بمجرد صدور نتائج الامتحانات الوطنية: نسب نجاح يُحتفى بها، معاهد تُعدّ محطّ الأنظار والتقديروجهات تُقارن بأخرى في سباق يوحي، في ظاهره، بكشف الحقيقة التربوية. غير أن هذا الزخم الرقمي، بما يصاحبه من ترتيب وتباهي وتصنيف، يُخفي تفاوتات بنيوية عميقة، ويُقصي أسئلة جوهرية حول جودة التعليم، وعدالته، ووظيفته المجتمعية.
ورغم تعدّد المنابر التي يُطرح فيها موضوع النتائج، يظلّ النقاش محصورًا غالبًا في قراءة ظرفية وأرقام منفصلة عن سياقاتها العميقة. ويُعاد تدوير خطابات جاهزة، تستمد مشروعيتها مما يُعرف بـ"الحسّ المشترك" (le sens commun)، تُكرّس رؤى تبسيطية تقاوم المساءلة حول مفاهيم مثل "النجاح" و"الاستحقاق"، فتتحوّل الأرقام من أدوات تشخيص إلى واجهات تُخفي التفاوت وتُشرعنه تحت غطاء الحياد.
في هذا المقال، نقترح قراءة نقدية لمنطق التقييم القائم على المقارنات الرقمية، ونفكك ما يُخفيه من فوارق وسياقات مهمّشة. كما نطرح رؤى بديلة تُعيد الاعتبار للمعنى التربوي، ولروح المؤسسة العمومية كفضاء للإنصاف والتكافؤ، لا مجرّد حلبة للتباهي الإحصائي أو مرآة لمجتمع غير متكافئ يُعيد إنتاج نخبه عبر أرقام تبدو موضوعية، لكنها ليست بريئة.
1) الأرقام: أدوات ضرورية... لكنها لا تقول كل شيء
لا شك في أن الإحصائيات والمؤشرات الرقمية تظل ضرورية في التخطيط التربوي، فهي تزوّدنا بمعطيات تساعد على فهم واقع التعليم وتوجيه السياسات. لكنها تبقى أدوات محدودة، خصوصًا حين تُستعمل بمعزل عن سياقاتها الإنسانية والاجتماعية والتربوية.
فالأرقام لا "تتحدث" من تلقاء نفسها؛ بل تُنتَج وتُفسَّر داخل منظومات خطابية وسياسية، وقد تُوظّف أحيانًا لتبرير خيارات، أو لتجميل صورة، أو حتى لإخفاء واقع غير مريح.
المنهجية العلمية الرصينة تقتضي دمج البيانات الكمية بالمعطيات النوعية: شهادات الفاعلين، ظروف المؤسسات، السياقات الاجتماعية والاقتصادية، والموارد المتاحة. فالتقييم الحقيقي لا يقوم فقط على مخرجات رقمية، بل ينبني على مسار تعليمي معقّد، لا تُختزل معانيه في ترتيب أو نسبة مئوية.
إن أحد أبرز ما تؤكده توصيات تقرير اليونسكو الصادر سنة 2021 حول مستقبل التعليم في أفق 2050، هو ضرورة إعادة بناء التعليم على أساس إنساني، يُركّز على العلاقة بين المعلّمين والمتعلمين، وعلى المعنى، والانتماء، والعدالة. فالمؤشرات وحدها لا تصنع تعليمًا عادلًا، إذا ما غابت عنها الروح الإنسانية التي تضع المتعلّم في قلب العملية التربوية لا على هامش جدول إحصائي.
2) نتائج الباكالوريا والمقارنات بين المعاهد: ظاهرها التنافس وباطنها الإقصاء
منذ سنوات، تحوّل التقييم التربوي في تونس إلى عرض سنوي تُقدَّم فيه نتائج الباكالوريا كأنها "بطولة وطنية" بين المعاهد والجهات. غير أن هذا التنافس، الذي يبدو مشروعًا في ظاهره، يُخفي منطق فرز طبقي ومجالي لا يعبأ بالفوارق البنيوية في شروط العمل والتعلّم.
نأخذ مثالًا على ذلك ما كشفته دراستنا حول نتائج باكالوريا 2015، حين سُجّل معهد رقادة بالقيروان ضمن قائمة المعاهد "متدنية النتائج"، ما استوجب تدخلًا خاصًا من وزارة التربية. وقد كُلفنا حينها، بصفتنا مستشارًا عامًا في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي، بإجراء تحليل ميداني لهذه الوضعية .
بيّنت الدراسة أن المعهد يتزود من إعدادية وحيدة، تتغذى بدورها من عشر مدارس ابتدائية ريفية، تعاني معظمها من ضعف التأطير في مادة الفرنسية. هذا الضعف اللغوي التأسيسي يتفاقم عبر السنوات، ليُفاجَأ التلميذ في التعليم الثانوي بمواد علمية تُدرّس بلغة لم يتقنها بعد.
خلال إحدى المقابلات، لخّص مسؤول جهوي الإشكال بالقول: "منذ السنة الثالثة ابتدائي، يتبيّن ضعف التلاميذ في اللغات، ويتحوّل لاحقًا إلى ضعف في العلوم". ويتأكّد ذلك من خلال ما ورد في الصفحة 40 من المشروع الجهوي للتربية بالقيروان، والذي يقرّ بأن نسب التمكن في اللغتين العربية والفرنسية تتراجع بين السنتين الثانية والخامسة، مما ينعكس سلبًا على أداء التلاميذ في الرياضيات، حيث تنخفض النتائج من 80% إلى أقل من 40%..
ورغم كل هذه المحددات البنيوية والاجتماعية، يُقارن هذا المعهد بمعاهد متمركزة في بيئات مستقرة، حيث يدرس التلميذ منذ الابتدائي تحت إشراف تربوي قار، ويحظى بدروس دعم خاصة، ومتابعة أسرية يومية.فهل ما نراه هو تقييم منصف للأداء؟ أم إعادة إنتاج مموّهة للفوارق الاجتماعية والمجالية في هيئة أرقام؟
3) أرقام تُضلّل بدل أن تُفسّر
من ملامح التقييم الرقمي غير المنصف أيضًا، تكرار أرقام "صادمة" تُستعرض كل سنة دون تفسير. من ذلك، الرقم المتداول حول آلاف التلاميذ الذين يتحصلون على صفر في اختبار الفرنسية.مثال ذلك دورة 2022، حين أُسندت أصفار لأكثر من 7500 مترشّح. تحوّل الرقم إلى مادة إعلامية مثيرة، تُوظّف أحيانًا للدلالة على "انهيار المستوى"، دون أن يُطرح السؤال الجوهري: من هؤلاء؟ من أين يأتون؟ كم ساعة فعلية قضوها في تعلّم الفرنسية؟
تُبيّن بيانات وزارة التربية، والمشروع الجهوي للتربية بالقيروان، أن نسبة كبيرة من هؤلاء التلاميذ ينحدرون من مدارس ريفية تفتقر إلى مدرّسي الفرنسية، خاصة في المرحلة الابتدائية. هكذا، يصبح التلميذ ضحية إخفاق مؤسساتي سابق، ثم يُدان لاحقًا بواسطة أدوات تقييم لم تأخذ بيده أصلًا.
وفي هذا السياق، يلفت الباحث منصف الخميري الانتباه، في أحد مقالاته ، إلى أن التفاوت في النتائج لا يتوقف عند الأصفار، بل يمتد إلى اختلالات هيكلية في التوجيه الجامعي. فالشعب العلمية (الطب، الهندسة...) تذهب غالبًا إلى تلاميذ الجهات الساحلية، بينما يُوجَّه أغلب تلاميذ الجهات الداخلية نحو شعب أدبية واقتصادية ذات آفاق محدودة. مثال ذلك: في سنة 2023، لم يتجاوز عدد الناجحين في شعبة الرياضيات بولاية القصرين 88 تلميذًا، مقابل 536 في صفاقس 1.
هكذا تتحوّل المؤشرات الرقمية، حين تُفصل عن سياقها الاجتماعي والتربوي، إلى أدوات تحجب الواقع لا تكشفه، وتُعيد إنتاج منطق التهميش بدل مقاومته.لذلك، لا بد من إعادة الاعتبار للأرقام كأدوات لفهم الواقع، لا للحكم عليه، وتطوير سياسات تعليمية تراعي العدالة المجالية والاجتماعية، وتضمن تكافؤ الفرص لا تراتبية النتائج.
4) الأرقام اللامعة، البيداغوجيا المنسية، والأسئلة المؤجلة
أليس من المشروع التساؤل عن نتائج نهائية تشهد تحوّلات مفاجئة يصعب تفسيرها تربويًا؟ ألا يثير الانتباه أن يتحصّل تلاميذ متفوّقون جدًا خلال السنة الدراسية على أعداد ضعيفة جدا أو حتى أصفار في مواد مثل الرياضيات في مناظرتي السيزيام أو النوفيام؟ وكيف لمؤسسة ظلت لسنوات في مراتب متأخرة أن تتصدر النتائج الوطنية فجأة؟ أو لجهة غابت طويلًا عن الصدارة أن تحقق قفزات غير متوقعة؟
فهل نحن فعلًا أمام ديناميكيات تطوير حقيقية؟ أم أمام مؤشرات صامتة تستدعي تدقيقًا وتأملًا أعمق؟ وما دلالة أن يحقق معهد أو مدرسة نسبة نجاح 100%؟ هل هو إنجاز تربوي فعلي، أم مجرد واجهة رقمية تُخفي آليات إقصاء ممنهجة؟
في ظل مناخ يهيمن عليه هوس الترتيب والمقارنات الرقمية، تحرص بعض الأطراف داخل المؤسسات التربوية على إبراز صورة مثالية لأدائها، حتى لو تطلّب الأمر اللجوء إلى ممارسات غير معلنة. قد تتضمن ضغوطًا ضمنية على التلاميذ أو أولياء الأمور، انتقاءً ممنهجًا للمترشحين، أو ترتيبات غير شفافة في سياق الامتحانات، ما يستوجب وقفة تأمل في العوامل الخفية وراء هذه النتائج.على سبيل المثال، عقب إعلان نتائج مناظرة "النوفيام" لسنة 2025، تداول مدير إحدى المؤسسات تدوينة فايسبوكية، يتباهى بنسبة نجاح 100%، غير أنه لم يذكر أن عدد المترشحين لم يتجاوز عشرة فقط من بين أكثر من مائة تلميذ مرسم بالسنة التاسعة، بعد أن تعرّض العديد منهم لضغوط مباشرة أو رسائل مبطنة أثنَتْهم عن التسجيل.
ولا تقتصر هذه الممارسات على التعليم الإعدادي فحسب، بل تمتد أيضًا إلى التعليم الابتدائي، لاسيما في القطاع الخاص، حيث تُبنى سمعة المؤسسات على عدد المقبولين في المدارس الإعدادية النموذجية. هذا السباق نحو النتائجيدفع بعض الإدارات إلى اعتماد آليات انتقائية تركز على التلاميذ الأقدر على النجاح أو على تحمّل كلفة الدروس الخصوصية، مع إقصاء غير مباشر للفئات الأضعف.
في هذا السياق، يتحوّل التلميذ من متعلّم يستحق المرافقة والدعم إلى مجرد رقم ضمن حملة تسويقية. تُهمل البيداغوجيا فعليًا، ويفقد التقييم جوهره التربوي ليصبح أداة تلميع تُضخّم الفوارق بدل العمل على تقليصها. لم يعد النجاح نتاج مسار تعليمي تراكمي، بل تحوّل إلى منتج رمزي يُسوَّق إعلاميًا، وتُبنى عليه مراتب وشرعيات وهمية، في زمن رقمي تخفي فيه الأرقام الواقع أكثر مما تكشفه.
......
5) أرقام التوجيه إلى النموذجي : مؤشرات على خلل في القواعد أم مرونة في التصرّف؟
تُبرز أرقام التوجيه إلى الإعداديات النموذجية بعد مناظرة السيزيام مفارقة لافتة، ليس فقط من حيث تباينها الكبير بين سنة وأخرى، بل أيضًا من حيث ما تكشفه من غياب قاعدة مستقرة في تنظيم هذه العملية. فالأرقام هنا لا تُجمّل المشهد بقدر ما تكشف اضطرابه، وتُعيد فتح النقاش حول معايير القبول وجدوى المناظرة نفسها.فبين سنتي 2017 و2025، سجّلت نسب التوجيه تفاوتًا حادًا:
• سنة 2017: بلغت نسبة القبول 92%
• سنة 2018: تراجعت إلى 41.20%
• سنة 2019: ارتفعت إلى 81.68%
• سنة 2020: انخفضت إلى 68.65%
• سنة 2021: بلغت ذروتها بنسبة 97.81%
• سنة 2024: فاقت 160% بعد الاستجابة لضغط اجتماعي واسع
• سنة 2025: بلغت 69.7% عند إعلان النتائج بعَتبة 15/20، لكنها مرشّحة لتتجاوز 100% بعد القرار الأخير بالنزول إلى 14/20.
هذا التذبذب، الذي لا يرتبط فقط بمستوى أداء التلاميذ، يُثير تساؤلات حول غياب مبدأ قارّ وشفاف في التوجيه. ففي مناظرات أخرى، كمدارس الهندسة أوالتوجيه الجامعي أو التكوين المهني، يُعتمد مبدأ واضح: القبول حسب الترتيب وفي حدود طاقة الاستيعاب، دون عتبات مسبقة. أما في مناظرتي السيزياموالنوفيام، فيُعاد سنويًا الجدل ذاته حول المعدلات المستوجبة، وتُتداول مواقف متضادة بين من يُدافع عن "الجودة والاستحقاق" ومن يُنادي بـ"الإنصاف وتكافؤ الفرص"، دون مساءلة منطق التوجيه نفسه.ومع تكرار هذه الآراء والمواقف في وسائل الإعلام، تُعاد صياغتها في شكل «خطابات جاهزة» تستمدّ مشروعيتها من «الحسّ المشترك»، فتتحوّل إلى قوالب ذهنية تُعيق التفكير النقدي، وتكرّس ثنائيات تبسيطية بين القبول بـ15/20 أو النزول إلى 14/20، وكأن النقاش لا يتعدى حدود هذه العتبات.
لكن اللافت أن المنشور الوزاري المؤرخ في 28 أفريل 2021 (الفصل 16جديد) ينص بوضوح على إمكانية "قبول المترشحين المرتبين تفاضليًا ضمن مجموعة المؤهلين الأوائل إلى حد استنفاد طاقة الاستيعاب، على ألا يقل المعدل المطلوب عن 14 من 20."هذا المبدأ، إذا طُبّق بانتظام، يُجنّب المنظومة التربوية منطق الاستثناء والضغط الظرفي، ويُعيد النقاش إلى أرضية منصفة وواضحة.
إن الالتزام بهذه القاعدة لا يُعد حلاً تقنيًا فحسب، بل خيارًا تربويًا يُعزّز الشفافية، ويُخفّف من الضغط المتكرر على الأسر، ويُجنّب الوقوع في جدل موسمي يُعيد إنتاج الفكرة ذاتها بألفاظ مختلفة. فالأجدى، بدلًا من إعادة تدوير النقاش العقيم، أن يُعاد تنظيم المسألة على أسس قانونية واضحة وتربوية منصفة، تجعل من الأرقام أداة لفهم الواقع، لا لتكريسه أو إخفاء تعقيداته.
6) حين تُهمل المعايير الأساسية: النقل، التأطير، البيئة
في خضم السباق المحموم على ترتيب المعاهد والجهات، تُهمَل واحدة من أهم زوايا النظر إلى جودة التعليم: شروط التعلّم اليومية، المادية والبشرية، خاصة في المناطق الريفية والمهمّشة.
خلال لقاء بؤري مع عدد من مديري ومربي جهة القيروان، تكررت الشهادات حول ما يُعتبر رسميًا "صعوبات ظرفية"، لكنه أصبح عمليًا عائقًا بنيويًا يهدد الحق في تعليم منصف. ومن أبرز هذه العوائق: تدهور النقلالمدرسي . ففي مؤسسات ريفية كثيرة، يقطع التلاميذ أكثر من 5 كيلومترات مشيًا على الأقدام يوميًا، دون وسائل نقل آمنة أو منظمة. يخرجون في الظلام فجرا ويعودون في الظلام مساءً. كما وصف أحد المديرين: "يأتي التلاميذ في الظلام ويرجعون في الظلام."وتشير بيانات المشروع الجهوي للتربية بالقيروان إلى أن هذه الوضعية تشمل أكثر من 60% من تلاميذ بعض المؤسسات. يتفاقم الوضع مع غياب المبيتات والمطاعم وقاعات المراجعة، ما يدفع التلميذ إلى قضاء ساعات طويلة في الشارع أو في أماكن غير مؤطرة، بما يضعف قدرته على التركيز، ويزيد من خطر الانقطاع.
لا تقف الأزمة عند ضعف البنية التحتية، بل تمتد إلى هشاشة التأطير التربوي. فالمعاهد المصنّفة "متدنية النتائج" غالبًا ما تكون محطات عبور للمدرّسين، حيث يغيب الاستقرار وتُعيق الاضطرابات المتكررة بناء علاقة متينة مع التلاميذ والأسر.
وفي أقسام الباكالوريا نفسها، تُسند الدروس أحيانًا إلى نوّاب أو متربّصين لا يلتحقون إلا بعد أسابيع أو أشهر من بداية السنة، مما يُربك النسق البيداغوجي ويُضعف المتابعة.
هذه المعطيات لا تلتقطها الأرقام، لكنها تمثل الواقع الفعلي للمدرسة العمومية في مناطق التهميش. ووسط كل هذا، يصبح الخطاب الرقمي واجهة زائفة تُخفي مأساة صامتة، وتُنتج اللاعدالة باسم التقييم.
7) نحو تقييم منصف: المدرسة ليست مسابقة
ليس المطلوب اليوم إلغاء الأرقام، بل مساءلة استخدامها، والخروج من منطق التراتب الرقمي الذي يقيس الأداء بأدوات مجتزأة، غالبًا ما تكون معزولة عن سياقاتها الاجتماعية والتربوية.
لم يُفضِ الهوس بالمقارنات إلى فهم أعمق للواقع، بل حال دون تشخيص أسبابه البنيوية واقتراح حلول ملموسة. والأسوأ أنّ هذه المقارنات، بما يرافقها من خطابات نمطية، أصبحت جزءًا من الثقافة السائدة، تُكرَّر في كل مناسبة بنفس الصيغ الجاهزة: "تغيير منوال التنمية"، "إطلاق إصلاح شامل"، "تراجع المصعد الاجتماعي"... لقد أصبحت هذه اللغة الجوفاء، بتكرارها وغموضها، حاجزًا يمنع التفكير في حلول واقعية تراعي التفاوتات المجالية والاختلالات البنيوية، وتحرم الفضاء التربوي من النقاش الصريح والناجع.
لكن، في مواجهة هذا الانغلاق، لا تغيب عن المشهد التربوي بعض التجارب المضيئة، التي تذكّرنا بأن الإمكان قائم حتى في أقسى الظروف. تجربة معهد فرحات حشاد بحفوز (القيروان) في باكالوريا 2015 تُعدّ مثالًا حيًّا على نجاح ممكن وواقعي. فقد تجاوز نسبة 53% في النجاح، متقدّمًا على مؤسسات أكثر حظًا من حيث الموارد والدعم، بفضل قيادة مسؤولة وروح جماعية فعّالة داخل المؤسسة.مدير المعهد لم يعتمد على تعليمات فوقية أو خطط إنشائية، بل بنى مناخًا قوامه الثقة، والتشارك، والعلاقات اليومية المتينة. إلى درجة أن الزائر لا يميّز بين المدير والقيم العام، بفعل الحضور الجماعي في كل التفاصيل. وقد تطوّع 53 مدرسًا من أصل 56 لتقديم دروس دعم خارج الجداول الرسمية، في مبادرة يومية لا رمزية، رافقوا فيها التلاميذ داخل القسم وخارجه، في علاقة تعليمية تقوم على الحضور لا التلقين، وعلى التفاهم لا التراتب.هذه التجربة تذكّرنا أن المدرسة ليست رقمًا في جدول، بل نسيج من المعنى، والتفاعل، والمسؤولية المشتركة. وعندما يتحرر التقييم من الأرقام الجافة ليُصغي إلى السياقات والأساليب والنيات، يمكن للمؤسسة التربوية أن تُصبح فضاء حيًا، قادرًا على بناء الثقة وتجديد الأمل، لا تثبيت مراتب وهمية في سباق لا يعترف بالعدالة.
خاتمة: من ملاحقة الأرقام إلى استعادة المعنى
في كل موسم امتحانات، تتصدّر الأرقام واجهة النقاش التربوي والإعلامي: نسب تُقارن، معدلات تُرفع، معاهد تُصنّف، في مشهد أشبه ببطولة وطنية خفيّة يُقاس فيها الأداء التربوي بالنجاح العددي، لا بجوهر المدرسة كمؤسسة تربوية واجتماعية.لكن المدرسة ليست مضمار سباق، ولا المتعلّم عدّاءً. فما يُقصى في هذا المنطق التنافسي هو ما يجعل المدرسة مدرسة:العدالة، والمعنى، وروح الجماعة.
لقد آن الأوان لتجاوز وهم المقارنات الرقمية، التي تُفرغ التقييم من أبعاده الإنسانية والتربوية، وتحصر العمل التربوي في لحظة استعراضية مؤقتة. فالأرقام ليست بريئة، حين تُستخدم لإخفاء الفوارق البنيوية، أو لإعادة إنتاج الامتياز القائم على الموقع الاجتماعي والجغرافي. إن التقييم العادل لا يُقاس بالمعدلات فقط، بل بمدى الإنصاف في توزيع الفرص والموارد، وبقدرة المدرسة على المرافقة والاحتضان.
في هذا السياق، يُعدّ تقرير اليونسكو بعنوان "وضع تصوّرات جديدة لمستقبلنا معًا: عقد اجتماعي جديد من أجل التربية والتعليم"مرجعية أساسية، إذ لا يكتفي بمعالجة أعطاب التعليم بحلول تقنية ظرفية، بل يدعو إلى تحوّل جذري في فلسفة التربية، يقوم على إعادة تأسيس المدرسة كفضاء إنساني تضامني، يُناهض منطق السوق والسلعنة، ويُعيد للتعليم معناه الجماعي وبعده المعرفي العادل. فالعقد الاجتماعي الجديد الذي يقترحه التقرير لا يقوم على تصنيف المتعلمين أو ترتيب المؤسسات وفق الأرقام، بل يُبنى على عدالة تربوية تُقدّر الفروقات، وتُثمّن الجهد، وتضمن توزيعًا منصفًا للفرص والموارد. وهو لا يُنكر قيمة التميّز الفردي، لكنه يُعيد التوازن بين روح المنافسة والعمل الجماعي، وبين الاستحقاق الفردي والتضامن المدرسي، في أفق مدرسة تُنصف الجميع ولا تُقصي أحدًا.
وقد لمسنا ملامح هذا الأفق في تجارب ميدانية تونسية ملهمة، مثل تجربة معهد فرحات حشاد بحفوز، الذي تصدّر الترتيب الجهوي رغم الظروف الصعبة، حيث تحوّل التحدي إلى مشروع جماعي ناجح بفضل الثقة، والتطوّع، والعمل التشاركي. وهي من المبادرات التي تعكس ما يمكن أن يتيحه الفعل التربوي من تحوّل إيجابي، حين يُبنى على الثقة والانتماء والمسؤولية المشتركة، بدل انتظار الحلول المركزية أو الاكتفاء بالشكوى من الواقع. يُؤكّد هذا النموذج أن النجاح الحقيقي لا يُختزل في الأرقام فقط، بل في قدرة المدرسة على خلق الانتماء، وبثّ الأمل، وبناء المسؤولية المشتركة.
ومن الجدير أن تحظى مثل هذه التجارب بالأولوية في التغطية الإعلامية والاهتمام المجتمعي، لا باعتبارها بديلًا وحيدًا، بل لأنها مؤشرات واقعية على إمكانيات التحوّل من الداخل، بعيدًا عن الاحتفاء بنتائج عددية قد تبدو لامعة، لكنها تفتقر في كثير من الأحيان إلى المعنى التربوي العميق والبعد الإنساني.
فلنكفّ عن ملاحقة الأرقام الخادعة، ولنُعد الاعتبار للتجارب التي تُبنى بالصبر والمعنى والعملالجماعي . فالمدرسة، في جوهرها، ليست مسابقة، بل فعل جماعي من أجل المستقبلولا إنصاف فيها دون عدالة، ولا جودة دون ثقة، ولا أمل فيها دون الاعتراف بكل من يسهم، كل يوم، في صناعة المعنى.
مصطفى الشيخ الزوالي