من الإعمار إلى السيطرة: إعادة هندسة غزة

منذ تصريحات صهر الرئيس الأمريكي دونالدترامب

جاريدكوشنير، خلال مؤتمر صحافي عقد في (كريات جات) المقامة على أنقاض قريتي عراق المنشية وجزء من قرية الفالوجا الفلسطينيتين، تصاعد الجدل حول نوايا الولايات المتحدة و"إسرائيل" بشأن إعادة إعمار قطاع غزة. فقد قال كوشنير إن الإعمار سيقتصر على المناطق التي "تسيطر عليها إسرائيل"، ولن يشمل تلك التي تخضع لسيطرة حركة حماس، مضيفاً أن العملية ستجري وفق خطط "مدروسة بعناية" يجري تحديثها منذ العام الماضي.

ويبدو أن كوشنير لا ينتظر نتائج المرحلة الثانية من خطة ترامب المتعلقة بنزع السلاح والانسحاب الإسرائيلي من المناطق الشرقية التي تسيطر عليها إسرائيل، إذ ربط تصريحاته بشكل مباشر بحدود السيطرة العسكرية، ما أعاد طرح السؤال الجوهري: هل المقصود فعلاً إعمار غزة، أم تثبيت واقع التقسيم وإدامة الاحتلال، وربما التمهيد لموجة تهجير جديدة؟
رغم أن كوشنير لا يشغل حالياً أي منصب رسمي، فإن تصريحاته تعكس استمرار الذهنية التي حكمت "صفقة القرن" ومحاولات إعادة هندسة الواقع الفلسطيني عبر الاقتصاد. فالإدارة الأمريكية الحالية لم تُصدر أي وثائق رسمية تتبنى ما طرحه، كما أن إسرائيل لم تُعلن عن خطة متفق عليها مع شركائها العرب أو الفلسطينيين.
غير أن حديث كوشنير يمثل مؤشراً واضحاً على توجه أميركي – إسرائيلي مشترك لاستخدام ملف الإعمار كأداة ضغط سياسي وأمني، عبر ربط المساعدات الاقتصادية بشروط سياسية صارمة، أبرزها نزع سلاح الفصائل، والقبول بإشراف إسرائيلي أو دولي دائم على القطاع.
في الشارع الفلسطيني، تتزايد مشاعر الريبة والقلق. فالكثيرون يعتقدون أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" لا ترغبان فعلياً في تثبيت أي اتفاق دائم، بل تسعيان إلى فرض واقع جديد يقسّم القطاع إلى مناطق نفوذ: المنطقة الغربية تبقى تحت إدارة حماس، فيما تُخضع المعابر الجنوبية والشمالية لإشراف أمني مشدد وربما لإدارة إسرائيلية أو دولية.
ورغم أن هذه الروايات لم تؤكدها مصادر رسمية، فإنها تعكس فقدان الثقة المتراكم في نيات الأطراف الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، بعد سنوات من الوعود غير المنفذة حول إعادة إعمار غزة منذ حرب 2014.
تواصل مصر جهودها السياسية لتوحيد الجهود نحو إعمار شامل لا يستثني أي منطقة من القطاع. وقد أعدّت خطة متكاملة لإعادة الإعمار، ودعت إلى عقد مؤتمر دولي للتمويل في القاهرة الشهر المقبل، مع تأكيدها أن أي ترتيبات أمنية أو إدارية يجب أن تكون مؤقتة وتحت إشراف فلسطيني. السلطة الفلسطينية من جانبها شددت على أن أي خطة لا تمر عبر حكومة انتقالية مهنية تمثل جميع القوى الفلسطينية ستُعد محاولة لتكريس الانقسام.
تحوّل ملف الإعمار من مشروع إنساني إلى أداة ضغط بيد الولايات المتحدة وإسرائيل. فبدلاً من أن يكون خطوة نحو إنهاء المعاناة، يجري توظيفه لترتيب واقع جديد في غزة يضمن الأمن لإسرائيل دون معالجة جذور الصراع. إن ما يُطرح اليوم هو "إعمار مقابل الولاء السياسي"، لا "إعمار مقابل سلام عادل".
وفي ظل غياب ضمانات دولية حقيقية، يخشى الفلسطينيون أن تتحول "خطة الإعمار" إلى مشروع دائم لإدارة الأزمة، لا حلّها.
ليست التصريحات الأمريكية عرضية أو معزولة، بل تكشف عن إصرار على تنفيذ مخطط استعماري استثماري في غزة تحت عنوان "إعادة الإعمار". فالمناطق التي ستخضع للإعمار ستكون تحت سلطة جيش الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، ما يعني استمرار السيطرة الميدانية وتكريس الاحتلال بأدوات اقتصادية. الهدف، إذاً، ليس فقط تقويض سلطة حماس، بل تحويل الإعمار إلى وسيلة لتمرير مشاريع تهجير واستيطان واستثمار في أراضي القطاع التي يُفترض أنها محررة.
وبحسب خطة ترامب، يتمتع الرئيس الأميركي بصلاحيات واسعة عبر ما يسمى "مجلس السلام"، فيما يُعدّ كوشنير "المنفذ التنفيذي" للخطة، وجيش الاحتلال الإسرائيلي هو الجهة المسيطرة فعلياً على المناطق المعنية. بذلك لا تواجه واشنطن وتل أبيب عوائق حقيقية أمام تنفيذ مشروعهما، باستثناء الموقف المصري والأردني الرافض لاستقبال أي مهجرين فلسطينيين على أراضيهما.
في موازاة ذلك، يجري العمل على إنشاء ما يشبه "سلطة انتداب دولية" لإدارة القطاع، تحصل على تفويض من مجلس الأمن لإدارة الشؤون المدنية والإنسانية والإعمار والخدمات الأساسية، تمهيداً لمرحلة "ما بعد حماس" سياسياً وأمنياً.
كما شُكّل "مجلس التنسيق المدني – العسكري الأمريكي"، برئاسة جنرال أمريكي، ويضم نحو مئتي ضابط وجندي معظمهم أمريكيون، لمراقبة تطبيق المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار ومتابعة ملف الإعمار والتنسيق مع القوات المشاركة في الميدان.

يبدو أن إعادة إعمار غزة لم تعد قضية إنسانية خالصة، بل باتت جزءاً من معادلة سياسية – أمنية تهدف إلى إعادة صياغة المشهد الفلسطيني تحت إشراف الاحتلال وحلفائه. وبين التصريحات المتناقضة والوعود الغامضة، يظل الخوف الفلسطيني مشروعاً: أن تتحول مشاريع الإعمار إلى واجهة لتثبيت التقسيم وإدارة الاحتلال بوسائل أكثر نعومة، لكنها لا تقل خطورة عن الحرب نفسها.

بقلم: مصطفى إبراهيم 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115