الاحتجاجات البيئية في قابس: من اجل ديمقراطية حيوية

في مدينة قابس، حيث ينحت الغضب البيئي شعارات

سياسية جديدة "الشعب يريد تفكيك الوحدات"، لم تعد الاحتجاجات مجرد صرخة في وجه التلوث، بل أصبحت بياناً وجودياً يعلن ولادة عقد اجتماعي جديد. هنا، حيث تذبل النباتات تحت وطأة السموم، ويختنق البحر بأنفاسه الملوثة، تتحول الشوارع إلى منصة لنقد جذري لا يستهدف السياسات الفاشلة فحسب، بل يهز أسس المركزية البشرية ذاتها.

بقدر ما تتعالى هتافات الاحتجاج في قابس ضد الوحدات الصناعية، بقدر ما تغوص في أعماق الأسئلة الوجودية التي تهز كينونتنا كبشر في هذا العصر. ها هي الأرض، ذلك الكائن الحي الذي طالما اعتبرناه مجرد خزان لمواردنا، يعيد اليوم تعريف العلاقة من خلال أنين تربته المسمومة، وصُراخ بحاريه. لقد تجاوزت هذه الاحتجاجات كونها مجرد مطالب بيئية تقليدية، لتصير استفهاماً فلسفياً جريئاً يقارع جدران المركزية البشرية التي أسسنا عليها حضارتنا الحديثة.
ففي قلب هذا الدخان المتصاعد، وفي وسط هذا الغضب المتأجج، يبرز سؤال مصيري يلح على العقل والقلب معاً: أيعد العدل حكراً على الإنسان وحده، أم أن للحياة الأخرى - بتشعباتها الهووية والنباتية والحيوانية - حق علينا في إنصافها؟ وكيف لنا أن ننتقل من مفهوم المواطنة الضيق، المحصور داخل حدود البشرية، إلى "مواطنة حيوية" تشمل كل كائن ينبض، وكل نسيم يتحرك، وكل بذرة تتوق إلى النماء؟
إن المشهد في قابس لا يكتفي بتعرية إخفاقات السياسات البيئية، بل يدفعنا دفعاً إلى متاهة فلسفية شائكة، حيث تتداخل الأخلاق مع الوجود، وتتصادم المفاهيم التقليدية للعدالة مع حاجات كائنات صامتة لا صوت لها. إنها حيرة وجودية تضعنا أمام مرآة أنانيتنا، وتسائلنا: هل نحن حقاً سادة هذا الكوكب، أم أننا مجرد جزء من نسيج حيوي معقد، يفرض علينا - لمنطق البقاء نفسه - أن نوسع دائرة انتمائنا ومسؤوليتنا الأخلاقية؟ هذه ليست مجرد قضية بيئية عابرة، بل هي اختبار جوهري لمدى نضجنا الحضاري، واستعدادنا لاعتناق رؤية أكثر شمولية للحياة، حيث العدالة لا تمنح، بل تزرع، في كل ذرة من تراب هذا العالم "الموحش الجميل".
يتدفق الغضب الإنساني كالنهر الجارف، يتجلى وعي جديد لم يعد يحتمل اختزال الظلم البيئي في إطار انتهاك الحقوق البشرية فحسب. لقد أدرك المحتجون أن ما يمارس هو أشبه بـ"تمرين عنيف" على إخضاع الحياة في كل تمظهراتها؛ إخضاع لا يقتصر على كسر إرادة الإنسان، بل يمتد ليشمل ترويض الأرض نفسها، وكسر إرادة النبتة التي تموت في صمت، وإسكات أنين التربة وهي تختنق تحت وطأة النفايات. إنها شهادة حية - بل مأساوية - على عنف المركزية البشرية التي رفعت الإنسان إلى منصة السيد المستبد، وجعلت من الطبيعة مجرد خادم صامت.

هنا، في هذه اللحظة التاريخية، لم يعد السؤال يدور حول كيفية إنقاذ البيئة، بل حول كيفية تفكيك هذه العلاقة السلطوية الأحادية التي حولت العالم إلى مسرح للهيمنة. فالمياه التي تفقد نقاوتها، والهواء الذي يثقل بالسموم، والأشجار التي تتساقط أوراقها قبل أوانها - ليست ضحايا ثانوية، بل هي شواهد صامتة على نظام أخلاقي معطوب، يشرعن الاستغلال ويقدس النمو على حساب قدسية الحياة ذاتها.
لم تعد قابس، بهذا المعنى، مجرد مدينة تئن تحت وطأة التلوث - بل أصبحت مرآة تكشف الوجه المظلم لأنطولوجيا الحداثة: أنطولوجيا فصلت الإنسان عن محيطه، وجعلت منه كائناً منفصلاً وسيداً، لا جزءاً من نسيج حيوي متبادل العطاء. والاحتجاج هنا، بهذا العمق، لم يعد مجرد مطالبة بحقوق - بل هو دعوة صريحة إلى استعادة الاعتراف بـ"الآخر البشري وغير البشري"، وإعادة تعريف العدالة لتكون شاملة، عضوية، تمتد من الإنسان إلى أدق مكونات الطبيعة.
بحجة الطبيعة المتألمة واسم الحياة المتجددة، تخرج صرخة قابس من حيز المطالب البيئية الضيقة لتصبح مساءلة وجودية لمعنى العدالة في عصر الانهيار الإيكولوجي. فحيثما ازردت الأرض بالسموم، واختنقت أصداء البحر بين لظى النفايات، لم تعد الحركات مجرد احتجاج على تقصير إداري، بل صارت هدماً للمركزية البشرية التي جعلت من الإنسان قبة الخليفة المستبد، ومن الكائنات غير البشرية أدوات صامتة.
في هذا المشهد الكوني الحزين، ترتقي المطالب البيئية إلى فلسفة الحق الوجودي. ليس "تفكيك الوحدات" مجرد حل تقني، بل هو تصحيح لعقد القيادة بين الإنسان والعالم. وليس "الحق في بيئة سليمة" امتيازاً إنسانياً فحسب، بل هو حق مشترك لكل ذرة في هذا الكون تريد أن تبقى وتزدهر.
وعي المحتجين في قابس لم يعد يفرق بين الظلم الذي يلحق البشر والذي يلحق غيرهم؛ فكل انتهاك لطهارة التربة أو نقاء الهواء هو جريمة ضد الحياة نفسها. النباتات التي تموت بصمت، والمياه التي تغدو مقبرة للكيماويات، ليست مجرد ضحايا ثانوية، بل هي شواهد على عنف هيكلى تجسد في سلطة الإنسان المطلقة على ما سواه.
لقد أصبحت قابس مرآة ترينا وهن الفلسفة الحديثة في تغييبها "الآخر غير البشري"، ودعوة صارخة لإعادة تأسيس العدالة على أسس جديدة؛ عدالة لا تقسم حسب الجنس البشري وحده، بل حسب القدرة على الشعور، والحق في البقاء، وقدسية الحياة بكل تجلياتها. فالطبيعة ليست مورداً نستغله، بل هي جار لنا على هذه الأرض، وشريك وجودي يستحق الاعتراف والإنصاف
تجسد احتجاجات قابس لحظة الوعي الجماعي الحاسمة، حيث ينتقل النقاش من المطالب البيئية الجزئية إلى مساءلة الأسس الفلسفية للحضارة الحديثة. فالأزمة البيئية هناك ليست مجرد إخفاق تقني، بل هي مأزق مفاهيمي يطالبنا بإعادة تصور علاقة الإنسان بالعالم.
هنا تبرز المعضلة الجوهرية: كيف نبني ديمقراطية بيئية حقيقية، لا تقتصر على تمثيل المصالح البشرية فحسب، بل تتسع لتضم صوت الأنهار، وحق الجبال، وشكوى التربة؟ كيف نؤسس لنموذج سياسي جديد، يجعل من صحة البحر مقياساً لصحة المجتمع، ومن نقاوة الهواء دليلاً على تقدم الأمة، ومن حيوية التربة برهاناً على عدالة النظام؟

فلا يمكن لمجتمع يدمر بيئته أن يزعم أنه متقدم، ولا يمكن لنظام يقتل الأنهار ويخنق البحار أن يدعي العدالة. إنها تدعونا لمراجعة جذرية لأسس علاقتنا مع الطبيعة، ولبناء تصور جديد للمواطنة لا ينحصر في حملة الجنسية، بل يشمل كل من يشترك في هذا الكون: شجرة تمد الظل، وطائراً يزين السماء، ونبتة تنعش الأرض.
في هذا المشهد الحواري الجديد، تصير البيئة ليست موضوعاً للنقاش فحسب، بل شريكاً فيه. والحق في بيئة سليمة لا يكتمل إلا إذا أصبح حقاً لأوراق الشجر أن تتنفس، ولأجنحة الطيور أن تحلق، ولأمواج البحر أن تصفو. قابس لم تعد مدينة تنادي بحلول بيئية فحسب، بل صارت دعوة إلى تواضع جديد: تواضع الإنسان أمام قدسية الحياة.
في هذه المدينة الجنوبية، حيث يتحول الغضب البيئي إلى فلسفة عملية، تختبر حدود الفكر الفلسفي السياسي في أقسى امتحاناته: كيف نترجم هذه الرؤى الجذرية إلى ممارسة سياسية ملموسة؟ كيف نبني جسراً بين عمق التفكير البيئي وواقع الحكم اليومي؟
هذه المعضلة التي تعيشها قابس ليست مجرد أزمة محلية، بل هي الرسالة الفلسفية التي تبعث بها إلى العالم: لقد انتهى عصر السيادة البشرية المطلقة على الطبيعة، وبدأ زمن الاعتراف بالترابط المتبادل. فالحياة ليست سلعة نستهلكها، بل هي شبكة وجودية ننتمي إليها.
لقد أصبحت قابس مختبراً حياً لأسئلة العصر المصيرية: كيف يمكننا بناء أنظمة سياسية تدرك أن تدهور البيئة هو انهيار للعدالة قبل أن يكون خسارة اقتصادية؟ كيف نصمم مؤسسات تكون فيها صحة النظم البيئية معياراً أساسياً لتقييم السياسات؟ وكيف نطور آليات تمكن الأجيال القادمة والكائنات غير البشرية من أن يكون لها موطئ قدم في قراراتنا؟
إن مستقبل الفكر الفلسفي السياسي يكمن في قدرته على استيعاب هذه الدعوة الجذرية ونعنى بذلك التحول من سياسات "إدارة الموارد" إلى حكم "رعاية الحياة". من ديمقراطية تمثل المصالح البشرية فقط، إلى ديمقراطية حيوية تدرك أن حقوق الإنسان لا تكتمل إلا بضمان حقوق الطبيعة.
قابس، بهذا المعنى، ليست نقطة نهاية، بل بداية لرحلة فلسفية جديدة. رحلة تطرح أسئلة المستقبل الصعبة: ماذا يعني التقدم في عصر انهيار المنظومات البيئية؟ وما شكل العدالة في زمن تآكل الموارد؟ وكيف تكون السيادة في عصر الاعتماد المتبادل؟
إنها دعوة للفلسفة كي تنزل من برجها العاجي إلى شوارع المدينة الملوثة، وإلى ضفاف البحر المحتضر، وإلى حقول الأرض المسممة. فالفلسفة هنا لم تعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية. والتفكير لم يعد نشاطاً تجريدياً، بل مقاومة للاندثار. وفي هذا المشهد، تظهر قابس كمنارة لفلسفة سياسية جديدة، تضع الحياة - بكل أشكالها - في قلب المشروع الحضاري.

بقلم: نوفل حنفى

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115