Print this page

في بعض عقبات حوار وطني جامع

هل بدأت مرحلة المراجعات السياسية للمعارضة التونسية ؟ يبدو ان الامر كذلك

حتى وان كانت مترددةوخجولة، لكنها بدايةتحسس أسئلة مهمة : كيف يمكن التواصل والحوار مع الاخر المختلف فكريا وسياسيا؟ وهل حان الوقت للتخلي عن السلوك الإقصائي الذي ساد بين مختلف التيارات السياسية ؟ وهل كانت خطابات التخوين والكراهية والوصم المتبادل هي التي عبدت الطريق الى غلق قوس الديمقراطية ؟ المهم هنا اننا خرجنا من تشخيص الأخطاء المباشرة والمتداولةحول العشرية الأولى من الانتقال الديمقراطي الذي كان مقتصرا على مظاهر معلومة،مثل الفوضى السياسية العارمةواهمال المطالب الاجتماعية للجهات الداخلية والشباب والتأخر في بناء المؤسسات... وهي كلها عوامل مهمة لكنها ليست كافية، في اعتقادي ، لادارك كافة جوانب ازمة هيكليةلها ابعاد تاريخية وثقافية وسياسية.

في جذور الازمة:
لابد ان يذكر كهول وشيوخ اليوم الذين كانوا مهتمين بالشأن العام خلال فترة ما قبل ثورة ديسمبر 2010-جانفي 2011، ضعف المواجهة مع السلطة وتواضع الطموحات،حيث اذا ما استثنينا بعض الانتفاضات المحلية التي اخمدت بالقمع والسجون ، مثل انتفاضة الحوض المنجمي (2008)، لم تكن المجموعة المشاكسة للسلطة تتجاوز بعض العشرات من الحقوقيين والسياسيين وبعض النقابيين ، ينتقلون من فضاء ضيّق الى اخر ، يُسمح لهم بالالتقاءوالحوار حينا ويمنعون احيانا ، اغلبهم يعيش حصارا امنيا شبه دائم، حتى اصبح جزءا من حياته اليومية...
لم يكن في حساب جلّ هؤلاءانهاءفترة الديكتاتورية ، على الأقل في الأمد القريب، بل كان اقصى الامل هو : نبش ثقب في جدار الاستبداد المنيع بأمنهالقوي وهياكله الحزبية النشطة ومخبريه المنتشرين في كل جزء من تراب الوطن والياته الدعائية في الداخل والخارج، ذاك الثقب الذي سنتنفس منه بعض الحرية حتى نستطيع التعبير...وحتى حركة 18 أكتوبر 2005 التي رفعت من سقف المطالب فان طموحها لم يتجاوز اطلاق سراح المساجين السياسيين وسن العفو التشريعي العام و السماح بالتنظمالجمعياتي والحزبي،وفي المحصلة، فان الحديث عن مطالبة المعارضة والمجتمع المدني بتغيير سياسي جذري لم يكن مطروحا ...
والامر لم يكن يفسّر بسوء في التقدير او بتجاهل قدرة الغضب الشعبي ، بل مرتبطا اساسا بهشاشة وضعف هذه المعارضة ، نتيجة الحصار الأمني المفروض عليها وغلق المجال السياسي امامها وغياب قاعدتها الشعبية وانقساماتها الفكرية الحادة، خاصة حين يتعلّق الامر بالعلاقة مع السلطة والبرنامج السياسي والبدائل الممكنة...لذا فالثورة لم تكن متوقعة ، وحتى الأسبوعين الاولين بعد احداث سيدي بوزيد كان دور المعارضة محدودا ولا يتجاوز ترديد شعارات الشارع ، لقد كانت ، فعلا، ثورة مفاجئة، للحكم والمعارضة وعموم الشعب والعالم، ثورة سرعان ما "انقلب خلالها الصمت الى ضجيج والهدوء الى عاصفة والخوف الى تحرر والقمع الساحق الى فيضان من الغضب" ، كما قالت عنها الدكتورة ليلى دخلي ، المختصة في التاريخ الثقافي والاجتماعي للعالم العربي.
عشرية الانتقال العسير:
لكن الانتقال الديمقراطي السلس لم يكن في حاجة الى اندفاع وحماسة وعواطف فقط ، بل كان يحتاج الى سيرورة هادئة ، مختلفة تماما عن عاصفة الاحتجاج، تغلب فيها التجربة السياسية والكفاءة والمصداقية التي تؤسس لعلاقة تشاركية قوية بين النخب السياسية وبين عموم المواطنين ، كنّا في حاجة الى تأسيس جديد :أحزاب سياسية تقترح برامجا وخططا لتكريس ما رفع –عفويا – من شعارات و ميثاق أخلاقي يحدد شروط التعامل بين الأحزاب السياسية ، التي تحكم والتي تعارض على حدّ سواء ، و الى دروس في الديمقراطية حتى نتواضع و نتعلم إدارة خصوماتنا كي لا تتحوّل الى عبث وعائق نحو تحقيق اهداف الثورة... وهنا لا يسعنا الا ان نتفق تماما مع الأستاذ بكار غريب الذي اعتبر "اننا فشلنا في إدارة مرحلة حاسمة من تاريخ بلادنا، (اذ) لم نكن في مستوى اللحظة التاريخية،"فالشعب الذي قام بدوره في الثورة واحدث التغيير في النظام السياسي ورفع مطالب محددة ، "كان في حاجة الى "نخب مسؤولة تحوّل الشعارات الى واقع والمطالب الى برامج سياسية." BaccarGherib 2011 au miroir de 1956))
فهل كان يمكن لنخب، تربت وهي سجينة بين اصفاد أيديولوجية مكبلة وقمع السياسي خانق، ان تحوّل ثورة صاخبة وحالمة الى انتقال ديمقراطي ناجع؟ ذاك يتطلب تربية سياسية كان يجب ان نتعلمها.
جمود الفكر السياسي:
يقول فيكتور هوغو: "لأشيء اكثر استثنائية من التمرد ، تنفجر الأمور دفعة واحدة،....لهب مفاجئ، قوة هائمة ، انفاس عابرة... تلتقي هذه الأنفاس برؤوس تفكر، وأدمغة تحلم، فتحملها بعيدًا." فهل وجدت الثورة رؤوسا تفكر لتحمل حلمها بعيدا؟ ام كانت ولازالت تراوح بين شعبوية هزيلة وقصور سياسي معيق؟
اجزم ان اكبر معيق لتطور الحياة السياسية في العشرية السابقة – والتي لازالت الى الان رغم الهزة العنيفة التي نعيشها- هو جمود الفكر السياسي واقتصاره على ترديد شعارات مستهلكة وأفكار مسبقة ويقينيات مثبتة منذ عقود في عالم يتغيّر باستمرار، حسب المصلحة وموازين القوى،
وحتى اذا نظرنا الى العلاقات الدولية، فاننا سنلاحظ انها تخضع السياسة اليوم الى البراغماتية والتفاعلات المستمرة وتغليب المصالح المشتركة، فلا عداوات دائمة ولا صداقات ثابتة، ولا مواقف قاطعة، فعدو الامس قد يصبح صديقا اليوم ، إذا اقتضت المصلحة الوطنية ذلك...
وبما ان الخلل في رؤية السياسية يؤدي حتما الى إخفاقات على ارض الواقع،فإننا سنظل على هذا الحال الى ان نراجع انفسنا بشجاعة ونشخص واقعنا بتروي وحكمة ونفهم متطلبات هذا الواقع في عالم متغيّر ، دون أيديولوجية قاطعة و أفكار مسبقة...
من ماسينا اليوم ان شعاراتنا القديمة ومواقفنا "الثابتة" في عالم متحرك وان توفر لنا اليوم وسادة مريحة محشوة بالطمأنينة وراحة البال وتمكننا من انتقاد كل المواقف المغايرة وشيطنة كل من يخالف مقدساتنا الفكرية، فإنها تحبسنا مثل رجال الكهف في "امثولة افلاطون": نرى انفسنا ومن حولنا عبر ظلال افكارنا وليس عبر نور الواقع امامنا ومن حولنا، لذلك ان غاب التشخيص الناجع، سنظل نراوح مكاننا حتى وان خُيّل لنا اننا نتحرك.
كانت رهانات غير محسوبة:
في كتاب "هل قلت تريد ثورة ؟المثالية الراديكالية وعواقبها الوخيمة" ، يستعرض الكاتب والمؤرخ الأمريكي دانيال شيروDaniel Chirot))مالات الثورات الكبرى ، ابتداء من الثورة الفرنسية ، مرورا بالثورة الامريكية و الروسية ووصولا الى الثورة الإسلامية في ايران ليخرج بنتيجة تستحق التأمل : ان اكبر خطأ يمكن ان يرتكبه أولئك الذين يسعون الى الاقتراب من الحكم هو دعم شخصية تتصاعد شعبيتها والسعي الى السيطرة عليها من وراء الكواليس كما فعلت سلطة الجمهورية الأولى مع نابليون بونابرت أو دعم الجمهوريين المعتدلين لدونالد ترامب حديثا ، انه خطأ لا يُغتفر لان المزاج الشعبي جارف وعادة ما يكون قادرا على قلب الطاولة والاخذ بزمام الأمور لتحويل الداعمين الحالمين الى مجرد متفرجين أو حتى ضحايا لا حول لهم ولا قوة...السؤال اليوم هو: هل خرجنا من الرهانات غير المحسوبة؟
الحقيقة لا اعتقد ذلك بالإضافة الى ان هناك عديد العقبات الكأداء التي يجب على المعارضة مواجهتها بجرأة وكفاءة حتى تستطيع الخروج من ازمتها و التأثير في ميزان القوى المخروم حاليا، منها تاريخ -وواقع- سياسي لازال مثقلا بالأيديولوجية وارهاصاتها، يتأفف من كل حوار جامع وبنية حزبية ضعيفة وغير متماسكة، تنظيميا وفكريا وغياب قاعدة شعبية حاضنة نتيجةالافتقار الى برامج سياسية جامعة مقنعة.

المشاركة في هذا المقال