلف فعلاً يستلزم قطع سلسلة ردود الفعل المشروطة، واستعادة النَفَس الفلسفي العميق للسياسة، وهو ما يفتقده عصرنا بشدة — في الشمال والجنوب على حد سواء.
خامساً: التسارع وفقدان الزمن
يتجسّد تيه العالم أيضاً في تحوّل جذري لطبيعة الزمن السياسي: الماضي يُستغل كمجرد ظل أو أداة للمزايدة، والمستقبل يظل ضباباً كثيفاً، بينما يطغى الحاضر بثقله على كل لحظة. كل يوم يبتلع الذي قبله في دوامة إعلامية ورقمية بلا صدى ولا ذاكرة.
يتحدث الفيلسوف الألماني هارتموت روزا عن "تسارع العالم" كظاهرة حضارية: كلما سارت الأمور بسرعة أكبر، قلّ فهمنا لما يحدث فعلاً. السياسة، الخاضعة للآنية الرقمية ، تفقد ذاكرتها وعمقها التاريخي. القادة يحكمون لوسائل التواصل الاجتماعي ولحظتها العابرة، لا للتاريخ وحكمه الطويل. الدبلوماسية تتحول إلى سلسلة من "التغريدات" الجيوسياسية، بلا تماسك حقيقي ولا عمق استراتيجي.
فقدان الزمن هذا ليس مجرد ظاهرة تقنية، بل هو أيضاً فقدان عميق للمعنى: بلا ديمومة واستمرارية، لا يعود هناك اتجاه أو غاية. العالم يتقدم بسرعة مذهلة، لكنه لا يعرف نحو ماذا يمضي، ولماذا.
سادساً: حين تصبح الفوضى منهجاً
في هذا السياق، يستفيد البعض من هذه الفوضى ويوظفها بذكاء. لم تعد الفوضى مجرد فشل للنظام، بل صارت في بعض الأحيان منهجه المقصود. خلق حالة عدم استقرار دائمة يعني إضعاف الخصوم، ومنع التحالفات الثابتة، وإبقاء التبعية مستمرة. ما يسمّيه الاستراتيجيون العسكريون بـ«الفوضى المضبوطة» أو «الفوضى الخلاقة» أصبح أداة معترفاً بها للحكم العالمي وإدارة الصراعات.
غير أن لكل فوضى ثمنها الباهظ: إذ تذيب كل روابط المسؤولية الجماعية والتضامن الإنساني. حين يصبح كل شيء غامضاً ونسبياً، لا أحد يتحمل وزر أخطائه أو جرائمه. حين تتحرك كل العناصر بلا ثبات أو معيار، تختفي العدالة من الأفق. وحين تصبح كل الأمور مجرد لعبة استراتيجية ومناورة تكتيكية، تُمحى الأخلاق كلياً من المشهد السياسي.
سابعاً: إرهاق العالم
تحت طبقات الصراعات الظاهرة والمنافسات المعلنة، يخيّم شعور واسع بالضجر والإرهاق الوجودي. الشعوب منهكة من الوعود السياسية التي لا تُوفَّى أبداً، من الخطابات التي تتكرر آلياً بلا محتوى حقيقي، ومن حروب لم يعد أحد يفهم أسبابها العميقة أو أهدافها الحقيقية.
هذا الإرهاق ليس مجرّد شعور سطحي عابر، بل هو أحد الأسس الخفية للتيه العالمي: إرهاق المعنى نفسه، أزمة وجودية على نطاق كوكبي غير مسبوق. الأمم تتصرف كما لو كانت مجموعات من الأفراد المرهقين نفسياً: حركاتها آلية مكررة، أفعالها بلا اعتقاد عميق، وقراراتها تُتخذ ضمن روتينٍ بيروقراتي يفتقد التأمل والحكمة.
في هذا السياق الكئيب، الخطر الأكبر ليس الانهيار المفاجئ أو الكارثة الدراماتيكية، بل اللامبالاة الزاحفة التي تنتشر كالوباء وتخنق أي محاولة جادة للتفكير النقدي أو الإصلاح الحقيقي.
من أجل إعادة بوصلة المعنى إلى يد الإنسانية
العالم التائه ليس مجرد فضاء جغرافي بلا معالم واضحة، بل هو عالم فقد فيه الإنسان القدرة الأساسية على التفكير العميق في ذاته وفي مستقبله الجماعي. لقد حلّت القوة العارية محل الحكمة، واستبدل رد الفعل المتشنج التأملَ الهادئ والعميق، وأصبح البقاء الآني أولوية مطلقة على حساب المشروع الجماعي الطويل النفس والمبادرة الإنسانية الخلاقة.
استعادة البوصلة الضائعة لا تعني بأي حال العودة الحنينية إلى الأيديولوجيات القديمة الميتة، بل تتطلب ابتكار خيال جماعي جديد، قادر على إيجاد أرضية مشتركة تربط الإنسانية ببعضها دون فرض وحدة قسرية مصطنعة، ودون محو اختلافاتها الثقافية والحضارية الثرية. هذا الخيال الجديد يفترض المصالحة الخلاقة بين الواقع والمعنى، بين القوة والعدالة، بين السيادة والتضامن، مع الحفاظ المطلق على حرية الفكر والنقد.
هذه المهمة التاريخية الثقيلة لا تقع على عاتق الدبلوماسيين والساسة وحدهم؛ بل هي مسؤولية جماعية تشمل المفكرين، الكُتّاب، المثقفين، والشعوب جميعها، لكي تعود السياسة فعل تفكّر ورؤية استراتيجية، لا مجرد سلسلة عشوائية من ردود الأفعال القلقة. ففي غياب أفق واضح ومعنى جامع، تتحول السياسة إلى مجرد منعكس حيوي بدائي — عالم لا يزال يتنفس ويتحرك، لكنه فقد القدرة الإنسانية الأساسية على السؤال والتأمل، عالم أصبحت تحركه الغرائز والآلية التلقائية أكثر مما يحركه العقل والإرادة الحرة.
ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم ليس "إلى أين يمضي العالم؟"، بل "هل لا يزال قادراً على أن يمضي إلى مكان ما؟" فالتيه الحقيقي لا يكمن في ضياع الطريق، بل في نسيان أننا كنا نبحث عن وجهة أصلاً. وما لم نستعد هذا الوعي — وعي الاتجاه، وعي المعنى، وعي المسؤولية المشتركة — فإن البشرية ستظل تدور في حلقة مفرغة، عالقة بين ماضٍ لا تريد العودة إليه ومستقبلٍ لا تجرؤ على تخيّله. والعالم الذي لا يجرؤ على الحلم، محكوم عليه بأن يظل أسير حاضره.

بقلم: أمين بن خالد 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115