بعد ثمانين عاماً، ماذا تبقّى من الأمم المتحدة؟

في الرابع والعشرين من أكتوبر 2025 يحتفل

العالم بمرور ثمانين عاماً على دخول ميثاق الأمم المتحدة حيّز النفاذ. وُلدت المنظمة من رحم رماد الحرب العالمية الثانية، تجسيداً لطموح إنساني لم يُعرف له مثيل من قبل: إخماد نيران الحروب، وترسيخ سيادة القانون، وصون الكرامة البشرية في وجه الغرائز المدمّرة. بيد أنّ رهبة المناسبة تختلط اليوم بإحساسٍ عميقٍ بالإرهاق الجماعي وبسؤالٍ مؤلم: ماذا تبقّى من الحلم المؤسِّس بعد ثمانية عقود من قيامه؟

واقعٌ يناقض الحلم
يشهد الكوكب اليوم مرحلة اضطرابٍ غير مسبوقة، تُدفع فيها المبادئ التي قام عليها الميثاق إلى الهامش، وكأنّ النظام الدولي يفقد بوصلته الأخلاقية شيئًا فشيئًا. ففي غزة وأوكرانيا والسودان واليمن وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها، تتعاقب الحروب وتتراجع العدالة تحت وطأة ازدواجية المعايير وصمت القوى الكبرى. وفي هذا السياق، يظلّ مجلس الأمن أسيراً لشللٍ مزمن تفرضه تقاطعات المصالح وحقّ النقض الذي تستخدمه القوى الكبرى كدرعٍ لحماية نفوذها. هكذا تحوّلت دبلوماسية التسوية إلى دبلوماسية القوّة، فيما انحلّت توازنات الأمس في عالمٍ متعدّد الأقطاب تسوده الخصومات والارتباك.
تصدّع التعددية
لم يأتِ هذا التصدّع من فراغ. فمنذ أن بدأت رياح الانكفاء القومي تتسلّل إلى صفوف القوى التي أسّست للنظام المتعدد الأطراف، بدأ هذا الأخير يفقد توازنه تدريجياً. وقد شكّل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سنة 2017 لحظة انعطافٍ حادة: انسحابات متتالية من الاتفاقيات الدولية، وتشكيكٌ في المنظمات الكونية، وعودةٌ فجة إلى منطق موازين القوى العارية. ومع ذلك، فإنّ جذور الأزمة أعمق من ذلك بكثير.
ذلك أنّ بنية مجلس الأمن، المتصلّبة منذ 1945، لم تعد تعبّر عن واقع العالم الراهن. فخمسة أعضاء دائمين — منتصرو حربٍ مضى على نهايتها ثمانية عقود — يحتفظون بحق النقض الذي يُجمّد في الغالب كل تحرّك فعلي. والمفارقة المؤلمة هنا أنه كلما انخرط أحدهم في نزاعٍ مسلح، وجدت المنظمة نفسها مشلولة الإرادة: روسيا تعرقل القرارات حول أوكرانيا، والولايات المتحدة تفعل الأمر نفسه بشأن غزة. وهكذا تتحوّل الأمم المتحدة، التي أنشئت لحماية السلام، إلى شاهدٍ صامتٍ على تفكّكه.
الأمم المتحدة: مرآة لشروخ العالم
ومع ذلك، فإنّ الحكم على الأمم المتحدة بالفشل الكامل هو في ذاته نوعٌ من التبسيط المخلّ. فالمنظمة لا تُنتج اختلالات العالم، بل تعكسها كما هي. إنها مرآة لنظامٍ دوليٍّ تعلو فيه السيادات على القواعد، والمصالح الإستراتيجية على المبادئ. وإن بدت الأمم المتحدة عاجزة، فلأنها تكشف، بلا أقنعة، عن طبيعة الجيوبوليتيك المعاصرة: مسرحٌ لتوازناتٍ هشة، ومصالح متشابكة، وتحالفاتٍ مؤقتة تتبدّل وفق اتجاهات الريح.
وفي هذا الضعف الظاهر تكمن قوّتها الخفيّة: فهي الفضاء الوحيد الذي تُعرض فيه تناقضات العالم على الملأ. تُظهر أن القانون والقوة يتجاوران دون أن يتصالحا، وأن السلام ليس حالةً دائمة، بل مساراً هشّاً يترنّح بين منطق الهيمنة وأمل العدالة.
المؤسسة الخفيّة الضرورية
بعيداً عن الأضواء وعناوين الصحف، تواصل الأمم المتحدة أداء وظائف حيوية تمسّ حياة ملايين البشر. فمنظومتها الإنسانية — من برنامج الأغذية العالمي إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مروراً باليونيسف ومنظمة الصحة العالمية — تمثّل شبكة أمانٍ دولية تُسند المهجّرين والجياع وضحايا الكوارث. أما بعثات حفظ السلام، فرغم محدوديتها، تظلّ الوجود الدولي الوحيد في مناطق نسيها العالم.
وإلى جانب هذا، ساهمت المنظمة في بناء بنية معيارية كونية أصبحت جزءاً من الضمير العالمي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات اللاجئين، واتفاقات المناخ ونزع السلاح وعدم الانتشار النووي. وفي عام 2015، أطلقت أهداف التنمية المستدامة التي صارت بوصلة للسياسات الكونية، حتى وإن عجزت الدول عن بلوغها.
ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة مستقلة قانونياً، إلا أنها تنتمي في جوهرها إلى روح الميثاق الأممي ذاته: محاولة مستمرة لإخضاع القوّة لمنطق القانون. بذلك تظلّ الأمم المتحدة، رغم تعثرها، فضاءً للوساطة والتنظيم والأمل، في زمنٍ تتغوّل فيه الأنانيات الوطنية على حساب التضامن الإنساني.
عالم مستجدّ، مؤسسات عتيقة
ليست المعضلة في كيان الأمم المتحدة نفسه، بل في بطء استجابتها للتحوّلات البنيوية التي يشهدها العالم المعاصر. فالعالم الذي أُنشئت فيه عام 1945 لم يعد موجوداً: قوى جديدة تصعد — الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، تركيا، إندونيسيا — فيما تطالب القارّة الأفريقية بتمثيلٍ منصفٍ داخل مجلس الأمن.
وبالتوازي مع ذلك، أفرزت العولمة فاعلين جدد يتجاوزون الدول: شركات رقمية عملاقة، ومنظمات إقليمية، ومؤسسات مالية عابرة للحدود، ومنظمات غير حكومية أصبحت تزن أحياناً بثقل الحكومات. أما التهديدات الراهنة — التغيّر المناخي، الأوبئة، الهجمات السيبرانية، والانحرافات التكنولوجية — فتتحدى النماذج التقليدية للحوكمة الدولية، وتستدعي مقاربات أكثر شجاعة وابتكاراً.
إنّ الأمم المتحدة، التي صُمّمت في الأصل لمنع الحروب بين الدول، تجد نفسها اليوم أمام صراعات هجينة تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والأمن بالبيئة، والرقمنة بالسيادة. من هنا، فهي تحتاج إلى فكرٍ جديد يتجاوز ثنائية القانون والقوة، نحو حوكمة إنسانية قادرة على حماية الكوكب والإنسان معاً.
نحو التجديد أم الأفول؟
في مواجهة هذا التقادم، تحاول المنظمة منذ سنوات إصلاح ذاتها. تتكاثر المبادرات والمقترحات: توسيع مجلس الأمن، وتقييد استخدام حق النقض، وتحديث البنية الإدارية، وتعزيز الشراكات مع المنظمات الإقليمية. كما دعا الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى بناء "أمم متحدة 2.0" — أكثر شمولاً ومرونةً، قادرة على مواكبة التحوّلات التقنية والاجتماعية التي تعصف بالعالم.
غير أنّ هذه النداءات تصطدم بجدارٍ من المصالح: فكيف يمكن إصلاح نظامٍ يستفيد منه من بيده قرار تغييره؟ الحقيقة أنّ إصلاح الأمم المتحدة ليس قضية إجرائية فحسب، بل قضية إرادة سياسية، ومسألة إعادة تعريف لفكرة التعددية ذاتها. فالعالم لن يُعاد تنظيمه حول مركزٍ واحد، بل سيُعاد تشكيله حول شبكاتٍ وتحالفاتٍ مرنة. وسيكون على الأمم المتحدة أن تتكيّف مع هذا العالم الشبكي، لا بوصفها سلطة فوقية، بل كوسيطٍ بين الأقطاب الجديدة في صنع القرار العالمي.
الرمز الأخير لكونيةٍ هشّة
في عامها الثمانين، تبدو الأمم المتحدة طاعنة في العمر لكنها ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى. إنها تمثّل المثال الأخير لفكرة الكونية، في زمنٍ تتنازعه العصبيات والحروب الباردة الجديدة. صحيحٌ أن سلطتها تآكلت، لكن غيابها سيكون كارثياً. فهي تبقى المسرح الوحيد الذي يُضطر فيه الأقوياء — ولو رمزياً — إلى تبرير أفعالهم أمام "المجتمع الدولي".
تجسّد المنظمة، إذن، مفارقة عميقة: إنها تعبّر عن عالمٍ لم يعد موجوداً، لكنها تحمل في طيّاتها الفكرة الوحيدة القادرة على توحيده.
مساءلة جماعية
في الرابع والعشرين من أكتوبر 2025، حين يحتفل العالم بذكرى الميثاق، يجب ألّا يتحوّل الاحتفال إلى طقسٍ بروتوكولي، بل إلى لحظة مساءلةٍ جماعية: أما زلنا نريد نظاماً دولياً مؤسّساً على القانون؟ وهل نستطيع أن نعيد إلى الميثاق روحه ومعناه، قبل أن يتحوّل إلى ذكرى بلا نبض؟
لأنه لو انهارت الأمم المتحدة، لوجب علينا أن نعيد اختراعها فوراً. لا لتكرار طوباويات 1945، بل لتأكيد أن السلام والعدالة والتضامن ليست ميراثاً من الماضي، بل هي الأفق الهشّ لإنسانيةٍ لا تزال تحاول أن تحكم نفسها بعقلٍ مشترك وقلبٍ واحد.

بقلم: أمين بن خالد 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115