تجربتي مع حق النفاذ إلى المعلومة ... أو الحق اليتيم

نصّ دستور 2014 في فصله الثاني والثلاثون على

" تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة".و استنسخ دستور 2022 نفس الجملة في فصله الثامن و الثلاثون.
تبعا لهذا التنصيص الدستوري، صدر القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 في 24 مارس 2016 لينظم حق و آليات النفاذ إلى المعلومةوتركيبة هيئة النفاذ إلى المعلومة (أسميها في بقية النص "الهيئة") و العقوبات المسلطة على عدم احترام هذا الحق. و تم انتخاب أعضاء الهيئة من قبل مجلس النواب في 18 جويلية 2017 ليباشروا مهامهم.
بالأمس، تم تداول خبر غلق مقر الهيئة، بعد أن تم تجميدها عمليا منذ أشهر بعدم انتخاب رئيس و نائب رئيس جديدين لها بعد مغادرة من كان يشغل المنصبين لمهامهم.
تاريخيا، كان هذا مسار هيئة النفاذ إلى المعلومة ... هيئة، اشهد بحكم تجربتي الشخصية معها، أنها عملت وفق القانون عندما كان الجميع يتبجح بإرساء هذا الحق و حين يرفض عمليا وجودها أو يرفض قراراتها.
اليوم، لم نعد في حاجة لدليل على أن السلطة القائمة تمارس تعتيما تاما على المعلومة. يكفي أن نعاين تعاملها مع الاعلام الوطني، عموميا كان ام خاصا (في الواقع هو رفض التعامل و ليس تعاملا)، لنفهم أنها لا تعير بالا لهذا الحق الدستوري، فيكون غلق الهيئة نتيجة طبيعية للذهنية التي تحرك هذه السلطة.
لكن، و من حكم التجربة، هذه الذهنية ليست بجديدة على كل من يمسك سلطة ... مهما كانت هذه السلطة... بما في ذلك السلطة التي أرست هذه الهيئة. في المحصلة، الكل كان يرفض احترام الحق في النفاذ إلى المعلومةإذا ما مسّ بمصالحه و توازناته.
تجربتي مع حق النفاذ إلى المعلومةبدأت مع مجلس نواب الشعب.
بتاريخ25 ديسمبر 2020 تقدمت بمطلب نفاذ إلى المعلومة إلى رئيس مجلس نواب الشعب (راشد الغنوشي آنذاك) لمدي بقائمة النواب الذين وردت بشأنهم مطالب رفع حصانة. قد يتساءل البعض، لماذا أتقدم بهذا المطلب و انا نائب ؟ بباسطة لأنني جوبهت بالرفض حين طلبت المعلومة بصفتي النيابية فالتجأت للاجراءات القانونية.
رفض رئيس المجلس مدي بالمعلومة متعللا بأنها تمس المعطيات الشخصية للنواب. لن أستفيض هنا في التعلات و المبررات لأن الهيئة حسمت فيها. طعنت في رفضه لدى هيئة النفاذ إلى المعلومة و أنصفتني في قرارها بتاريخ 7 جويلية 2023 و قضت بإلزام مجلس النواب بمدي بالمعلومات المطلوبة. تشبث الأخير بالرفض و استأنف قرار الهيئة أمام المحكمة الإدارية مثلما يتيح ذلك القانون. الملفت أن من استأنف ليس راشد الغنوشي،إذ كان المجلس قد حلّ حينها، بل ابراهيم بو دربالة. و هذا دليل على أن الأمر لا يتعلق بأشخاص أو بحسابات سياسية فقط، بل بذهنية راسخة لدى من يمتلك السلطة،بأنه يمتلك بل و يستأثر بالمعلومة وحده لا شريك له.
تجربتي الثانية كانت مع هيئة الانتخابات، و تحديدا في 19 سبتمبر 2022 حيث طلبت مدي برأيها الاستشاري حول مشروع المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلق بتنقيح قانون الانتخابات (لأن القانون يفرض استشارة هيئة الانتخابات في كل نص قانوني يخص الانتخابات و الاستفتاء).
طبعا، امتنعت الهيئة عن مدي بالمعلومة المطلوبة مما يعتبر قانونا رفضا ضمنيا طعنت فيه لدى هيئة النفاذ إلى المعلومة و أنصفتني بتاريخ 7 جويلية 2023 بإصدار قرار يلزم هيئة الانتخابات بمدي بالمعلومات المطلوبة.طبعا، استأنفت الأخيرة هذا القرار أمام المحكمة الإدارية متعللة (وجب التركيز هنا) بان مدي بهذه المعلومة، أي برأيها الذي قدمته لرئيس الجمهورية، يمس بالأمن القومي. نعم، الحق في معلومة متعلقة بالانتخابات يمس بالأمن القومي في نظرها.
أنصفتني المحكمة الإدارية استئنافيا في القضيتين و حكمت بتاريخ 5 جويلية 2025 بتثبيت قرار هيئة النفاذ إلى المعلومة و الحكم بوجوب مدي بالمعلومات المطلوبة في الملفين.
اربع سنوات و نصف في المطلب الأول و قرابة الثلاث سنوات في الثاني لأحصل على حكم نهائي.... هذه آجال الحق في النفاذ إلى المعلومةفي بلد القانون و المؤسسات.
صدر الحكم و لكنني لن أحصل على المعلومة. انا إزاء سلطة تشريعية و هيئة انتخابات يتمتع أعضاءها بالحصانة. ما يتيحه لي القانون هو القيام ضد رئيس كل منهما بدعوى جزائية في التغريم بمبلغ يتراوح بين 500 و 5000 دينار. فقط. هذا سعر حق النفاذ إلى المعلومة في القانون التونسي. و في الحالتين التي ذكرت، يجب ان أنتظر أن تنتهي مهام براهيم بودربالة و فاروق بوعسكر لينفّذ القانون بما أنهما يتمتعان اليوم بالحصانة الجزائية.
تجربتي الثالثة مع هذا الحق من المضحكات المبكيات، أو مما ينطبق عليها قول الشاعر: فيك الخصام و أنت الخصم و الحكم.
تضمّن الأمر الرئاسي عدد 506 المؤرخ في 25 ماي 2022 و المتعلق بدعوة الناخبين للاستفتاء على مشروع دستور 2022 الجملة التالية "و بعد الطلاع على رأي المحكمة الإدارية". توجهت تبعا لهذا التنصيص للمحكمة الإدارية بمطلب نفاذ إلى المعلومة متعلق بتمكيني من تاريخ و نص الرأي التي أبدته المحكمة لرئيس الجمهورية.
ككل مرّة ووجهت بالصمت و التجاهل، و ككل مرة توجهت لهيئة النفاذ إلى المعلومةلتنصفني و تقضي في قرارها بتاريخ 19 أكتوبر 2023 بإلزام المحكمة الإدارية بمدّي بالمعلومات المطلوبة. فاستأنفت المحكمة الإدارية هذا القرار. أمام من ؟ أمام المحكمة الإدارية ... أي أمام نفسها.
تعللت بأنها غير خاضعة لقانون النفاذ إلى المعلومة. نعم، بكل بساطة، المحكمة الإدارية المسؤولة عن احترام الحق في النفاذ إلى المعلومة تزعم أنها فوق هذا الحق.
استئنافها كان بتاريخ 16 نوفمبر 2023 و لازلت أنتظر إلى اليوم تعيينها جلسة الاستئناف أمامها، لتقضي بنفسها على نفسها. و إذا قضت لصالحي و لم تمكني من المعلومات المطلوبة، ومرة أخرى، لن يمكنني اللجوء للقضاء العدلي، لأن القضاة و على رأسهم رئيس المحكمة يتمتعون بالحصانة.
ثلاث تجارب: سلطتان (تشريعية و قضائية) و هيئة "مستقلة". جميعها رفضت مدي بمعلومة، جميعها رفضت تطبيق قرارات هيئة النفاذ إلى المعلومة ... و الأغلب أن جميعها لن تطبق قرار المحكمة الإداريّة.
النفاذ إلى المعلومة حق دستوري، نعم. لكنه حق لا يعترف به أحد، لا واضع الدستور و لا واضع القانون و لا المقسم على احترام الدستور والقانون و لا الضامن لتطبيق الدستور و القانون.
خلل الانتقال الديمقراطي العميق أن الحقوق و الحريات بقيت نصوصا و مبادئ قانونية، و لم تسكن الأذهان و المهجات و العقليات والممارسة.
الكلّ يستعملها حين يحتاجها، أو حين تنصفه، و نفس الكل يدير ظهره لها حين تحد من سلطته و نفوذه و حساباته.بواك عند فقدها،متعسفون عند الامساك بها.
للأسف، كلّ ما كتبناه، بقي حقوقا أريد بها باطل.

بقلم: نبيل حاجي الأمين العام التيار الديمقراطي 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115