- بوصفها كما تزعم بعض النزعات التمركزية - جنس خاص بالثقافة الغربية المسيحية، كونها ارتبطت في أصولها بالدين المسيحي، وتحديدًا بشعيرة "الاعتراف"، الذي يعدّ المسار المفضي إلى التطهر من الذنوب، والتخلص من الخطايا المرتكبة و في العصر الحديث، أرتبطت بكتاب الاعترافات لجان جاك روسو، الذي طورها، واعتبره أغلب الدارسين أنه مؤسس السيرة الذاتية الحديثة المحافظة على الاعتراف كطريق للكتابة عن مسار حياة الإنسان وتقديمها للآخرين، بهدف كشف مكونات وخبايا الذات بكل صراحة وصدق وشفافية والمتحررة من التأثيرات والدوافع الدينية المسيحية، كما أثبتت بعض الدراسات التاريخية قيام قدماء المصريين والإغريق والرومان بكتابة السير الذاتية الغيرية القائمة على تمجيد " الرجل العظيم " من الكبار القادة السياسيين والعسكريين وفي الأكثر بعد وفاتهم بينما غاب هذا الجنس الأدبي عن الثقافة العربية الاسلامية ويرجع ذلك إلى أن الشريعة الإسلامية سوّت بين الناس، إلا في طاعة الله لذلك تنوعت موضوعاتها وتشعبت كثيرًا، حيث تعددت الأسماء والمصطلحات التي وصف بها العرب كتابة السيرة الذاتية، مستخدمين في وصفها مصطلحات متقاربة دلاليًا، مثل السيرة، والترجمة، والفهرسة، والمناقب، والبرنامج...والسيرة الذاتية كما عرفها فيليب لوجون بأنّها "حكي استعادي نثري يقوم به شخص حقيقي عن وجوده الخاص، عندما يركز أساسًا على حياته الفردية، ولا سيما على تاريخ شخصيته"، وبالتالي تكون عين الراوي / الانسان الصادقة هي البوصلة التي يجب أن يتقيد بها ويقول الحقيقة كاملة ولاشئ غير الحقيقة في علاقة بالأنا وبالغير فالمحدد إذن والمركز هو الراوي / الإنسان بقدرته التخييلية وإبداعه يكتب في الحاضر عن ماضيه ، منه الإنطلاق وإليه العودة ، وحده يملأ الفراغات ويسد الفجوات لكثرتها مرمما للروح التائهة البائسة ، وحده يحول صحراء قاحلة صفراء إلى غابة خضراء يانعة والصمت إلى كلام بواح فواح ووحده يجعل من الدمعة ابتسامة ومن النويح والبكاء ضحكات وقهقهات ، فهو الوحيد الواحد المتفرد بالتفاعل مع محيطه سلبا أو إيجابا ، باثا أو متقبلا ، محاولا تثبيت ركائز سلطته على الأرض متربعا على عرشها منذ أن تسلمها من والده قابيل القاتل لأخيه هابيل من أجل إمرأة ليعبث فيها فسادا وحروبا وقتلا وتدميرا وسفكا للدماء وإزهاقا للأرواح ، فهابيل الطيب مات مقتولا لم يترك ذرية تتبع خطاه وتتصدى للشر على الأرض وتنشر القيم الانسانية النبيلة ، ليترك الانسان/ الراوي بذلك وثيقة تاريخية حول بيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية ، فما فتىء هذا الإنسان سليل قابيل يعجن واقعه كما يعجن الصلصال ، يحوله ،يقولبه ويرسمه بريشته كما يريد أو هو واقعا / جسدا مريضا يفعل فيه مشرطه وكل الأدوات الطبية طبيبا جراحا علاجا له من كل الأمراض والأدران ، فيخلص بذلك نصه الروائي سير ذاتي من سطوة الذات منفتحا على عوالم أخرى حتى إن لم يكن يقصد ذلك ، فماذا لو كان هذا الانسان / الرواي هو القاص والطبيب الجراح والفنان التشكيلي والروائي نصر بالحاج بالطيب في روايته " الأيام الحافية " ، فالإنسان عند الراوي السير ذاتي نصر بالحاج بالطيب هو الذّي يجمع بين الجراحة والكتابة ، فالجراحة هي كتابة على جسد الإنسان المريض ، والكتابة هي جراحة لروح الانسان المريضة " . ليخلق أدوار أخرى ووظائف للسيرة الذاتية في الأدب العربي خارج ذاته حاملا لرسائل عديدة هامة جدا .
منذ البدء ومن خلال العتبات يظهر الراوي نصر بالحاج بالطيب متلبسا بذاته شديد الإلتصاق بها في روايته " الأيام الحافية " الصادرة في طبعة ثانية عن دار خريف للنشر خلال السنة الجارية ، صورته الشخصية وهو طفل أمام منزل العائلة الريفي ( حوش) بقرية دوز بالجنوب التونسي طبعت الغلاف الأمامي للرواية ، وصورته وهو في بداية شبابه طبعت الغلاف الخلفي مع إختيار اللون الأصفر الباهت للخلفية وهو لون الصحراء التي ولد وترعرع فيها صبيا ثم شابا وبقي مشدودا وأسيرا لها كهلا إلى أن كتب عنها ومنها القصة القصيرة ( زعفران سنة 2004 ) ، و( منكر يا شجرة سنة 2021) وكتب الرواية ( إنكسار الظل سنة 2012) ، ( تمبايين سنة 2022) و( بيرعوين سنة 2024 ) ليصبح بذلك عميد الأدب الصحراوي في تونس بلا منافس ، ومن خلال العنوان " الأيام الحافية " يركز الراوي على بواكير سيرته الذاتية وأيام طفولته الأولى التي مشى فيها حافيا دون حذاء ورغم إلتحاقه بالمدرسة الابتدائية بدوز فقد ظل يمشي حافيا حتى وهو على طاولة الدراسة داخل القسم ،" إنفجر صبي باكيا وهو يدخل قاعة الدرس حين وطأت قدماه الحافيتان أرضية القاعة الباردة " ( ص 105) ، مهديا الرواية إلى : حضن أمّه "الرّاقد تحت تراب دوز حيّا في قبر الذاكرة " مكثفا بذلك العلاقة الجدلية الثلاثية بين الراوي وأمه وقريته دوز مسقط رأسه وكلاهما يؤثر في الأخر ويتأثر به ليرسم بذلك سيرته الذاتية .
يعترف الراوي منذ الوهلة الأولى في متنه السردي أنه يكتب سيرته الذاتية " لست أدري إن كنت أتحدث عن سيرته أم أتحدث عن سيرتي .لعلي أجد نفسي أنزلق في خضم الحديث عنه إلى الحديث عن نفسي فتختلط عليّ سبل الحكي ثم أن للخيال نصيب " ( ص 20 ) ، فمنذ أيام الصبا الأولى في قرية دوز الصحراوية بالجنوب التونسي يرسم الروائي والقاص والرسام والجراح الدكتور نصر بالحاج بالطيب الملامح الأولى للوظيفة / الرسالة لنصه السير ذاتي و التي أراد إيصالها للخارج وهو أنه لم يكتب سيرته الذاتية من أجل إشباع نوازع ذاتية بحتة إرضاءً للطفل الذي يسكنه ، ذلك الطفل المولود في جويلية 1956 عانى كثيرا من الفقر والخصاصة وكان له دورا بارزا في فضح ذلك كتابة و تحديد العلاقات الاجتماعية عامة داخل قريته الصحراوية دوز أين يعشش التخلف والفقر والأمية ، " فالفقر كالشمس لا يحتمل حين يكون قريبا مستبدا ، تخف وطأته ويخبو لظاه حين يبتعد مشرفا على المغيب الصحراوي " ( ص 22) ، " والأمية يا ولدي أشد من العمى والخرس والكساح " ( ص 130) فقريته دوز ليست سوى مثال مصغر لأغلب تراب الوطن الذي كان يعاني من التخلف خلال خمسينات القرن الماضي مع بناء دولة الاستقلال بعد التخلص من الاستعمار الفرنسي ، والطفل " عبد الله " بطل الرواية وشخصية الراوي ليس سوى ممثلا للأغلبية الساحقة من أطفال تونس في فترة زمنية محددة من تاريخها وعلاقاتهم بالأسرية في مجتمع ريفي يلعب فيه الأب الدور المحوري كالوتد في جانبه المادي الظاهر للعيان " لم يكن الآباء يبدون حبهم وحنانهم للأبناء خشية المسّ من مكانة الأب ولكنّ المرض والصغر يثيران كثيرا من الحنو ويدكان أسوار القسوة السطحية " ( ص 69) والروابط العميقة بالأم في جوانبها الخفية والظاهرة ، فهي الحضن الدافئ والآمن " ، ليتلتها ولد شيء في الملكوت إسمه الشوق وركدت في قاع الفرح كآبة ..يهون القحط والفطام والمشقة متى لفّها حضن أمّه" ( ص 131 ، 134 ) ، وأعطنى لنا صورة حول بداية استكشاف الطفل / الراوي في القرية لعالم المرأة من غير المحرمات في الوسط الريفي الصحراوي " إكتشف الصبي أنّ المرأة ليست أما أو أختا فحسب فأستسلم لسحر الشذى المنبعث من جسد يلفه بخنوق يتدلى من تحته حزام يدور ما بين السرة والوركين " ( ص 116) فتظهر المرأة كالصحراء ، بل الصحراء هي المرأة " علمتهم الصحراء التي إحتضنتهم منذ الطفولة عشق الذات المبدعة ، ركوب الأحلام الخلاقة التي ترفع أصابع الخيال إلى سدرة المنتهى ، فالصحراء إمرأة يشتهيها الزمن فلا يدركها ...يتسلل إلى خدرها مها وأرداف كثبانها دون أن يقدر على المسّ من عفتها ..." (ص114، 115 ) هذا الطفل الذّي شكلت لديه محطة نجاحه في شهادة السيزيام والتحاقه بالمعهد الثانوي بقابس محطة فارقة في وبداية تشكل الثنائية في حياته ، الخير / الشر ، الجمال / القبح ، الريف / المدينة ، الصحراء/ البحر ، " كيف يحب الناس البحر ؟ هذا الأزرق الهائج الهادر في كل الفصول ، لو حاول اجتياح الصحراء لدفنته في رمالها فيكون مدّ لا جزر بعده...للبحر عادات قطاع الطرق والمستعمرين والقراصنة فهو يجتاح اليابسة رغم إرادتها ، يغتصبها ، يلقي بفضلاته على جسدها المستباح ..." ( ص 166 ، 167) وهو يصور الحياة الاجتماعية بين أبناء القرية الصحراوية ومكانة المرأة وكيف ينظر اليها الرجل " لقد أدركوا التغيير الذي تسلل إلى مخادع أجسادهم وأدركوا أنه لاح للآخرين أيضا حين بدأت بعض النساء والصبايا يغطين وجوههن عندما يلقونهم في الطريق . كان الغنبوز يملؤهم زهوا وميلا نحو هذا الجسد الملتحف من الرأس حتى القدمين ، لا يبدو منه إلا نصف وجه يغطيه " بخنوق" ينسدل من الرأس حتى الركبتين فوق ملاية أو حولي يصل حتى الكعبين . تطل بين الحولي والبخنوق خيوط الحزام كغمد شهوة وذؤابة أنوثة .يتمطى الحزام في الخفاء ما بين السرة والوركين " ( ص 113) وكأنه بذلك يؤسس لعالمين مختلفين متضادين ينفي كل واحد منهما الآخر والصراع بينهما صراع وجود لا صراع حدود رغم بعد المسافة بينها بأميال طويلة ليرسم نظرية التفاوت الجهوي بين مدن الساحل البحري ومدن الداخل الصحرواي بل يحدد كذلك معالم التفاوت الطبقي داخل قريته الصحراوية نفسها متساءلا حول التوزيع الغير عادل للثروة / الثورة " تساءل دون أن يلقى جوابا : لماذا أخذت العائلات الموسرة نصيبين لعائلة واحدة بينما أخذت العائلات الفقيرة نصيبا واحدا لعائلتين ؟" ( ص 100 ) " ماذا يحدث لو وضعنا غنيّا في كفّة وفقيرا في الكفة الأخرى ؟ ...تراه يتحدث كمنجنيق عن العفن الكامن في مجتمع تقسمه وتحكمه الطبقات " ( ص 83 ) ، " لماذا يملك بعض الناس الدكاكين والخزائن الملأى بالأوراق النقدية ولا يملك والدي مثل ذلك ؟" ( ص 84 ) وتأثير ذلك على النظام التعليمي الذي إنقسم إلى نظام تعليمي تقليدي خاص بالفقراء وأبناء الدواخل عبر الكتاتيب والتعليم الزيتوني " إنتهى عهد اللوح الخشبي وممحاة الطين والكتابة بالصّمغ الذّي يصنع من صوف مؤخرات النعاج المحروق .سترسمون الحروف بطريقة مختلفة وستكتبون بالحبر على على ورق مسطر " ( ص 102) ونظام تعليم عصري خاص بالأغنياء وأبناء الذوات وكيف سادت نظرة عدائية لتعلم أبناء العامة من الريف فالتعليم والثاقة ليست حكرا على أبناء الخاصة " تعلّم العامة فساد في الأرض " ( ص 141) ، هؤلاء الفقراء " لم يكن لديهم ولا لدى أهلهم مصعد آخر غير التعليم فشدوا عليه بالأظافر والأسنان " ( ص 108) وقد صور الراوي لسيرته الذاتية الحياة التلمذية في مرقد المعهد الثانوي بقابس والعلاقة بين التلميذ المقيم/ داخلي من أبناء الريف الصحراوي المحتاج دوما لكفيل الذي يتحول إلى مجرد رقم يخيط على كل ثيابه ويوضع على حاجاته والتلميذ غير المقيم / خارجي من أبناء الساحل البحري المديني ، في المبيت التلمذي أين يكون الوقت هو الشيء الوحيد المتوفر بكثرة يسرد الراوي علاقته لأول مرة بالكتاب والقراءة وولعه بالحرف والكلمة " انبهر بالتواء النون والصاد والرّاء ، بالشدّة والضمة والسكون ، ضمها إليه فسكنته رغبة جارفة " ' ص 72 ) " تكدست في قاع الحانوت كتب قديمة وجرائد يكسوها غبار هامد كفقر خجول ونسيان ميت وقال بصوت هادىء قديم : هل أجد عندك مسرحيات كورناي وراسين ؟ ديوان المتنبي ؟ " ( ص 154) دون التخلي عن البعد الفلسفي الوجودي " تساءل الصبي عن الكم الهائل من الأسف على الماضي والخوف من كل قادم ، هذا الاحساس القاتل الذي يسكن الناس ككائن أسطوري يسير الى الخلف " ( ص 89) " هل نحن الذين نمشي نحو العمر ونداهمه لنرتديه أم هو الذي يجيء إلينا فليفنا ونحن قابعون في فناء طفولتنا ؟" ( ص 113) ودون التغافل عن البعد السياسي الثوري " ولكن الاستماع لصوت العرب قد يجلب لنا الكثير من المتاعب فرجال الرعاية منتشرون في كل مكان ...سيؤدي بكم استماعكم إليها إلى السجن ، لا تقدم هذه الاذاعة غير الأوهام والأحلام " دق حنك" سوق كلام ستدب بينهم الخلافات وسيذهب كل إلى حال سبيله "" ( ص 51،49 ) " إن ربيعا عربيا في القلب يجيش " ( ص 91) ، " نحن جيل الحداثة سنبني دولة الإستقلال الحديثة " ( ص 103) .
كان متن نصر بالحاج بالطيب الروائي السير ذاتي وثيقة تاريخية يتجأ إليها المهتمين في مجالات العلوم الانسانية حول طبيعة النظام السياسي لدولة الاستقلال بعد تصفية اليوسفيين وإستتباب الأمر لصالح بورقيبة وكاشفا للمسكوت عنه / المخفي في الصراع البورقيبي / اليوسفي وتأثير ذلك على التكوين الذاتي للراوي الذي حفر بسيرته في علاقة الصحراء (دوز) بالبحر (قابس) لتكون وظيفة نصه الروائي السير/ذاتي وظيفة إصلاحية تثقيفية فاضحة لكل أشكال الظلم والحيف الاجتماعي والسياسي والثقافي / التعليمي الذي عاشه الجنوب التونسي خلال فترة أواسط القرن الماضي ، ولم يكن بذلك دور كتابة السيرة الذاتية عند نصر بالحاج بالطيب شفاء النفس الإنسانية وإعادة ولادتها وإصلاحها من جديد فقط ، أو كما هو عبر هو عنها " أكتب لإشباع رغبات الطفل داخلي " بل يتعدى ذلك لإشباع رغبات الانسان والوطن وعلاجهما من الأدران والأمراض عبر كشفها وفضحها .
بقلم خالد الكريشي