صادم صوّر بأحد المطاعم الجامعية في جهة القيروان وكان يظهر مجموعة من القطط وهي تحتضر وأخرى ميّتة ثمّ انتشر الخبر في احدى الإذاعات الخاصة بان احدى النساء قامت بتسميم عدد من القطط كانت تعيش في المكان منذ فترة طويلة .
أتت هذه الواقعة بعد حادث آخر أكثر بشاعة وتمثّل في اقدامأحد الأشخاص على حرق مجموعة من القطط وهي حيّة وقد قامت احدى الجمعيات الناشطة في مجال حماية الحيوانات الأليفة بجهة سوسة بتتبّع الجاني قضائيّا من أجل العمل الشنيع الذي قام بارتكابه .
عندما نقوم بجولة في العاصمة وحتى في الأحياء الراقية فانّنا سنلاحظ بيسر الوضعيّة البائسة لأغلب قطط الشوارع التي لا يجد أغلبها سوى المزابل لكي تقتات عليهاوما يعنيه ذلك من إمكانيّات لانتشارالجراثيم وللأمراض فيما بينها و هي من المظاهر التي جلبت انتباه حتّى السوّاح الأوروبيّون الزائرين لبلادنا الذين ينتقدون معاملتنا السيئة للحيوانات الأليفة ويكون ذلك خاصّة عندما يسألون عن انطباعاتهم عن تونس.
ولكن كلّ هذه المظاهر السلبية لا تخفي كذلك حقيقة أخرى وهيأن كثيرا من التونسيّون يحبّون الحيواناتويشفقون عليها ويقومن بتربيتها ولأقل أنّ هناك جدلا هادئا في تونس بين هؤلاء والآخرين الذين لا يرون في هذه الكائنات الضعيفة سوى أنها مجرّد مصدر ازعاج ويبرز هذا الجدل خاصة عند قيام بعض البلديّات بحملات قنص للكلاب السائبة او عند حدوث جرائم بشعة في حقها .
وهذا الجدل في الحقيقة ليس تافها بل هونقاش كوني وقديم ويتجاوز القطط والكلاب الى كلّ الحيوانات الأليفة وقد اهتمت به الأديان والثقاقات الكبرى في العالم فمن الأشرطة السينمائية الجيّدة التي شاهدتها في السنوات الأخيرة هو شريط بولوني للمخرج"جرزي سكوليمنسكي" تحصّل على جائزة رفيعة في مهرجان "كان" السينمائي وهي جائزة لجنة التحكيم وقدّم نظرة الى الحياة من وجهة نظر حمار من ناحية قسوة البشر في معاملتهم له وصبرهذا الأخيرالمدهش لما يعيشه من عنفضدّه كما أستطيع أن أذكر وفي سياق نفس الحيوان العمل الشعري " أنا وبلاتيرو" للشاعر الاسباني " خوان رامون خيمينيث" المتحصل على جائزة نوبل للآداب والذي يصوّر يوميّاته مع حماره الذي أعطاه اسم "بلاتيرو" كما لا نستطيع تجاوز التعاطف الكبير لبعض الفنانين الفرنسييّنالمعروفين تجاه الحيوانات مثل المغنّي " ليو فيري" او الممثلة "بريجيت باردو" كماذكر القرآن الكريمأنّ"ما من دابّة على الأرض الاّ أمم أمثالكم " كما قصّ علينا قصّة العقاب الشديد الذّي لحق ثمودا قوم النبيّ صالح لأنهم عقروا الناقة بعد ان أوصى الله حرفيا بقوله "ولا تمسّوها بسوء "...
وقصّة الانسان مع الحيوانات الأليفة قديمة و تعود الى ما بين عشرة الى اثنتي عشرةألف سنة خلتحينما اكتشف الانسان النشاط الفلاحي لأوّل مرّة ودشّن بذلكأهمّ نقلة شملت التاريخ البشري سمّاها المؤرّخون بالثورة الزراعيّة وكان من آثارها استقرار البشر وما تبعها من بداية بروز للحضارات الأولى .
وقصّة اقتراب القطط مثلامن البشرطريفة ومعبّرة حيث اقترنت كما ذكرت أعلاه مع بداية فترة اكتشاف الزراعة و ما صاحبها من بروزتحدّيات جديدة لم يعرفها البشر من قبل وأهمّها تخزين الحبوب وأقول تحدّيات جديدة لانّ الانسان قبل هذا العهد كان يقتات على قنص الحيوانات البرّية وعلى قطف ثمار الغابة وبرزت أولى مشاكل تخزين الحبوب وهي الفئران التي أصبحت تهدّد الأمن الغذائي للإنسان لأوّل مرّة وجاء الحلّ السحري من القطط البرّية التي جلبتها الفئران وهكذا اكتشف الانسان الذي مازال آنذاك بدائيا ويفتقر الى التقنيات التي نعرفها اليوم أنّ وجود هذه الكائنات بقربه أساسي من أجل أن يحافظ على أمنه الغذائي .
كان هذا منذ أكثر من عشرة آلاف سنة خلت ومنذ ذلك التاريخ يبدو أن الأنسان أحسن الى القطط وقامت علاقة سمّاها خبراء الاقتصاد اليوم بعلاقة " رابح رابح "فقد قلّصت القطط الى حدّ كبير خطر المجاعات التي كانت تهدّد الانسان آنذاك وقابل الإنسان ذلك بمعاملة يبدو أنّها كانت متميّزة لعلّ أبرزها كانت على ضفاف نهر النيل على أيدي المصريين القدامى الذين كانوا يرون في وجودها منفعة وجمالا ووصل بهم الحدّ الى سنّ قانون يقضي بقتل من يقوم بقتلأيّ قطّ كما حظيت القطط في نفس الحضارة بالتحنيط بنفس المواد ولنفس الغايات التي من أجلها وقع تحنيط ملوك الفراعنة .
وقد قامت دراسات حديثة لمعرفة الأصول الجينيّة للقطط التي غزت منذ ذلك التاريخ البعيد كل مدن وقرى العالم واستقرت النتائج الى أن أصل كلّ القطط الأليفة واحد ويعود الى القطّ البرّي الموجود في الشرق الأوسط وهذا يتطابق مع الخلفيّة التاريخية التي قمت بتقديمها لأنّ أولى الحضارات الزراعيّة قامت على ضفاف نهري دجلة والفرات أو ما كان يسمّى بمنطقة الهلال الخصيب .
هذا هو تاريخنا مع هذه القطط التي ساعدت الانسان في فترة انتقاليّة وحرجة من تاريخه بأن يتخطّى عتبة الجوع والتي يعاملها كثير منّا اليوم بكثير من القسوة يصل الى أن يطلب منك أحدهم بأن تكفّ عن تقديم بعض الطعام لها بدعوى أنّها تجلب الاوساخ !
ربما يكون جحودا وربما يكون جهلا بالتاريخ ولكن النتيجة واحدة وهي أن كثيرا من التونسيينيقابلونالبراءة المفرطة للقطط بقسوة مبالغ فيها فان لم تسلم من العنف او القتل فانها ستكون فريسة للجوع وللعطش وللأمراض وهذا مؤشّر خطير في أي مجتمع لانّ هذه القسوة يمكن ان تنتقل ضدّ كلّأشكال الحياة من الأشجار الى البشر فيما بينهم ...
حقيقة لا أعلم بالتدقيق ما موقف تشاريعنا القانونيّة تجاه حماية الحيوانات المدجّنة ولكن أنا مقتنع بأنّها يجب أن تتطوّر في اتجاه يشمل حقّ كل الحيوانات الأليفة في عيش كريم فليس مقبولا مثلا ان تقوم بعض البلديّات بقنص الكلاب فهذا العنف يمرّ من غير أن نشعر الى الأطفال ليتحول شيئا فشيئا الى ثقافة سيئة وللعلمفانّ عشرتنا للكلاب سبقت القطط بفترة طويلة و هي تعود الى فترة ما قبل اكتشاف الفلاحة ,عندما كان الانسان بدائيا ,حينها قام هذا الانسان بتدجين الذئب ليعينه على صيد الطرائد البريّة ليتطور شيئا فشيئا جينيّا ليصبح على الهيئة التي نعرفها اليوم ...
بقلم: نبيل بن إبراهم