طوفان غزّة أو الرأي قبل شجاعة الشجعان

قال زعيم المعارضة في دولة الاحتلال متوجّها إلى

الرئيس الأمريكي خلال كلمته في الكنيست أنّه وحسب التلمود ,الكتاب المقدس لليهود فانّ من قتل إنسانا واحدا فكأنّما قتل جميع البشر ولكنّه استدرك في نهاية خطابه قائلا بأنّ ما حدث في غزّة ليس إبادة جماعية فليس من السهل الاعتراف بقتل البشرية جمعاء سبعين ألف مرّة !
حرب غزّة هي من طينة الأحداث العظمى التي لا تحدث كثيرا في حياة كلّ إنسان، لقد
هزّتنا بقوة من الداخل ليس لكوننا عربا أو مسلمين فقط ولكن ببساطة لأنّنا ننتمي إلى جنس البشر فكما قال رئيس كولومبيا غوستافو بيترو في خطابة القويّ في الجمعية العامّة للأمم المتّحدة " ليست غزّة وحدها التي تقصف وإنما الإنسانيّة جمعاء" .
لقد حاولت أن أتخيّل شكل الحياة في قطاع غزة زمن الحرب في ظلّ نقص الغذاء وبدون كهرباء وفي مدن مهدّمة ومع احتمال أن ينزل فوق رأسك صاروخ أينما كنت وفي كل وقت فعجزت على تكوين صورة تقريبيّة لأنّ الأمر كان أشبه بأمر غير واقعي وقد حاولت أن أضع نفسي ولو لدقائق مكان إنسان من غزّة وأن أشعر بما يشعر به فشعرت بالجحيم.
ورغم ذلك فقد عاش الناس في غزّة لسنتين متتاليتين على هذا المنوال الذي لا يمكن تخيّله فمن لم يفقد حياته فقد وللأسف بعضا من أقرباءه أو أصدقاءه المقرّبين أو بيته أو فقد ببساطة كلّ شيء ورغم ذلك أثبت هذا الإنسان قوّة استثنائيّة وربّما أسطورية فقد أظهرت مقاطع فيديو قصيرة بعضا من الشباب وهم يعزفون موسيقى راقية بجانب خيام بالية وآخرين كانوا يطعمون قططا جائعة في شوارع خالية من البشر وآخرين كانوا يتندّرون بمواقف الرئيس الأمريكي فقد كانوا وكأنّهم كانوا يريدون أن يخفّفوا عنّا آثار عذابات الضمير...
اليوم ونحن نشهد وقفا حذرا لإطلاق النار، يستطيع هذا الإنسان البطل أن يأخذ نفسا عميقا وأن يشكر الله على نعمة أنّه بقي على قيد الحياة وأن يبدأ بلملمة شتات حياته التي أصابها زلزال لم تعرف الإنسانية مثيلا له ربّما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ...
ويبرز السؤال وبعد استرجاع الأنفاس هل يحقّ لنا أن نقوم معا بمحاولة لفهم ما حصل وما الذي جعل الحياة في هذا المكان العزيز والجميل من الوطن العربي أشبه بالجحيم ولمدّة سنتين كاملتين وهل كان بالإمكان تفادي كل تلك الأهوال التي حصلت ؟
سوف أبدا من الحدث الأخير, من خطاب الرئيس الأمريكي في الكنيست الذي أرى أنّه يحمل في طيّاته كثيرا من الحقائق المثيرة، حيث قال مخاطبا ناتنياهو"لقد قمت بعمل رائع" في إشارة إلى حربه على غزّة ثم أشار إلى أنّ رئيس حكومة الاحتلال كان يهاتفه كثيرا من أجل الحصول على السلاح الذي لم يتردّد في منحه إيّاه , حصل هذا الاعتراف في يوم من المفروض أنّه مخصّص للاحتفال بالسلام : لقد اعترف ترمب علانيّة بأنّه كان جزءا من الإبادة الجماعية وفي نفس الخطاب قام بمدح نفسه طويلا بأنّه رجل سلام !
في نفس اليوم توجّه الرئيس الأمريكي الى دولة عربيّة قال له رئيسها مرحّبا به" أنت الوحيد القادر على صنع السلام في المنطقة ! "
في إطار نفس هذا الخطاب عرفنا كذلك حجم تغلغل اللوبي اليهودي داخل دوائر القرار الأمريكي فالمبعوث الخاص لترمب للشرق الأوسط ويتكوف ماهو إلا رجل أعمال يهودي وابنة الرئيس الأمريكي ايفنكا وصل بها الأمر إلى اعتناق الديانة اليهوديّة تأثّرا بزوجها أمّا الصديقة المقرّبة للرئيس ماهي إلا امرأة يهودية فائقة الثراء كانت هي من طلبت من ترمب في فترة ولايته الأولى نقل سفارة الولايات المتحدة لدى دولة الاحتلال إلى القدس ...
يعطي هذا فكرة عن الجنون والانحياز التامّ الذّي يميّز السياسة الإقليمية والأمريكيّة والذي من المفروض أنّ قيادات حركة حماس تعلمه جيّدا ولكنها ورغم ذلك فقد اختارت ان تضع شعبها في كمّاشة هذا الجنون وقامت بما قامت به قبل سنتين ...
أوّلا أنا أؤكّد على حقّ المقاومة في الوجود ولكنّي ضد المقاومة التّي تقود إلى التهلكة لأنّها لا تتقن أبجديّات الحساب ,وعلى رأسها الفرق الكبير في موازين القوى وواقع الوضع السياسي العربي و الإقليمي والأمريكي وفي إطار هذه الفكرة الأولى سيكون من المنطقي وفي ظلّ النتائج الكارثيّة التي وقعت على كاهل الإنسان الفلسطيني البسيط أن نتساءل عن مدى حكمة وصواب اتخاذ قرار ما سمّي ب" طوفان الأقصى " بالشكل الذي شاهدناه والذي كان السبب الأوّل في الكارثة التي حلّت بغزّة وأهلها .
عندما يقوم مقاومو حماس بما قاموا به قبل سنتين وفي يوم واحد من قتل عشوائي وأسر لنساء كبار في السنّ و حتى لأمّ وأطفالها الصغار وغير ذلك ,بماذا تتوقّع أن ينعتك العالم في اليوم التالي ؟ طبعا سوف توصم بالإرهابي وسوف تكون إسرائيل هي الضحيّة وسوف تشهد بالتالي موجة تعاطف دولي وتعطى لها كل الأسلحة وكل المبّررات من أجل القضاء على الإرهابييّن خاصّة في ظلّ حكومة يهوديّة يمينية متطرّفة وانحياز تامّ للولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل وصمت عربي متوقّع ومعروف.
كان يمكن لطوفان الأقصى أن يكون ذكيّاك أن يكون طوفانا بدون إراقة دماء وذلك بأسر عدد مهمّ من الجنود اليهود وحرق القواعد العسكرية المتاخمة لقطاع غزة والانسحاب بسرعة,كان هذا سيكون عملا رمزيّا بالغ الأهميّة سيعيد القضيّة الفلسطينية إلى واجهة الأحداث وربّما تنتهي الأزمة بصفقة تبادل للأسرى شبيهة بصفقة الجندي اليهودي" شاليط" الشهيرة والتي كانت بحقّ نجاحا باهرا للمقاومة الفلسطينية .
ان من واجب قيادات حركة حماس اليوم أن يقوموا بنقد ذاتي ويعترفوا أنّهم قاموا بحركة متهوّرة وساذجة في نفس الوقت أعطت ذريعة قوية للعدو بأن يقوم بعمليّة انتقاميّة محقت كل مقوّمات الحياة في غزّة وأنا أتساءل هل في مقدورنا أن نقوم في محيطنا العربي بهذا النوع من النقد الذاتي العقلاني وأن نعترف بأخطائنا بسرعة من أجل بداية جديدة لليوم التالي للحرب ؟
ولكن قبل الانتقال الى اليوم التالي للحرب سوف تبقى في أذهاننا أشياء كثيرة تثير تساؤلات عميقة بعضها واقعي والبعض الآخر فلسفي منها كيف تفوّق اللوبي اليهودي على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة العربية والإسلاميّة الغنيّة بمصادر الطاقة ؟
هذا يبدو لي سؤالا صعبا وأرى أنّ حلّ القضية الفلسطينيّة يكمن في الإجابة عن هذا السؤال اللغز!
الشيء المؤكّد أنّ الأولويّة اليوم هي إعادة تثبيت الوجود الفلسطيني في غزّة والعودة لما أسمّيه الحالة الصفر أي حالة ما قبل الحرب والمقاومة تتّخذ حينئذ أشكالا أخرى مثل العمل على إيصال المساعدات إلى الناس المنهكين من القصف والتجويع لأشهر عديدة ولدفن الموتى كما يليق بهم أن يدفنوا ولعلاج الجرحى ولمواساة الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم وأمّهاتهم ولفتح الطرق التي أغلقتها أكوام المباني المهدّمة ولإيجاد خيام لائقة لقضاء فصل الشتاء للعائلات الكثيرة التي هدمت بيوتها ولإيجاد نوع من التضامن الاجتماعي القويّ داخل قطاع غزة لتجاوز الظروف العصيبة الأولى لما بعد الحرب ولإعادة بناء متدرّجة لبعض مقوّمات الحياة الأساسيّة كالعلاج والتعليم ,هذا كلّه في انتظار انسحاب كلّي لليهود من غزّة وإعادة اعتمار شاملة للقطاع ...

بقلم: نبيل بن إبراهم 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115