حيث تجمّدت الفظاعة في مشهدٍ يوميّ مروّع بات عادياً. وفقاً للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)، يعيش 2,1 مليون شخص – أي ما يعادل تقريباً كامل سكّان القطاع – حالة انعدام أمن غذائي حاد. تدين الأمم المتحدة والمنظّمات غير الحكوميّة ما يُسمّى «مجاعة مفتعلة»، ناجمة عن حصار إسرائيليّ مشدّد.
رغم ذلك، تبدو «المجموعة الدولية» عاجزة عن كسر دائرة الدمار، إما بموقف المتفرّج أو بتواطؤ الصمت. كيف يمكن فهم هذا الشلل أمام مأساةٍ موثّقة ومتوقّعة ومُذاعة لحظة بلحظة؟ المقاربة متعددة الأبعاد – النفسيّة والسوسيولوجيّة والجيوسياسيّة والإعلاميّة – توضح آليات محو متشابكة.
كمين اللامبالاة: حين يصرف العالم بصره
يفسّر علم النفس الاجتماعي هذا الجمود الجماعي عبر مفهوم «تأثير المتفرّج» (l'effet du spectateur)، الذي صاغه جون دارلي (John Darley) وبيب لاتانيه (Bibb Latané) إثر الحادثة الشهيرة لمقتل كيتي جينوفيزي عام 1964. قُتلت طعناً في نيويورك وسط تجاهل عشرات الجيران الذين اكتفوا بالمشاهدة دون تدخّل.يوضح هذا المفهوم أن تزايد عدد الشهود يقلّص شعور كل فرد بالمسؤولية الشخصية، فتذوب المسؤولية الفردية في بحرٍ من اللامبالاة الجماعية.
على الصعيد العالمي، يتجلّى هذا السلوك بصورة مأساوية. تُلقي الدول أعباء التحرك على عاتق المؤسسات متعددة الأطراف التي تصطدم بانسدادات سياسية معقّدة، فيما يجد المواطنون أنفسهم محاصرين بمشاعر العجز والارتباك حيال تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي المتجذّرة.
تزداد حدة هذا الانسحاب بفعل التخدير العاطفي الجماعي، حيث تفتّت ضخامة المأساة وامتدادها المستمرّ الضمير الأخلاقي، محوّلة إياه إلى استسلام صامت وخمول نفسي.
الإرهاق العاطفي: عبء المشاهدة بلا نهاية
تشرح الباحثة في علم النفس سوزان مولر (Susan Moeller) مفهوم «الإرهاق العاطفي» بوصفه رد فعل معاكس للتعرّض المستمر والمفرط لمعاناة الآخرين. فبدلاً من أن يحفز هذا التعرّض على التحرك والالتزام، يُحدث تبلّداً نفسياً وانخفاض القدرة على الاستجابة العاطفية.
في حالة غزة، حيث تُبث صور الدمار الهائل والأطفال الجائعين والمستشفيات المنهارة تدريجياً بشكل مباشر وعلى الهواء، تتحول المأساة إلى مشهد مألوف رغم عمقها اللامحتمل. التكرار المستمر لتلك المشاهد – المباني المسوّاة بالأرض والعائلات المنكوبة – يؤدي تدريجياً إلى فقدان الجمهور العالمي حساسيته تجاه هذه الكارثة الإنسانية.
يُضاف إلى هذا الاستنزاف العاطفي عامل آخر؛ فالطبيعة المتكررة والمُرهِقة للتغطية الإعلامية تحوّل الحالة الطارئة إلى أزمة مزمنة تُهمّش تدريجياً في سلم الأولويات الدولية، لتُصبح مثل قصة مكررة لم تعد تثير الاهتمام أو الاستجابة ذاتهما. في ظل هذا المشهد، يصبح التعاطف موقفاً متعباً ومُرهِقاً، حيث يتصارع الجمهور بين رغبة في التفاعل وحاجز نفسي يعوق الاستجابة، مما يفضي إلى لامبالاة مستمرة تخدم في النهاية استمرار الأزمة دون تحرك فعلي لإنهائها.
العقدة الجيوسياسيّة: شلل القوى العظمى وسط حسابات باردة
تحكم القضيّة الفلسطينيّة تشابكات مصالح ولعبة قوى جيوسياسيّة لا ترحم ومؤسسات دوليّة مختلّة. دمّر الحصار الإسرائيلي كل إمكانيات الإغاثة. هذه السياسة، التي تنتهك صراحة القرار 2417 الصادر عن مجلس الأمن – والذي يجرّم استخدام المجاعة كسلاح حرب – تستمرّ تحت أنظار العالم. القوى الكبرى، العالقة في أجنداتها، تغذّي هذا الجمود.
الولايات المتحدة، الحليف الراسخ لإسرائيل، تُفشل بانتظام كل مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقفٍ فوريّ لإطلاق النار، مستخدمة حقّ النقض في كل مناسبة. أمّا روسيا والصين، فتُوظّفان القضيّة الفلسطينيّة سلاحاً في معركتهما ضد الهيمنة الغربية، دون تقديم بدائل ملموسة. هكذا يتحوّل مجلس الأمن إلى مسرح رمزيّ، تُهمّش فيه معاناة المدنيّين وتُختزل إلى أضرار جانبيّة.
على الأرض، تواجه الوكالات الإنسانية، لا سيما وكالة الأونروا، انهياراً شبه كامل بفعل ضغوط مالية وسياسية متلاحقة. شهدت الوكالة خنقاً مالياً شديداً بعد قرار عدة دول، منها الولايات المتحدة، تعليق دعمها المالي، مما أدى إلى تقليص مواردها بشكل حاد حين تزداد الاحتياجات الإنسانية بشكل كبير.
إلى جانب ذلك، تتعرض الأونروا لحملة تشويه ممنهجة تقودها إسرائيل، تهدف إلى تقويض شرعيتها وعرقلة عملها الميداني. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل جاء قرار الكنيست بحظر أنشطة الوكالة داخل الأراضي الخاضعة للاحتلال ضربة قاصمة لقدرتها على تنفيذ مهامها الأساسية، مستنداً إلى اتهامات غير مثبتة تتعلق بدعم مزعوم لحركة حماس.
في ظل هذا الواقع الصعب، تظلّ مناشدات مسؤولي الأمم المتحدة عاجزة عن تحريك المجتمع الدولي، وتتناثر صرخاتهم في فراغٍ دولي يعكس عجزاً بنيوياً في النظام العالمي. يتجلى هذا العجز في انقسامات سياسية حادة وصراعات مصالح بين القوى الكبرى تعوق اتخاذ قرارات فعّالة لحماية المدنيين وتوفير الدعم اللازم، مما يزيد تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة ويعمّق معاناة السكان المحاصرين.
تفوّق التفاهة: حين يُهمّش الاستهلاك السريع المآسي
يُسرق اهتمام العالم يومياً عبر أحداث تافهة تُضخّم تحت رحمة الإعلام السريع. في 16 جويلية 2025، انتشر مقطع فيديو للرئيس التنفيذي لشركة تكنولوجية أمريكية يُدعى آندي بايرون، وهو يحتضن إحدى موظفاته أثناء حفل فرقة Coldplay في بوسطن. أثار هذا المشهد العابر ضجة إعلامية عالمية طغت مؤقتاً على مأساة غزة. أضاف المغني كريس مارتن تعليقاً ساخراً، مما ساهم في زيادة انتشار القصة، وأظهر كيف يمكن لرأي عابر من شخصية فنية مؤثرة أن يعيد توجيه دائرة الاهتمام الإعلامي.
تعكس هذه الحادثة خللاً بنيوياً حاداً في طريقة تعاملنا مع الواقع، إذ تحتل التفاهة مكان القضايا الجوهرية التي تتطلب التأمل والجهد. وصف عالم الأنثروبولوجيا توماس هيلاند إريكسن (Thomas Hylland Eriksen) هذا الواقع الإعلامي والاجتماعي بمفهوم «طغيان اللحظة»، حيث تسيطر ردود الفعل السريعة والعابرة على المشهد العام، مما يؤدي إلى تهميش الأزمات البنيوية العميقة التي تشكل جوهر التحديات المجتمعية.
في فضاء إعلامي يهيمن عليه منطق السرعة والانتشار اللحظي، تتحول اللحظات العابرة إلى أزمات مؤقتة تُستهلك بسرعة ثم تُنسى، بينما تبقى القضايا الحيوية التي تحتاج إلى تفكير عميق ووقت للنقاش في الظلّ. أصبح الانتباه، الذي يُعتبر اليوم سلعة نادرة وقيّمة، يُستهلك بإفراط على تفاصيل سطحية وأحداث طارئة، مما يهدد قدرتنا على الانخراط الفعلي في قضايا مصيرية تؤثر في مستقبل البشرية بأكملها.
تُعمّق الخوارزميات الرقمية هذا الواقع بتعزيز المحتويات القصيرة والمثيرة التي تحقق أكبر عدد من التفاعلات والنقرات، متجاهلة السرديات المعقّدة التي تتطلب جهداً معرفياً وعاطفياً. هذا الانزلاق نحو الاستهلاك السطحي للمعلومات يُضعف القدرة الجماعية على فهم الأزمات الحقيقية والتفاعل معها بوعي، مما يؤدي إلى استمرار دورة اللامبالاة والجمود تجاه معاناة الملايين، مثل تلك التي يعيشها سكان غزة المحاصرون.
غزّة: مرآة الألم والتصدّع البشري
ليست مأساة غزّة مجرد ظلم تاريخي عابر، بل انعكاس لعالم يتفكك فيه تركيز الانتباه، ويتبخر الفعل الإنساني، وتتحول المجازر الجماعية إلى مجرد محتوى يُستهلك ويُنسى. تشكل هذه الكارثة اختباراً أخلاقياً حاسماً للعصر الحديث، تكشف إخفاق النظام الدولي في تحويل المبادئ إلى واقع ملموس.
إعادة بناء مسؤولية عالمية حقيقية تتطلب شجاعة سياسية حقيقية: تفعيل القانون الدولي، ودعم مؤسسات مستقلة، وإعادة صياغة اقتصاد الانتباه لتكريس المكانة التي تستحقها الأزمات الحقيقية في صدارة الاهتمام العالمي. وإلا، فستظلّ غزّة فجوة في الإدراك الإنساني، إنذاراً قاتماً يُتجاهل، تختفي فيه الفظائع خلف ستار من الاعتياد واللامبالاة.
بقلم: أمين بن خالد