واجهة الخطاب السياسي، مُعلناً طي صفحة المركزية وإعادة هيكلة السلطة لصالح القواعد الشعبية. هذا المشروع، الذي يبدو في ظاهره عودة إلى الجوهر النقي للديمقراطية، يحمل في ثناياه مفارقة خطيرة: فهو يعد بالتحرر من هيمنة النخب، لكنه قد يفتح الباب أمام شكل جديد من التمركز السلطوي، مغلفاً بخطاب شعبوي يحتكر تمثيل «الإرادة العامة».
الوعد والمأزق: من التمكين النظري إلى آليات التحكم
تقوم الفكرة النبيلة للديمقراطية القاعدية على إدارة الشؤون المحلية من قبل المواطنين عبر مجالس تُعيد توزيع السلطة والثروة بعدالة. غير أن المعضلة لم تكن في المبدأ ذاته، الذي يُحسب له سعيه لتصحيح اختلالات المركزية، بل في التنزيل العملي المشوه. فبدلاً من هندسة تمثيل حقيقي من القاعدة إلى القمة، أنتجت هياكل معقدة وغامضة، كما هو الحال في تعدد المجالس المحلية والجهوية والإقليمية، مما أفقد المواطن القدرة على تتبع صنع القرار ومعرفة من يُحاسب.
ضبابية الشرعية وتفكك القرار الوطني
أفرزت الديمقراطية القاعدية تمثيلاً غير مباشر متعدد الطبقات، مما يجعل مسألة الشرعية ضبابية. فالناخب لا يختار ممثليه على المستوى الوطني بشكل مباشر، بل عبر سلسلة من الانتخابات والقرعة والانتخابات غير المباشرة التي تضعف الصلة بين صوته والقرار السيادي. في هذا الفراغ، وفي غياب أحزاب سياسية قوية قادرة على تأطير هذه العملية، يتكاثر عدد المجالس وتتصارع على الصلاحيات دون رؤية استراتيجية موحدة، ليصبح القرار الوطني محصلة لتشتت لا لتفاعل مؤسسي بناء.
تفكيك الوسائط: البيئة المثالية للشعبوية
يبلغ الخطر ذروته عندما يُقدَّم هذا النموذج كبديل عن المؤسسات الوسيطة التقليدية كالأحزاب والنقابات والإعلام المستقل. هذا التفكيك المنهجي يخلق أرضاً خصبة للخطاب الشعبوي الذي يدّعي الاتصال المباشر بـ «الشعب الحقيقي» متجاوزاً كل المؤسسات. ولم يكن هذا تنظيراً، بل تجلى في مسار ممنهج شهدته تونس، تمثل في التضييق على منظمات المجتمع المدني عبر إجراءات مقيدة لحرية التمويل والنشاط، واستهداف الاتحاد العام التونسي للشغل عبر خطابات تشكك في شرعيته ودوره، الى جانب تجميد عمل هيئة الاتصال السمعي البصري وإضعاف دورها الرقابي، وتهميش هيئات أخرى وتعيين القائمين عليها كهييئة النفاذ إلى المعلومة وغيرها مما أثار جدلاً واسعاً حول استقلاليتها.
هذه المؤشرات مجتمعة ترسم صورة لمسار يحوّل العلاقة السياسية من حوار مجتمعي مؤسسي إلى حوار مباشر أحادي بين قائد و»جمهور»، تُختزل فيه الإرادة العامة في خطاب تعبوي يغذي العواطف ويقدّم «الآخر» – سواء كان نخبة أو مؤسسة أو معارضاً – كعدو يجب إسكاته باسم الشعب.
أزمة البرلمان التونسي: من ممثل الشعب إلى شاهد على القرار
في قلب هذه العاصفة، يبرز مشهد البرلمان كمؤسسة تمثيلية تعيش أزمة وجودية حقيقية.
فمجلس نواب الشعب، الذي يُفترض أن يكون حصن النقاش العمومي ومجال التوازن بين السلط، تحوّل تدريجيًا إلى فضاء إداري أكثر منه سياسي، تُمرَّر عبره مشاريع القوانين الحكومية في مسار سريع يخلو من النقاش والمساءلة.
تُحال النصوص جاهزة في صيغها النهائية، وتُمنح اللجان مهلاً ضيقة لدراستها، فيما يتغيّب الوزراء عن الجلسات العامة واللجان المختصّة، مما يُفرغ الرقابة البرلمانية من مضمونها.
لقد أصبح البرلمان في الممارسة اليومية مجرد حلقة تصديق لا تُعدّل ولا تُناقش، بل تكتفي بإقرار ما يأتي من الحكومة، حتى في القوانين الجوهرية كقانون المالية أو قانون المناولة أو ما عُرف بقانون الشيك، التي مرت دون تقييم أو استشارة مجتمعية.
هذه الوضعية لا تعبّر عن ضعف مؤقت بل عن تغيير في فلسفة الحكم نفسها: فالمسار الجديد أعاد تعريف العلاقة بين السلط، بحيث لم يعد البرلمان شريكًا في صناعة القرار، بل مكمّلًا إجرائيًا لسلطة تنفيذية متضخّمة.
وتتعامل الحكومة مع المجلس بمنطق إداري عمودي، لا بمنطق تفاعل مؤسسي أفقي، مما يُعمّق شعور النواب بالتهميش ويفرغ العمل البرلماني من قيمته الديمقراطية.
إنّ هذه الأزمة البنيوية تُظهر أن الديمقراطية القاعدية، كما طُبِّقت، لم تُعزّز المشاركة بل أضعفت تمثيلها، إذ استبدلت التمثيل الوطني بشبكة مجالس محلية محدودة الصلاحيات، وبرلمان منزوع الدور السياسي، في مشهد يعيد إنتاج مركزية القرار في يد واحدة باسم الشعب.
نحو حلول: استعادة التوازن بين القاعدة والمؤسسات
الإشكال إذن ليس في فكرة الديمقراطية القاعدية ذاتها، التي تبقى نموذجاً نظرياً قابلاً للتطوير، بل في السياق السياسي المشوّه والنية من وراء تطبيقها. فالنموذج الصحي هو الذي يبني جسوراً متينة بين المشاركة المحلية والمؤسسات الوطنية، لا الذي يهدم إحداهما لصالح الأخرى.
ولعل الحل يبدأ بجملة من الإجراءات من أهمها
1. إصلاح الهياكل القاعدية بتبسيطها وضمان شفافيتها وربطها عضوياً بالتمثيل الوطني المباشر.
2. وقف مسار تفكيك المؤسسات الوسيطة واحترام دور الأحزاب والنقابات والهيئات وضمان استقلاليتها.
3. إعادة الاعتبار للبرلمان كسلطة تشريعية ورقابية فعلية، وضمان فترات كافية للنقاش الجاد والأعمال التحضيرية على غرار مناقشة قانون المالية.
الديمقراطية جوهر لا واجهة
ليست الديمقراطية القاعدية في ذاتها خطرًا، بل في الطريقة التي تُطبَّق بها وفي السياق الذي تُمارَس داخله.
بقلم: ثابت العابد
فحين تُفهم المشاركة على أنها تعبئة لا مساءلة، وحين تُختزل الإرادة الشعبية في صوت واحد، تتحوّل الديمقراطية القاعدية إلى أداة لتغليف الحكم الفردي بثوب شعبي.
إنّ الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد المجالس ولا بتكرار الحديث عن الشعب، بل بمدى قدرة المواطن على التأثير في القرار العام والمحاسبة الفعلية للسلطة.
ولعلّ التحدّي الأكبر اليوم هو استعادة التوازن بين القاعدة والقمّة، بين التمثيل المباشر والمؤسسات الوسيطة، حتى لا تتحوّل الديمقراطية القاعدية من وعد بالتحرير إلى وهمٍ سياسي جديد يُعيدنا إلى النقطة ذاتها باسم الشعب، وضد الشعب في آنٍ واحد