سيكون من العبث إعادة تدوير الزوايا والتطرق إلى مواضع لا تشكل صداعا لأغلب الطبقة السياسية وللمتابعين للشأن العام في تونس ٫ لكن ألا يمكن أن يكون إعادة فتح الأبواب المفتوحة مقدمة للتأسيس من جديد؟ وبناء سرديات أخرى متجاوزة لأخطاء الماضي ومستهدفة للمستقبل عبر مقاومة الجمود والتكلس الفكري ولانهزامية/ عدمية الفعل السياسي في ربط ميكانيكي ساذج بين فشله واقعيا وقصور الفكرة / الايديولوجيا نظريا وأن الفشل في الممارسة السياسية سببه الفشل في النظرية مما شكل سببا في دخول نفق متعدد الاأبواب من تحميل مسؤولية الفشل المتبادل بين الفكر والممارسة بل أحيانا لحد التعارض و التصادم بين عالمين ٫ عالم الأفكار المطلق المقدس وعالم السياسة النسبي المدنس.
في هذه الحالة تصبح المراجعات خيارا استراتيجيا مفروضا وليست اختيارا تكتيكيا للخروج من المأزق الحاد- طبعا بشرط صدق النوايا - الذي وصلت إليه الطبقة السياسية بعد صدمة 25 جويلية 2021 وهي المشتتة والمنقسمة على نفسها ملل ونحل كل منها تدعي امتلاكها الحقيقة السياسية المطلقة وأنها الفرقة الوحيدة الناجية.
مراجعات فكرية أم مراجعات سياسية ؟
لعل من أكثرالمصطلحات شيوعا هذه الأيام في الخطاب السياسي التونسي مصطلح المراجعات وهو حاضر بقوة خاصة في فضاء المعارضة لحد مطالبة هذه الأخيرة السلطة بضرورة القيام بمراجعات سياسية وهي كذلك من أكثر المصطلحات نفورا ورفضا من الجميع بما تحمله من شحنات سلبية تعني التراجع والرجوع إلى الوراء والتسليم بأن الوقوف في نفس النقطة أمر سيء للغاية دون بذل أي مجهود لتجاوز ذلك لكن المكابرة والعناد تمنعهم من التسليم بذلك فالذي لا يتقدم يتراجع بالضرورة ٫ والعمل على الإعتراف والتجاوز وكأن في ذلك إقرار بالعجز والفشل وما يصحبه في النهاية من ضرورة الانسحاب من المشهد السياسي وكان في الإمكان تجنب كل هذا لو تم تطبيق المنهج التجريبي / منهج التجربة والخطأ وآلية خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء لأن التحرك يتم في فضاء الممكن والنسبية لا فضاء الاطلاقية المغلقة .وقد أستعملت صيغة الجمع لا المفرد لأنه توجد مراجعات لا مراجعة واحدة تشمل كل من مناحي الحياة الخاصة والعامة وهي مراجعات تهم جميع الفاعلين في المجتمع المدني وفي السياسة بل حتى الانسان /الفرد نفسه يحتاج دوما التوقف قليلا أمام المرآة والقيام بمراجعات لحياته الشخصية في محاولة لتجاوز خيباته وانكساراته بالتوقف عند مكامن الفشل والعجز لمعالجتها وتجاوزها والانطلاق من جديد نحو حياة اخرى ٫ نفس الشيء يسري على الفاعلين السياسيين والحقوقيين سواء كانوا منتظمين في أحزاب ومنظمات وجمعيات أو مستقلين علاوة على الصعوبة الكبرى المتأتية من الخلط الميكانيكي المبهم والمقصود بين المراجعات الفكرية والسياسية ويزداد الأمر تعقيدا حين تم وضع القيام بمراجعات بنوعيها الفكري والسياسي كشرط رئيسي وأولي للالتقاء حول أرضية واحدة موحدة من أجل التغيير السياسي وكل طرف يشترط على الآخر ضرورة القيام بمراجعات هكذا في المطلق ! وشكلت بذلك المراجعات عنوان العقبة الكأداء وعقدة الحل المنتظر ٫لتشكل بذلك في النهاية شماعة لعدم الالتقاء أصلا ٫ فأي التقاء ؟ وأي أرضية واحدة موحدة ؟ وأي مراجعات تستوجب مراجعات ؟.
أقسى ما يعترض الفاعل السياسي المنتمي للسرديات السياسية الكبرى في تونس (القومية الشيوعية٫ الاسلامية٫ الدستورية٫ الليبرالية) ولاعتبارات داخلية وذاتية هو مطالبته بضرورة القيام بمراجعات فكرية تستهدف الأنساق الايديولوجية لسرديته السياسية التي اكتمل بناؤها منذ عقود لترتقي الى مرتبة التقديس والألوهية وتدخل في مجال الايمان المطلق وهي عملية مستحيلة استحالة مطلقة كأن تسعى لاقناع المؤمن بالالحاد وبعدم وجود الله ؟! وهي عملية إرادية خاصة داخل كل سردية سياسية من السرديات الايديولوجية تكاد تكون سرية ،فهي من ناحية اقرارا بالقصور المعرفي والفشل السياسي ومسا من « الذات الايديولوجية العليا المقدسة « ومن ناحية أخرى هي دليل على حيوية الفكر وتفاعله داخليا مواكبة للتغيرات الزمانية مما ينفي عنها صفة التناظر والتقابل مع بقية السرديات الاخرى ٫ فأن يقوم بمراجعات فكرية مؤلمة تمس من الثوابت الايديولوجية المقدسة هو بمثابة الإعلان عن موته النهائي وغيابه من المشهد السياسي ويصبح الأمر أكثر ‘يلاما وتعقيدا لدى سردية الاسلام السياسي لتأسيسها بدورها على النص الديني المقدس٫ ثم مالغاية أصلا من مطالبة هذه السرديات الايديولوجية الكبرى بضرورة القيام بمراجعات فكرية قبل النظر فيها شكلا؟ هل من المنطق السليم العمل على تحويل هذه السرديات الخمس الى سردية سياسية واحدة موحدة ؟! ألا يشكل ذلك ضربا لقيم التعددية والاختلاف وقبول الآخر كما هو لا كما يجب أن يكون صورة مطابقة للأصل منك ؟ فالتعدد والاختلاف والتناظر سمات طبيعية ثقافية ثابتة لدى الانسان وخارجه ، وحتى لا تتحول المراجعات الفكرية الى الية للابتزاز السياسي وتسجيل نقاط في مرمى الخصم الايديولوجي فإن أي محاولة لإثبات عكس ذلك محاولة يائسة بائسة لتنافيها أصلا مع الطبيعة البشرية التي عرفت تاريخيا في المجال الديني ثلاث ديانات سماوية ( اليهودية ٫ المسيحية والاسلام ) و محاولة توحيدها في دين واحد /الدين الابراهيمي محاولة صعبة ان لم تكن مستحيلة فليبق المسلم مسلما والمسيحي مسيحيا واليهودي يهوديا ٫كما سيبقى في المجال السياسي القومي قوميا والشيوعي شيوعيا والاسلامي اسلاميا والليببرالي ليبيراليا، فلا قدرة علمية ولا فائدة عملية على المستوى الفكري من إنصهار السرديات السياسية في سردية واحدة ولا الأديان الثلاث في دين واحد.
وباعتبار أن القيام بمراجعات فكرية شأن داخلي خاص بكل سردية على حدى فذلك يبقى حصرا من مهام المفكرين والباحثين في مراكز البحوث والدراسات وفي جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية ولا علاقة لها بالفاعلين السياسيين وكذلك من مهام أطر أخرى كالمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الاسلامي.والمؤتمر العام للأحزاب العربية ٫ فالأمر معقد جدا يتطلب من الجهد الكثير و من الزمن عقودا ٫ وأقصى ما يمكن تحقيقه هو العمل على توفير أرضية عمل مشتركة محدودة زمنيا ومكانيا عبر تذويب نقاط الاختلاف بين مكوناتها في اطار ميثاق أخلاقي مشترك٫ فأن تزحزح جبل من مكانه أهون وأسهل بكثير من زحزحة فكرة ايديولوجية من عقل سياسي عربي متكلس غاب عنه النقد القائم على ثنائية الاعتراف / التجاوز وحضر النقل بقوة دون تدقيق ولا تمحيص لذلك لن نشهد قريبا في الفضاء العربي العام ما بعد القومية وما بعد الشيوعية وما بعد الاسلام السياسي وما بعد الليبرالية ...
فهل الوضع قاتم الى هذه الدرجة؟
يبقى الأمل قائما في المراجعات السياسية للتحقق واقعا الآن هنا بشرط فصلها عن المراجعات الفكرية ذات الأنساق الإيديولوجية المطلقة لارتباطها بالممارسة السياسية النسبية وتتعلق بقرارات وتقديرات ومقاربات سياسية سابقة خضعت بعضها للمنهج التجريبي ٫ منهج التجربة والخطأ ٫ أصابت في بعضها وأخطأت في بعضها الآخر وفق رؤية نفعية محضة محصورة في زمان ومكان محددين عكس المراجعات الفكرية غير المحددة زمانيا ومكانيا كمراجعة الموقف من ثقافة الإستئصال والإقصاء ،والموقف من حدث 25 جويلية 2021 ومن دستور 2022 ٫ ومن الانتخابات التشريعية والمحلية والرئاسية السابقة خاصة ومن الصندوق الانتخابي عامة ...وهي كلها مقاربات سياسية نسبية تخضع لمراجعات سياسية لا تشترط بالضرورة تحبير مبادرات ولا عقد ندوات صحفية ولا تأليف عشرات الكتب بل فقط تجسيم ذلك واقعا كما قامت به مثلا حركة الشعب وأغلب السرديات السياسية الاخرى بمشاركتها في الانتخابات الرئاسية السابقة وفق دستور 2022 بعد أن كانت هذه الاخيرة تعتبره « دستور الانقلاب».
تقبى المراجعات السياسية مراجعة عملية في الممارسة على الواقع وفي تتفيذ البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولا تكفي تحبير آلاف الدراسات والكتب وعقد ندوات صحفية للإعلان عن ذلك فلن تكون سوى نسخة من مراجعات الجماعات الاسلامية التكفيرية في مصر زمن حسني مبارك فما ان خرجوا من السجن بعد اعلانهم عن قيامهم بمراجعات حتى كانوا من منظري ومؤسسي التنظيمات الارهابية وعلى رأسها تنظيم داعش ونسخة رديئة من إعلان حركة النهضة في مؤتمرها العاشر فصل الدعوي عن السياسي حتى نجد كل الجمعيات الدعوية والخيرية المرتبطة بها مجندة الى جانبها في كل المحطات الانتخابية دعاية وتصويتا.
وهي بذلك مخرجات مراجعات سياسية خاصة بكل سردية سياسية تشمل حدود العلاقة مع السلطة نحو المولاة أو المعارضة ، وتشمل ضرورة مراجعة عقيدة إستئصال الخصم السياسي عبر آلية غير آلية الصندوق الإنتخابي الديموقراطي التعددي الشفاف قد تلتقي بمخرجات سرديات أخرى تتقاطع معها في بعض المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكي يقع تقديم منتوجها الى الصندوق الانتخابي ليختار الناخب ما يراه صالحا ولعل أهم نتيجة من المراجعات السياسية التي يجب ان تصل إليها كل السرديات السياسية الكبرى في تونس هو القبول بالعيش المشترك والايمان بأن الصندوق الانتخابي هو الالية الوحيدة للتغيير السياسي والتداول السلمي على السلطة وذلك بعد التخلص نهائيا من قناعات سياسية محنطة مغلقة - للأسف ذات خلفية فكرية - تقوم على التغيير السياسي بالقوة و»بأنه يترنح» و»بالثورة الثانية « فالثورة ليست نزهة نقوم بها شهريا وإن كان لهذه السرديات أن تلتقي على أرضية سياسية واحدة موحدة فليكن الالتقاء حول حتمية الصندوق الانتخابي وليكن الالتقاء حول النضال من أجل ان يكون الصندوق الانتخابي صندوقا ديموقراطيا تعدديا وشفافا استعدادا لليوم التالي وهذا لا يحتاج مراجعات فكرية ولا مبادرات سياسية بل يحتاج فقط الى قليل من العقلانية وكثير من الواقعية وصدق النوايا
بقلم : خالد الكريشي