وتاريخ الزمن الراهن أيضا، على متابعي بحوثه القيمة في مضامينها،البديعة في أسلوب نسجها، تصوّرا تركيبيا تعقّب زاوية طريفة وغير مدروسة في شخصية الحبيب بورقيبة الزعيم الوطني وباني دولة الاستقلال ورئيسها الأول، تمثل في ما أسماه بـ "اشتباك التاريخ بالملحمة" في شخصية "بورقية المؤرخ" بين سنوات 1956 (تاريخ استقلال البلاد) و1981 (تاريخ فشل دولته في الاذعان لمقتضيات التعددية السياسية وانجاح مسار التداول السلمي على الحكم والتأسيس لممارسة الديمقراطية.)
إطلالة خاطفة على لوحة المفاتيح المنهجية
ينبغي التشديد بداية على أن ما تصدى فتحي لسير لإنجازه لم يشكل مبحثا عاديا تحكمه منهجيا خطة تطوّرية أو محورية، على شاكلة ما هو مبذول في معظم بحوث أضرابه من المؤرخين. فقد تمثل وجه مقترحه التجريبي، في توظيفه لخمسة أضلع متماسكة، حاول من خلالها الوقوف على ملابسات "اكتشاف [بورقيبة] للتاريخ" و"والأشكال المخصوصة لـ "قوله للتاريخ". قبل أن يتم التفرغ لاحقا وضمن ضلعين مستقلين لـتفكيك ما أسماه بـ "السردية "الموضوعية" لبورقيبة أو المروية الرسمية لتاريخ الحركة الوطنية 1956 – 1968"، ورصد الأشكال المخصوصة في تكييفه لكتلة الأخبار قصد تشييد "رواية وطنية من موقع "ضمير المفرد" [واندساس] الذاكرة [باعتبارها] بديلا عن تاريخ بين 1969 و1982". في حين يتمافراد الضلع الختامي إلى ما نعته المؤلف بـ "الإضافات، [و الـ] إضاءات [و الـ] إيضاحات... [التي] تفرض نفسها"، وجميعها ملاحظات شدّدت على أن بورقيبة لم يُحدث أمرا جديدا حال اهتمامه بالتاريخ، كما أنه لم يفرض قراءته الخاصة على المؤرخين، ولم ير فائدة في تدوين عروضه المشفوهة، معتبرا أن أمر قراءة كتلة أخبار التونسيين وتدبير مضامينها موكول إلى المختصين من المؤرخات والمؤرخين.
ولأنني لا أود الكشف عن تفاصيل ما ضمته دفتا هذا الأثر البديع، لكي يحتفظ القارئ بلذة متابعتها كاملة غير منقوصة، فإن ما سأعرب عنه لن يتجاوز دفع النقاش والتحفيز على الاطلاع على هذا المعروض القيم، سواء بسواء.
أي مكر أشدّ من مكر التاريخ!!!
ضمن ما أتى عليه الكتاب من تفاصيل تاريخية قصد نسج لحمة فصله الأول المخصص لاكتشاف بورقيبة للتاريخ، شد انتباهي التعارض الصارخ بين رغبته الجامحة في عدم التفريط في أخبار مرحلة الكفاح الوطني وجمع شهادات فاعليها الذين لايزالواعندها على قيد الحياة، وبين ما اعتبره "خذلانا" من جانب مختلف من عرض عليهم بشكل ضمني أو صريح التصدي لتلك المهمة. فقد بدا لنا بورقيبة ذاهلا تماما على أن ما كشف عنه هو شخصيا من ملكات استثنائيةوحسّ عالفي تدبير النضال السياسي بعد استكمال تكوينه الجامعي وعودته إلى تونس، هو ما دفعه إلى مباشر "الانقلاب" على الدستوريين القدامى وتأسيس حزبه الجديد سنة 1934. وتلك نتيجة نجمت يقينا عن فهمهالمفارق للفعل النضالي والسياسي، وهو فهم تشرّبه بورقيبة طالبا مجتهدا، ودفعه فيما نقدر إلى تبني توجهات سياسية راديكالية يعقوبية،تبيّنت له ناجعتهاالعالية في التنظيم والتشبيك وتوحيد التوجّهات والارادات أيضا.
وهو لو ندري ذات ما أقدم عليه لاحقا أولئك الذين انتظر منهم أن يتحوّلوا إلى مؤلفين لسيرته بوصفه زعيم يماثل ما أسداه من خدمات لوطنهما أُنجز من قبل كبار الشخصيات التاريخية،بدايةمن نبي الإسلام محمد،ووصولا امبراطور فرنسا ما بعد الثورة نابليون، مرورا بالقائد القرطاجي حنبعل، والملك النوميدي يوغورطة. بينما كان أولئك المعنيين بمقترح الزعيم/ الرئيسقد انشدّوا بعدُ إلى تصورات نضالية وفكرية (ايديولوجية) مخصوصة في كتابة التاريخ لا يسعها "التورّط" باي حال فيما قدره الزعيم. وهو ما شفّ عن شعوره الحاد بالخيبة حال الاطلاع على جديد بحوث المؤرخين الفرنسيين المتخصصين في تاريخ المغارب وفي مقدمتهم صديقه شارل أندري جوليان وزميل هذا الأخير اللدود "جون غانياج".
لكأن بورقيبة لم يفهم ساعتها أن ما لجأ إليه شخصيا حال إقدامه على تطوير عناصر اللعبة السياسية تونسيا أوسط الثلاثينات، لا يمكن أن يتشوف إلى اتيانه أولئك الذين حصلوا على نفس التكوين وسبروا التحولات المتسارعة التي عصفت بفرنسا عند موفى ستينات القرن الماضي، قبل أن يعودوا إلى تونس مبرزين في تخصّصاتهم، عازمين على كتابة تواريخ، لا يستهويها سرد الوقائع وتدبّر مسارات الساسة، بقدر ما حفّزها ربط كتلة الأخبار بحقيقة ما عاشه الكافة من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، حتى يتسنى لهم تهيئة الدرس التاريخي للتفاعل مع تطور وعي التونسيين بضرورة توسيع دائرة الحريات وصون الكرامة وصياغة مشروع مواطنة،بعد استعادة السيادة على الوطن.
ما اللغة التي بوسعها قول التاريخ؟
أثار فتحي لسير ضمن الفصل الثاني من كتابه، وهو فصل ركز من خلاله كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، على توضيح علاقة بورقيبة بقول التاريخ، إشكالية دقيقةتحيل على حاجة بورقيبة إلى ربط ما جد في الماضي بقوالة مخصوصة أسعفته في تطويع مضمون الخبر لمقتضيات لغة تخاطب التونسيين، مستحضرا ملكاته الاستثنائية في إتمام ذلك واستفادته منه، إلى حد بزّ المبرزين في نسج الكَلَمِ من كبار المفوّهين من بين التونسيين، على غرار أب القصة علي الدعاجي، أوواضع الأسمار الإذاعية اليومية والحكايات التي انشدت لها آذان أجيال متعاقبة من المستمعين، فالمشاهدين لاحقا، عبد العزيز العروي.
كما تعقّب لسير ما شكّل طقسا مخصوصا في اعداد بورقيبة لمحاضراته، وإصراره على ارتجالها، وما ترتب على ذلك من سقطات أو مزالق نجمت عن سواء قصد (إثارة تفاصيل نشأة المملكة الأردنية) أو عن غير قصد وقلة دراية (عدم التأكد من حقيقة موقف تركيا الكمالية من القضية الفلسطينية)
بيد أن الوقوف عند مختلف تلك الأبعاد الحساسة المتصلة بكفية قول بورقيبة للتاريخ قد أعرض عن مناقشة ما توفق إلى انجازه العديد ممن اهتموا بتوضيح أسباب استبداد الفصيح على حساب الشعبي (ينظر هنا على سبيل المثال كتاب شكري المبخوت "متحف الأدب" وهو أثر سبق أن وصغنا بخصوصه محتواه مراجعة صدرت ضمن مؤلفنا الأخير "يأتيك بما لا تنتظر"، وحملت عنوان "على غير منوال"). فقد اعتبر المبخوت أن تلك الوضعية قد شكلت في حينها واحدة من أعصى التوتّرات، لأنها طرحت قضية من أعقد القضايا التي واجهت ولا تزال إيديولوجيا "التوْنسة" باعتبارها أفقا في تحديد ما استعرنا شخصيا للبرهنة على حضوره مصطلح: "الموروث الجيني الثقافي للتونسيين".
وإذا ما تجاوزنا حقيقة الحظوة التي نالها المنجز الإبداعي الشعبي، وقدرته على التعبير بدقة لا متناهية عن الوجدان الجمعي للتونسيين، وهو ما اعترف به مؤلف المقدمة منذ القرن الرابع عشر، كما تعقبه القابضون على السلطة تباعا منذ أواسط القرن التاسع عشر، ووضع بشأنه النابهون والمتبحّرون كُتبا مفردة، على غرار ما ألفه الحشايشي، والرزقي، والمرزوقي، وما خصّه به العارفون بالدرس التراثي والأدبي من مباحث مهمة مثل الطاهر الخميري، والبشير خريف، والحفناوي عمايرية، وسامية القصاب/ العادل خضر، ومن سواهم من المستعربين أو المستشرقين، فإن قطب الرحى بخصوص ذلك يكمن - وفق ما انتهى إليه مؤلف "متحف الأدب" دائما- في عدم الحسم في مسألة تحويل الاهتمام بالآداب المشفوهة إلى مستوى الأولوية الثقافية الرسمية، وذلك بغرض الكشف عن: "صياغة نماذجه الجمالية والفنية وتحديد أشكاله وأبنيته وشفراته وأنماطه وتحوّلاته"، والتعرّف على: "تقاليده وسننه وعلاقة النصوص المفردة بها تماثلا وتعارضا واحتذاء وابتداعا"، حتى يحصل الاهتداء إلى رسم: "شبكة المعايير... التي تسيِّجُه"، وإدراك العلاقة الأنثروبولوجية التي يقيمها "بالحياة اليومية وبطقوس العبور والأفراح والأتراح...وبجميع مناحي الحياة". وهو ما قَعَدَ به على حد تعبير شكري المبخوت عن تحقيق ما نعته بـ "الاستقرار النصي."
وتلك محصلة في غاية الأهمية، بدت لنا البعض من عناصر التأكد من صحتها حاضرة في ثنايا ما خطه مؤلف "بورقيبة مؤرخا"، لما ألمع بشكل خاطف إلى موضوعين حارقين هما: ضرورة الاشتغال بشكل مركز على تفكيك القاموس اللغوي الذي اعتمده بورقية في نسج مختلف خطبه، متعرضا إلى ما سارت عليه سنن البحث ضمن مؤسسات صنع المعرفة التاريخية في الدول الغربية، وكذلك أهمية ربط محصلة تلك التجربة البلاغية بمخبر الدراسات اللغوية أو اللسانية. حتى نتبين طبيعة المسافة التي توصلالخطاب السياسي البورقيبيإلى جبّها، والوقوف عندطبيعة لوحة المفاتيح التي وظفها منهجيّا لتجاوز معضلة نمط انتاج الآداب الشعبية الضعيف، وامتناع تلك الآداب عن التداول بين المتمدرسين والباحثين والنقاد، وبقائها ضمن دائرة الدرس الأنثروبولوجي عامة والابداعي جزئيّا، الشيء الذي وقف حاجزا دون ارتقاء الابداعات الموضوعة في لغة التخاطب إلى مصاف الآداب المعترف بها، والمشكّلة للـ "جهاز الأدبي" على الحقيقة.
بين كتابة تاريخ الحركة الوطنية وصناعة خرافة الزعيم الملحمية
عرض الفصلين الثالث والرابع لما نعته المؤلف بالمروية الرسمية لتاريخ الحركة الوطنية بين 1956 و1968، ونقيضتها التي استبدت بالمشهد السياسي من بداية سبعينات القرن الماضي وحتى نهاية حكم ببورقيبة ذات خريف من سنة 1987. فقد تمثل المقصد من القراءة الأولى تحديدا في تعبئة التاريخ من أجل حشد الطاقات وتكريس مضمون التحديث على شاكلة ما عينته الجمهورية الفرنسية الثالثة في استلهامها لتواريخ "جيل ميشليه"و"ارناستلافيس"، بالقطع مع سجلي المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية البالية التي ساهمت في إعادة انتاج التخلف والتعصب الاعمى للنعرات الجهوية أو القبيلة.
يذكر لسير بهذا الصدد أن مدلول السردية الوطنيةroman nationalالدقيق هو: "تسريد الماضي التاريخي للأمة" في شكل "قصة تاريخية"يحتل ضمنها الشعب موقعا مركزيا، وحتى وإن لم يكن بالوسع اعتبار محصلة تلك السرديةعروضا تاريخية موضوعية نظرا لاكتفائها بسرد الجوانب الإيجابية وطمس التباينات، فإنها لم تشكلمحض حكاية من نسج الخيال باعتبار وقوع أحداثها بين التاريخ والملحمة.
والبين أن بورقيبة قد أعرض طوال المرحلة التأسيسية من حكمه عن ابتسار النضال السياسي في مواجهة الاستعمار في مناضلي الحزب الجديد، مصرّا على ادراج منجز الزعماء الذين سبقوه (رواد الإصلاح، حركة الشباب التونسي، جماعة الحزب القديم، المناضلين النقابيين، وحتىالبعض من بابات العائلة الحسينة) في ملحمة النضال الوطني الذي خاضته جميع فئات الشعب التونسي ضد الإدارة الاستعمارية. وهكذا فقد اتسعت دائرة التحقيب التاريخي في سردية الزعيم بورقيبة وفق ما أكدته خطاباته أو محاضراته (محاضرة بمناسبة عيد الشهداء بتونس سنة 1962 (32 صفحة)، ومحاضرته المعنونة "مدخل إلى تاريخ الحركة الوطنية" (38 صفحة))، لتشمل ما نعته تباعا بـ "يقظة الاسلاف" التي تعيدنا إلى موفى القرن الثامن عشر (حملة نابليون على مصر) وثلاثينات القرن الذي يليه (احتلال الجزائر) وما ترتب عليهما من ردود أفعال تحيل على المد الإصلاحي على أيام خير الدين التونسي وجماعته، وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده (الذي زار البلاد التونسية في مناسبتين)، ورشيد رضا مشرقا. وتلي هذه الحقبة "مرحلة باش حانبه" بتوصيف بورقيبة، تلك التي وسمها بـ "الحركة القومية الأولى" وسبقتها حركة جريدة الحاضرة، وهي حقبة وجب في استحضار مختلف محطاتها النضالية الاعتبار بقيمة المقاربة التي أنجزها شارل أندري جوليان في كتابه: "المعمرون الفرنسيون وحركة الشباب التونسي" وفهم السياقات المخصوصة المؤثرة في تجذر الوعي الوطني وأشكال مواجهة الاستعمار.
عرض بورقيبة في حقبة ثالثة إلى: "مرحلة الحزب القديم"،مُشيدا بمحصلتها هي أيضا معتبرا أن: الظروف لم تكن تسمح بأكثر مما طالب به [مؤسسوها]" الذين أخطأوا التقدير لما تخلوا عن مساندة انشاء جماعة عموم العملة بزعامة محمد علي الحامي. أما الحقبة الرابعة فقد عرضت إلى: "مرحلة الحزب الجديد، التي لم يشكل ضمنها مؤتمر قصر هلال قطيعة مع سيرورة الحركة الوطنية"،حتى وإن دشنت مع حلول الخمسينات مرحلة حاسمة تميّزت بظهور كتلة تاريخية (الحزب والتنظيمات القومية والمنظمات الشبابية والنسائية)، طالبت بالاستقلال عن الإدارة الاستعمارية.
يشي هذا التحقيبالرباعي وفق ما أقره المؤلف بأمرين على غاية من الأهمية، أولهما: اتساق أفق هذه القراءة الزمنية للحركة الوطنية مع محصلة ما أنجزته القراءتين المدرسية والجامعية لما اصطلح على تسميته بـ "الحركة الوطنية"، وهي حقيقةعاشهاالمحسوبون على الجيل الذي انتمي إليهممن أموا الجامعة أواخر السبعينات، وذلك من خلال تسجيلعدد كبير من الدارسين للتاريخفي شهادة نُعتت لسنوات بهذا المسمى، وشملت درسين يفصل بين وقائعهما انقسام الحزب الدستوري على خلفية اجتماع / مؤتمر دار عياد في 2 ماس 1934. وهو ما سنعثر على نظائر له بصيغ شكلية مختلفة لاحقا ضمن النسخة العربية لتاريخ تونس العام المعروفة بـ "تونس عبر التاريخ".
أما الأمر الثاني فقد اتصلباتسام هذه القراءة السياسية بقدر غير قليل من الموضوعية التي لم يشبها أي مطعن، سيما وقد توفر شبه اجماع حول زعامة واضعها وشرعيته النضالية والتاريخية والشعبية لذلك، سارع إلى استغلال ذلك المدّ الوجداني أو الحماس الانشائي على حد تعبير مصطفى الفلالي، لـ "تخليق سرديته" وتأثيث محتواها على حد بديع قول فتحي لسير.
وضمن فصلمكمل حمل عنوان: "بورقيبة يحتكي التاريخ... أو عندما تصيح الذاكرة بديلا عن التاريخ" أطْلعنا المؤلف على تفاصيللسياقات مفارقة حصلت بين 1969 و1982 طبعت خلالها السردية الوطنية بمسحة من التمجيد الذي صاغ ملحمة جماعية في ضمير الفرد أو الزعيم الأوحد.
ضمن هكذا إطار عقد الكاتب عرضا حول سياقات هذا الانقلاب التام الذي عرفته تمثلات الرئيس بورقيبة لتدريس التاريخ للناشئة ولبيداغوجية التعامل مع الزمن وتجاوز العروض الدائرية قصد تبني التصوّرات الخطية أو السهمية لكتابة التاريخune histoire vectorielle، مع الاعتبار بمحورية القطيعة التي أحدثها مساره المظفر الذي لم يكن يرغب له في أن يتحول إلى ميراث، بقدر كان يعنيه بالأساس شده إلى الانتقال من التاريخ الدوري من عصر "الوبال القبلي" بتعبير بورقيبة، وهوالذي شكل السمةالطاغية ضمن مسار التدهور والانحطاط،قبلالانخراط في "اللحظة البورقيبية" التي مكنت من استلهام مقاربة جديدة للزمن، شكلت "شرخا جذريا أو حدّ قطع"استولد "ما قبل" و"ما بعد"، فصلت بينهما لحظة استثنائية كان بوسعها وفق عبارة "فرنسوا سينوFrançois Siino" الباحث المختص في سوسيولوجيا المغارب السياسية: "إعادة تعيين عدادات التاريخune remise à zéro des compteurs de l’histoire". ذلك أن الاستقلال بالنسبة لبورقيبة ليس هدفا، إنما هو بداية وخطوة أولى غايتها المثلى الوعي بواجب التونسيين نحو أنفسهم ونحو الإنسانية. وتلك فكرة تناظر في أصالتها ما أقرّته الأمم الحديثة بخصوص فكرة التقدم واستمرارية الترقي تجاوبا مع ثوابت الفكر الغربي، وفق ما أفاض في شرحه عالم الاجتماع الفرنسي "جورج بورديو" في كتابه حول "الدولة".
ولئن استبد بزعيم الحركة الوطنية وأول رئيس للجمهورية الجديدة هاجس تقديم تصوراته/ شهاداته حول تاريخ البلاد ضمن محاضرات سابقة استهدفتأساسا إطارات الحزب وأجيال ما بعد الاستقلال من الدستوريين، فإنه قد تهيب من استغلال الحرم الجامعي للقيام بذلك منتظرا الثلاثية الأخيرة من سنة 1973 لإلقاء ما لا يقل عن 9 محاضرات (بواقع محاضرةكل الأسبوع) في تاريخ الحركة الوطنية على مسامع طلبة معهد الصحافة، احتضنفعاليات أولاها أكبر مدرجات للية الحقوق بالمركب الجامعي بتونس العاصمة.
وهي محاضرات شفّت مضامينها عن جنوح الرئيس إلى السقوط في ما أسماه المؤلف بـ "الأنا المتضخمة"، وذلك من خلال اعتبار نفسه قطب رحى الحركة الوطنية بل و"معجزة حقيقية من معجزات التاريخ" بحيث لم يعد بوسع متابعيه التمييز في خطابه بين ما يندرج ضمن السياق التاريخي ما لا يمكن لغير "الساغا" أو الملحمة الشخصية استيعابه.
لينتهي به الأمر إلى نقض ما صاغه قبل هذه المرحلة،للانخراط في ما نعته المؤلف بـ "تاريخ أحادي الصوت"، شطب التحقيب الرباعي مستعيضا عنهبحقبتين فحسب هما: ما قبل وما بعد "اللحظة البورقيبية" التي صنعت الصورة المتمثّلَة لدى أغلبية التونسيين وهي صورة وقرت عميقا في وجدانهم حول مشروع بورقيبة السياسي لما بعد 2 ماس 1934. وتلك على العموم سردية مكابرة استمسك بها الزعيم استجلابا للتعافي ممّا اعتراه من أعطاب نفسية بليغة مع نهاية ستينات القرن الماضي، وصياغةشرعية موهومة عمد من خلالها بمؤزرة رهط من معاونيه المقربين والمتزلفين لسلطته إلى التنكر للمحصلة الباهتة التي انتهت إليها حوكمته السياسية لمرحلة ما بعد استقلال البلاد.
في البحث عن قراءة معافاة لتاريخ الحركة والوطنية
تخير المؤلف وضمن فصل ختامي أفرده لما نعته بما "يفرض نفسه [كذا] من الإضافات والإضاءات والإيضاحات"، تسيج حديثه حول اسهامات بقية زعماء حزب الدستور المعاصرين لبورقيبة في كتابة التاريخ، مركزا على ما حبّره علي البلهوان (نحن أمة، وتونس الثائرة) والحبيب ثامر وآخرون (هذه تونس)، منتهيا إلى أنه حتى وإن وُضعت هده الآثار الجماعية المنشأ (الرشيد إدريس، والجلولي فارس، والمنجي سليم وغيرهم) في سياق تراجعت خلاله صورة الزعيم، فإن ذلك لم يحل دون تبوؤه عن جدارة موقعا محوريا في قيادة الحزب الدستوري وإدارة معركة التحرّر من ربقة الاستعمار، بحيث لم يخرج زمام القيادة من يده مطلقا.
كما دارت تلك الاضافات حول إعراض بورقيبة ونظامه عن اعتماد أي نوع من أنواع الضغط أو الاكراه تجاه المؤرخين حتى ينخرطوا في المصادقة على روايته الخاصة لتاريخ الحركة الوطنية، وهو مجال معرفي ملغّم فضل أولئك التريث في تفكيك عناصره، معتبرين (رؤوف حمزة) أن كتابة محصلة بالمسافة لما أنجزته الحركة الوطنية التونسية مهمة مناطة بعهدة المؤرخين الجامعيين التونسيين، وذلك على الرغم من اللغط الذي عقب نشر عز الدين قلوز المدير العام للمكتبة الوطني خلال نهاية سبعينات القرن الماضي، ما وسم بـ "وصية بورقيبة" المؤلفة سنة 1975 والتي أحجم هذا الأخير عن نشرها مدة ثلاث عشريات كاملة، وذلك لأسباب موضوعية وأخرى مغرقة في الذاتية لا تخلو من مطامح شخصية ضيقة. وتلك "وثيقة" بدت لفتحي لسير -وهو على أتم صواب - غير موثوقة الهوية اتصل جنسها الأدبي بمشروع كتاب منسوب لبورقيبة في تاريخ الحركة الوطنية لم يكتب له استيفاء تقميش.
ولعل ما انتاب الزعيم/ الرئيس من يأس بخصوص إمكانية النهوض بتلك المهمة، هو ما دفعه إلى القبول بنصيحة صديقه المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان بخصوص احداث برنامج وطني للبحث في كتابة تاريخ الحركة الوطنية وتشكيل لجنة من المؤرخين الباحثين للتفكير في أنجع السبل لكتابة ما نعته نفس المؤرخ بكثير من التوفيق والبلاغة بـ "التاريخ المتقاسم" للفترة الاستعمارية، وربط ذلك بالتقييم الإشهاديلمختلف تخصّصات وفروع الجامعة/ الجامعات التونسية.
وفي المحصلة يمكننا الاطمئنان إلى القيمة الرفيعة للجهد التركيبي الالمعي والاستثنائي الذي بذله فتحي لسير في صياغةمختلف فصول كتابه، حتى وإن لم ير المؤلف من حاجةإلى البت في طبيعة العلاقات المعقّدة التي ربطت ولا تزال الرواية الوطنية بالنضج السياسي للنُخب. فقد أخفى مشروع الاستقلال من وجهة نظرنا ونظر غيرنا أيضا فجوة عميقة بين الدولة التي شيدتها نُخب تشيّع معظم فاعليها النافذين لقيم الحداثة الغربية، والمجتمع الذي لم يصادق بالكامل على توجهاتها. لذلك كانت الدولة ولا تزال موضع صراع رغم تعدّد إخفاقاتها. بحيث يتيه المتأمل في مثل هذه المسألة في مفارقات غريبة نظرا للعلاقة المقلوبة التي حكمت انتاج الفكر السياسي، فضلا عن هاجس الترميق الذي طبع التوجّهات الثقافية للدولة الوطنية بوصفها مشروعا سياسيا وفكريا حاول المزج بين التقليد والتحديث، مع ثبوت تورّطها في تشغيل آليات المخاتلة السياسية.
وهو ما قامت الباحثة الفرنسية في مجال العلوم السياسية "بياتريسهوبو Beatrice Hibou " وضمن مقالها: "الإصلاحية أو الرواية السياسية الكبرى لتونس المعاصرة." بتفكيك مدلوله بعناية،منتهيةإلى أن نزوع دول الاستقلال باتجاه توظيف مبادئ "التقليد الإصلاحي" مسألة ليس من المجدي في شيء إنكارها. بحيث غالبا ما عكست الإحالة على مدلول الإصلاح كثيرا من الغموض، الشيء الذي مكّن من استنباط صلة وثيقة بين الإرث الإصلاحي للقرن التاسع عشر والتوجّهات التي دافعت عنها دولة الاستقلال.لذلك خضعت الرواية الإصلاحية للتبسيط وابتسار مضمون الوقائع التاريخية والخلط بين المنجز وأشكال التعبير عنه، أو بين التمثلات والوقائع، مع ذهول تام عن السياقات التاريخية والصراعات التي جدّت بين الفئات الاجتماعية ذات المصالح المتباينة،وحضور نوازع توظيف مفضوحة،وتعتيم مقصود على السياقات التاريخية لمختلف الحركات السياسية والثقافية التي عرفها تاريخ تونس المعاصر.
فقدتضمن النزوع إلى الترميق الأدبي للرواية الإصلاحية التونسيةادعاء توفّر تجربة الإصلاح السياسي على نفس تحرّري ديمقراطي، الشيء الذي فصلها عن جذورها التوفيقية العروبية والإسلامية، وإخراجها عن توجهاتها الوطنية الثورية، وتكييفها بغرض خدمة مصالح الزعيم والحزب. كما عكس الخطاب المعادي للحضور الاستعماري الفرنسي سواء لدى الداعين إلى سنّ القوانين التشاركية أو إلى الرابطة الإسلامية لدى الوطنيين الشبان، كما لدى المصلحين التقليدين، نفسا سياسيا إصلاحيا اعتبر حركة الإصلاح التي عرفها النصف الثاني من القرن التاسع عشر خطوة متقدّمةباتجاه تكريس الديمقراطية، والحال أن تنظيم الدولة وأساليب اشتغالها لم يتم توجيههما مطلقا وجهة سياسية ديمقراطية، لأن التمثيلية لم يكن من المُمكن تصوّرها في حق غير المحسوبين على نُخب السلطة.
واتصل التلفيق أيضا بالتأكيد على أن تونس قد عاينت أول دستور ليبرالي في العالم العربي، وهو توجه انطلق منذ أواسط عشرينات القرن الماضي في تلازم مع الحاجيات الاستراتيجية والتكتيكية لحزب الدستور (بشقيه القديم والجديد)، ذاك الذي عتّم عمدا على حقيقة تنوّع التجارب الإصلاحية وتعدّد التيارات الفكرية وصراع التوجهات السياسية بين مختلف مُصلحيّ القرن التاسع عشر، فضلا عن الاعتراف بحقيقة التأثير الذي سلطته الدولة العثمانية وحضور ضغوط أجنبية أوروبية أجبرت حكّام "إيالة تونس" على تحرير بنود عهد الأمان.
والمربك بهذا الصدد أن التعتيم على البعد الديني للحركة الإصلاحية التونسية قد استند على استراتيجية فسخت بالكامل حضور اختلافات أو تناقضات بين ممثلي تلك التصوّرات فكرا وممارسة، بحيث اتسمت تصرّفات الزعيم بورقيبة تجاه منافسيه السياسيين بإفراط في القسوة وعدم التسامح. كما تم الحرص على إعادة كتابة السياق التاريخي للمواجهة الحاصلة تاريخيا بين الدستوريين الجدد والقدامى من زاوية الاعتبار بجدارة الأخيرين بالانتساب إلى الحداثة، مع تجريد التيارين اليوسفي والعروبي من كل شرعية نضالية وطنية، تغذية للإيديولوجية الاصلاحية للدولة الناشئة.
ومع حلول سبعينات القرن الماضي تم تكييف الرواية التاريخية الإصلاحية تزامنا مع أفول المشاعر القومية وتراجع الأيديولوجية الوطنية. فحلّت بذلك التمثّلات المتخيّلة للإصلاح محل تلك المتّصلة بالقراءة الوطنية، ورُدّ الاعتبار لعدد من الأبعاد التي حاولت الدولة الوطنية تفادي الخوض فيها أو إرجائه، على غرار الاعتراف بالمشاعر الدينية. وتلازم ذلك مع انقطاع الفكر التحرّري الثوري المتكئ على الفكر السياسي الغربي والمنفتح على أبواب المستقبل، ذاك الذي اعتقد أصحابهأن التقدّم والنماء أمران ممكنان يندسّان عميقا ضمن الممارسة السياسية ويعتملان في فكر القائمين على السلطة والممانعين ضدها أيضا.
بيد أن عوامل التهرئة الناتجة عن تعدد الأزمات السياسية التي طالت المجتمع هي التي فرضت إعادة الاعتبار للبعد الديني ضمن معجم الخطاب السياسي، بصرف النظر عن مضمون التحوّلات الفارقة التي عرفتها الساحة الدولية، وتفاقم التوظيف السياسي، بحيث تم التعويل على مروية "التقليد الإصلاحي" تجاوزا لتراجع الشرعيات الحاكمة. ولم يبق غير الانخراط في قراءة مشوبة بكثير من الترميق، توسّلت بالأمد الطويل حتى تمنح رجالات الدولة جرعةحديدة من الشرعية وتدوير محصلتهابإدراجها تمويهاضمن سياق التوجهات التي قادت زعماء الإصلاح السياسي. غير أن حدث الثورة قد انفتح خلال سنوات الانتقال الديمقراطي تونسيا على حقيقة تنوّع القراءات، بل وتضاربها المحيّر. لذلك فإن معاودة اشتغال المؤرخين بهدوء على إشكالية "التقليد الإصلاحي" (جماعي (2021)، مساءلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية)، وتوضيح تباعد التصوّرات حول مدلوله، دون سقوط في تحريف الاستعارة الجمعية المتصلة بالحكاية الجمعية أو تعويذتها، هو ما يشكّل مرحلة ضروريّة في مسار فهم ماضي تونس القريب الذي علق بحاضرهارافضا الذهاب في حال سبيله، مُصِرًّا على الاندساس في سمك الحاضر بجميع تعقيداته وتشعّباته.