اختفاء «الأنا الأعلى» في المشهد الدولي فرويد وتآكل النظام العالمي

في سعيه الدؤوب إلى رسم خريطة اللاوعي البشري قدّم

سيغموند فرويد (Sigmund Freud)بناءً ثلاثياً للنفس يكشف عن تعقيداتها الداخلية: «الهو»، ذلك المستودع الخفي للغرائز والدوافع البدائية التي تنبع من أعماق الذات؛ «الأنا»، تلك الأداة التنظيمية المعقدة التي تسعى إلى إقامة توازن حساس بين المطالب الداخلية والضغوط الخارجية؛ و«الأنا الأعلى»، ذلك الضمير الجمعي الصارم الذي يحمل على عاتقه القوانين والضوابط والقيم الداخلية المترسخة في النسيج الاجتماعي.
وبعد مرور أكثر من قرن على هذه النظرية الثورية، لعلّ هذا المنظور النفسي يوفّر زاوية إضافية تساعد على قراءة ما يشهده النظام الدولي من ارتباك وفوضى.ذلك أننا، مع بداية الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، نقف أمام مشهد عالمي معقد تتآكل فيه وظيفة «الأنا الأعلى» الجماعي تدريجياً وبشكل منهجي - أي تلك الآليات والمؤسسات التي كانت تضبط اندفاعات الدول وتكبح نزعاتها التوسعية، من مؤسسات دولية راسخة وقوانين ملزِمة ومعاهدات وتسويات متعددة الأطراف.
وما يتبقى في الساحة الدولية اليوم ليس سوى صخب «الهو» على الساحة الدولية يتصاعد بلا هوادة ، تغذّيه قوميات متشنّجة ومتطرفة، وعقليات قوة متجذرة، وغرائز البقاء السياسي الضيقة التي تتغلب على كل اعتبار آخر.
التلاشي التدريجي لـ «الأنا الأعلى» العالمي
لطالما سار النظام الدولي على أساس تسوية هشة ومتقلبة بين قانون الأقوى الذي يفرض نفسه بالقوة المجردة، وبين تطلّع غامض ولكن مستمر إلى التنظيم والانضباط. فحين أُنشئت منظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945، كانت الغاية الأساسية تتمثل في تجسيد «الأنا الأعلى» العالمي بصورة مؤسساتية ملموسة: إطار معياري شامل يذكّر الدول دوماً بضرورة الانضباط والالتزام، ويرفع سلطان القانون والعدالة فوق منطق القوة العارية، ويجعل من السلم والاستقرار غاية مشتركة تتجاوز المصالح الضيقة.
صحيح أنّ الحرب الباردة التي اندلعت بُعيد ذلك سرعان ما كشفت بوضوح حدود هذه الطموحات النبيلة والمثالية أحياناً، غير أنه ظلّت هناك ساحة دولية يتكلّم فيها القانون والدبلوماسية لغةً مرجعية مُعترفاً بها، حتى لو لم تُحترم دائماً في الممارسة الفعلية.
أما اليوم، فنشهد تآكلاً مقلقاً لتلك الوظيفة التنظيمية الحيوية. ففي غزة المحاصرة، حيث يُنتهك القانون الإنساني الدولي يومياً على مرأى من العالم أجمع، وفي أوكرانيا المدمرة حيث الحرب تستنزف الجميع وتلتهم الموارد والأرواح، لا يظهر لمنظمة الأمم المتحدة أي أثر يُذكر كسلطة أخلاقية أو قانونية فاعلة. بل نواجه مشهداً مؤلماً: قرارات متكرّرة بلا تنفيذ حقيقي، وفيتوهات متبادلة بلا نهاية تشل كل مبادرة، وعجز مؤسساتي أصبح أمراً عادياً ومقبولاً.
لقد بات واضحاً أنّ «الأنا الأعلى» الدولي، الذي كان يُفترض أن يضبط النزعات الحربية ويهذب الغرائز التدميرية، لم يعد سوى صدى بعيد وخافت في عالم يتجه نحو الفوضى.
القانون الدولي في مؤخرة الأولويات: ضعف متنامٍ لآليات الضبط والرقابة
هذا التآكل المقلق لا يقتصر على منظمة الأمم المتحدة وحدها، بل يمتد ليطال جميع البُنى القانونية التي شُيّدت بعناء وصعوبة خلال القرن العشرين: اتفاقيات جنيف التي تنظم قوانين الحرب، ومحكمة العدل الدولية التي تفصل في النزاعات بين الدول، وآليات التحكيم والرقابة الاقتصادية المختلفة، وسلسلة واسعة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
هذه الأدوات القانونية المتطورة، التي استغرق بناؤها عقوداً من المفاوضات والتسويات، لم تعد قادرة على الصمود والمقاومة في عالمٍ لم يعد يعترف بشرعيتها إلا بصورة انتقائية تخدم المصالح الآنية. وقد تجلى هذا الانحدار في ممارسات متعددة ومتكررة تشكل في مجموعها تهديداً وجودياً للنظام القانوني الدولي.
فالتدخلات العسكرية المباشرة بلا تفويض من مجلس الأمن، والعقوبات الاقتصادية الأحادية المفروضة خارج الإطار الأممي، وتوظيف القانون الإنساني كأداة دعائية ووسيلة لتصفية الحسابات السياسية، كلّها شواهد ساطعة على هذا التهميش المنهجي للشرعية الدولية. لقد تحولت القاعدة القانونية، التي كانت تشكل ضمانة الحد الأدنى من الاستقرار والنظام في العلاقات الدولية، إلى مجرد تفصيل ثانوي أمام منطق القوة المهيمن.
في ذلك المكان الذي كان فيه «الأنا الأعلى» الدولي يضبط الاحترام للحدود والقوانين المتفق عليها، بدأ «الهو» الجماعي يفرض حضوره بلا قيد أو رادع، متحركاً بدوافع المصالح الوطنية الضيقة وحسابات سياسية قصيرة المدى، متجاهلاً العواقب البعيدة المدى وتأثيراتها على استقرار النظام الدولي.
هيمنة «الهو» الجماعي: قوميات وغرائز هوياتية منفلتة
الفراغ الخطير الذي تركه التراجع المتسارع لـ «الأنا الأعلى» العالمي سرعان ما ملأه «الهو» الجماعي بكل قوته التدميرية. في لغة التحليل النفسي الدقيقة، يمثل «الهو» الجانب البدائي والغرائزي والرافض بطبيعته لكل قيد أو ضابط خارجي. وعلى رقعة الشطرنج الدولية المعقدة، يتجلّى هذا التحول الخطير في صعود النزعات السيادية المتطرفة، وتنامي الأنظمة الشعبوية التي تستغل المخاوف الشعبية، والعودة العنيفة والمدمرة للهويات القومية الضيقة والإقصائية.
ومن واشنطن إلى موسكو، ومن نيودلهي إلى أنقرة، مروراً بعواصم أخرى ، تتصلّب الخطابات السياسية وتتشدد بصورة مثيرة للقلق: استعادة أمجاد ضائعة مُتخيلة أو حقيقية، وحماية حدود مهددة من أعداء وهميين أو فعليين، وتحصين الجماعة الوطنية ضد عدو خارجي يُصوَّر دائماً كتهديد وجودي. ومع الانخراط المتزايد والمكثف لوسائل التواصل الاجتماعي في هذه اللعبة الخطيرة، تتضخّم هذه النزعات وتتفاقم بوتيرة مذهلة: خطاب مباشر بلا وساطة عقلانية، وانفعالات لحظية متقلبة، وغضب عارٍ من كل منطق، وعواطف جماعية متفجرة تكتسح كل شيء في طريقها.
هنا، في هذا المناخ المحموم، يتفوّق منطق الغريزة البدائية على منطق العقل والحكمة، وتنتصر اللحظة على التاريخ، والعاطفة على التدبر.
تغييب «الأنا» الدولي: استحالة التوازن في عالم متطرف
في التصور الفرويدي، يلعب «الأنا» دور الوسيط الماهر والحكيم، حيث يفاوض بمهارة ودقة بين نزوات «الهو» الجامحة ومطالب «الأنا الأعلى» الصارمة. وإذا نقلنا هذه الفكرة إلى مسرح السياسة الدولية المعقد، كان يُفترض ببعض الدول أو التحالفات الإقليمية أن تلعب هذا الدور التوفيقي الحساس والحيوي بين المصلحة الوطنية المشروعة والقانون المشترك الملزم للجميع.
غير أنّ هذه الأصوات الرصينة والمتزنة تكاد تتلاشى اليوم وسط صخب القوى المتصارعة. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، كان بإمكانه أن يتجسّد كـ «أنا» تنظيمي فاعل ومؤثر، يذكّر المجتمع الدولي باستمرار بالحاجة الماسة إلى التعددية الحقيقية والتحكيم القانوني العادل.لكن انقساماته الداخلية المزمنة، وهوسه الأمني المتزايد، وتبعيته شبه المطلقة للحلف الأطلسي، جعلته مجرد لاعب ثانوي على المسرح العالمي، عاجزاً عن فرض خطاب مستقل وذي مصداقية. وفي السياق ذاته، نجد أن قوى متوسطة أخرى واعدة – كالبرازيل الصاعدة وجنوب أفريقيا ذات التاريخ النضالي– تحاول جاهدة أن تتموضع في هذا الفضاء الوسيط الحرج، لكن مبادراتها تبقى على هامش مشهد دولي تهيمن عليه ضوضاء القوى الكبرى وتحكمه منطق المواجهة.
ارتداد تاريخي: نحو عالم ما بعد القانون
هذا الخلل البنيوي العميق يعكس تراجعاً حقيقياً ومؤلماً في مسار التاريخ الإنساني نحو التحضر والتنظيم. فالقرن العشرون، رغم حروبه المدمرة ومآسيه الإنسانية الفادحة، نجح في إنجاب نظام دولي ظل ينبض، ولو بصعوبة أحياناً، بفكرة القاعدة المشتركة والمصير الواحد للبشرية.
أما اليوم، فنشهد طعناً منهجياً لهذا الإرث الحضاري في جذوره العميقة. إنّ تلاشي «الأنا الأعلى» الدولي لا يعني فقط عجز المؤسسات عن أداء دورها المنوط بها، بل يشير كذلك بتحوّل أعمق وأكثر جذرية في طبيعة الوعي الجمعي للبشرية وعلاقتها بالنظام والقانون.
لقد بدأ خطاب القوة المجردة يتزيّن الآن بشرعية جديدة ومغرية: فباسم السيادة الوطنية المقدسة، والأمن القومي الحيوي، و«إرادة الشعب» المزعومة، تعلن الدول حقاً غير محدود وغير مقيد في ممارسة السلطة وفرض إرادتها. قد يُوصف هذا الوضع بدقة بـ «عودة المكبوت»: فالغرائز السلطوية والهيمنية، التي ضبطها النظام الدولي وهذبها لعقود، تعود اليوم لتفرض حضورها بقوة متصاعدة واندفاع تدميري متنامٍ.
انكسارات التعددية القطبية: من النظام إلى الفوضى
من المؤكد أن العولمة لم تختفِ من المشهد العالمي، لكنها تغيّرت جذرياً في طبيعتها ووظيفتها. لم تعد ذلك الفضاء الواعد للتنظيم المشترك والتعاون البناء، بل تحولت إلى مسرح مفتوح لمنافسة شرسة وبلا قيود أخلاقية أو قانونية. وقد أسفر تعدّد مراكز القوة الحالي – الولايات المتحدة ، والصين ، وروسيا ، والهند ، وقوى إقليمية أخرى متنامية – عن واقع دولي جديد ومعقد يفرض فيه كل طرف روايته الخاصة وقيمه المميزة، من دون قبول أو اعتراف بفكرة معيار أسمى يحكم الجميع.
في هذا العالم المجزأ والمتصارع، تغدو لغة «الأنا الأعلى» التقليدية بلا صدى حقيقي أو تأثير فعلي. فالمأساة في غزة تكشف بوضوح مؤلم الانهيار الكامل للقانون الإنساني الدولي، بينما تفضح الحرب في أوكرانيا العجز المطلق لمنظومة الأمن الجماعي التي كانت إحدى أهم ركائز النظام الدولي. وغداً قد تُظهر أزمات أخرى محتملة – كالتوترات حول تايوان أو النزاعات في بحر الصين الجنوبي – الفشل الذريع لكل آليات الوقاية من النزاعات والتسوية السلمية للخلافات.
نحو المستقبل: سؤال الكارثة والإنقاذ
اختفاء «الأنا الأعلى» الدولي يطرح أمامنا سؤالاً مروّعاً ومحورياً: هل يمكن لعالم بلا كوابح أخلاقية أو قانونية حقيقية أن يتفادى الكارثة الشاملة؟ يذكّرنا التحليل النفسي الفرويدي بحقيقة مهمة: أنّ الفرد الذي يفقد «أناه الأعلى» يظل أسيراً لغرائزه المدمرة ونزواته الهدامة. وإذا أسقطنا هذه الفكرة على المجتمع الدولي الراهن، بدا المستقبل مرسوماً بخطوط قاتمة: مزيد من عدم الاستقرار المزمن، وحروب متكرّرة ومدمرة، وأزمات متواصلة تتفاقم بوتيرة متسارعة.
ومع ذلك، يشهد التاريخ الإنساني الطويل بأنّ أشكالاً جديدة ومبتكرة من التنظيم والحكم غالباً ما تولد وتنبثق من قلب الانهيارات الكبرى والأزمات الوجودية. فقيام منظمة الأمم المتحدة عام 1945 لم يكن في نهاية المطاف إلا نتاجاً مباشراً للفوضى الكونية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية ومآسيها الإنسانية المروعة.
وربما سيتوجب على العالم أن يواجه أزمة غير مسبوقة في تاريخه، أزمة تهدد بقاء الحضارة الإنسانية ذاتها، حتى يجد في نفسه الدافع والقدرة على إعادة ابتكار سلطة معيارية جديدة وفاعلة قادرة على إنعاش «الأنا الأعلى» الجماعي وإحيائه من جديد.
فرويد في القرن الحادي والعشرين: نحو فهم جديد للفوضى العالمية
ليست الاستعارة الفرويدية التي نوظفها هنا مجرد تشبيه أدبي أو مقارنة عابرة. إنها تُضيء بعمق اضطراباً دولياً خطيراً تُهيمن فيه غرائز «الهو» البدائية والمدمرة، فيما يُهمَّش «الأنا» العاقل والمتوازن ويذوب «الأنا الأعلى» المنظم والضابط تدريجياً ولكن بشكل منهجي.
كان يُفترض أن تجسّد منظمة الأمم المتحدة والقانون الدولي والتعددية الحقيقية هذه الوظيفة التنظيمية الحيوية في المجتمع الدولي، لكن أفولها المتسارع والمؤلم يفتح الباب أمام زمن الارتداد الحضاري، ذلك الزمن الذي تتغلب فيه الهويات المتشنجة والمنغلقة على العقل المشترك والحكمة الجماعية.
قد نكون بالفعل أمام تحوّل أنثروبولوجي عميق وجذري: فغياب «الأنا الأعلى» الدولي ليس مجرد فشل مؤسساتي عابر أو أزمة مؤقتة قابلة للحل، بل يمثل علامة دالة على دخول البشرية عصراً جديداً وخطيراً بلا ضوابط حقيقية، عصراً تسود فيه السرعة المحمومة على الذاكرة والتأمل، والعاطفة الجياشة على العقل الهادئ، والقوة العارية على القانون العادل.
في عالم كهذا، لم يعد التاريخ الإنساني يسير في مسار خطي متقدم نحو مزيد من التحضر والتنظيم؛ بل صار مساراً متشنجاً ومتكسراً ومتشظياً، يتأرجح بين لحظات من الأمل ومساحات واسعة من اليأس.
اللغز المركزي لعصرنا
ويبقى السؤال المركزي والمصيري معلقاً في الهواء كسيف دموقليس: هل ستتمكن الإنسانية، وسط هذا الضجيج المدوي والفوضى المتصاعدة، من استعادة رمزٍ جامع وقوي يضبط غرائزها التدميرية ويهذب نزواتها الهدامة؟ أم أنّ قرننا الحادي والعشرين سينكتب حتماً تحت راية «الهو» المنتصر والمهيمن، في عالم بلا أفق واضح سوى المزيد من الفوضى التي تصنعها بأيديها القوى المنفلتة من كل رادع؟
إن الإجابة على هذا السؤال الوجودي لن تحددها النظريات وحدها، بل ستكتبها الأحداث القادمة وخيارات الشعوب والقادة في اللحظات الحاسمة التي تنتظرنا جميعاً.

بقلم: أمين بن خالد 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115