إدراج أحكام تخوّل إلى عدول الإشهاد تحرير عقد من نوع جديد لم يعهده القانون التّونسي ، وهو عقد التّفرقة بين الزّوجين بالتّراضي ، و في ذلك منح لسلك العدول سلطة استأثر بها منذ الاستقلال و إصدار مجلّة الأحوال الشّخصيّة القضاء الدّولي التّونسي .
دون الخوض في التّفاصيل غير المتوفّرة، فإنّ مبدأ إسداء العدول مباشرة إجراءات الطّلاق حتّى و إن اقتصر على وجه من أوجهه، أي الطّلاق بالتّراضي دون الحالات الأخرى ( الطّلاق للضّرر، الطّلاق إنشاء). فإنّ هذا التّوجّه يشكّل خطرا على صلاحيّات السّلطة القضائيّة و على توازن المجتمع التّونسي برمّته، بزعزعة تركيبته المادّيّة والقيميّة ، و تراجعا على مكتسبات أساسيّة ميّزت تونس على غيرها من الدّول العربيّة و الإسلاميّة
إنّ القوانين الّتي تطرح مسائل مجتمعيّة لا تسنّ بهذه السّرعة، و الارتجاليّة الّتي يتميّز بها المقترح الّذي يبدو أنّه اقتصر على بند يتيم، لا يبحث في شروط الاتّفاق، و ظروفه، و في ضرورة التّأكّد من سلامة الرّضاء، و في آثاره القانونيّة عند التّنفيذ ، و خاصّة في صور الإخلال به، و لا في مراجعة البعض من تلك التّبعات المتعلّقة بالحضانة و بالنّفقة و بالغرامة، و هي من المسائل الوقتيّة القابلة للتّحيين حسب شروط قانونيّة و بحسب تغيّر الظّروف الخاصّة بالمعنيّين . فالمقترح خوّل فحسب للعدول حقّ الإبرام دون رقيب ، فلا نجد فيه سلطة ساهرة على التّدقيق و التّمحيص و التّصحيح. فمن يقوم بالإجراءات لدى مصالح الحالة المدنيّة، أو إدارة الملكيّة العقاريّة، عند الاقتضاء، و من يتحمّل المصاريف؟
إنّ مختلف هذه النّقائص تدلّ على أنّ هذا المقترح لم يدرس دراسة كافية، فلا بحث اجتماعي سبقه، و لا إحصائيّات اعتمدت، و لا معطيات اقتصاديّة برّرته، فلم يحدّد أسبابه، و لم يخض في ملابساته و نتائجه المحتملة على تركيبة المنظومة القانونيّة و توازن المجتمع التّونسي و خصائصه، إذ أنّه لم يكن موضوع نقاش عامّ شاركت فيه مختلف مكوّنات المجتمع.
و قد يكون سبب التّسريع في تقديم مقترح القانون، و هدفه، تجنّب النّقاش و التّمحيص في جدواه و آثاره المجتمعيّة و القانونيّة، الشّيء الّذي أدّى بأصحابه إلى عدم الانتباه إلى مخالفته لمقتضيات الدّستور، بل لعلّه فعل إراديّ الغاية منه التّنصّل من شرط التّصويت بالأغلبيّة المطلقة عند المصادقة على القوانين الأساسيّة.
إنّ التّنصيص على هكذا بند صلب قانون عاديّ مخالف لأحكام الفصل 75 من الدّستور لسنة 2022، الّذي يوجب اللّجوء إلى شكل القوانين الأساسيّة إذا تعلّق الحكم القانوني بتنظيم العدالة و القضاء أو الحرّيّات و حقوق الإنسان أو الأحوال الشّخصيّة.
فبصرف النّظر عن الآثار الإجرائيّة على أهمّيّيّتها الّتي تترتّب عن شكل القانون، فالمآخذ الأصليّة تدلّ بذاتها على الخطورة الّتي تتّسم بها المبادرة النّيابيّة.
و الواضح من مضمون المقترح اتّصاله أيّما اتّصال بهذه المسائل الثّلاث الّتي تعرّض إليها الفصل 75 المذكور لأنّ المقترح يغيّر تغييرا جوهريّا في سير العدالة و تنظيم السّلطة القضائيّة، إذ أنّ موضوعه، بل هدفه ، هو التّضييق في مجال اختصاص المحاكم، حيث يسحب عنها إحدى صور الطّلاق المعمول بها، و هي من أهمّ الصّلاحيّات القضائيّة.
1. فالمقترح يفضي إلى تغيير جوهري في الأسس القانونيّة لانفصام العلاقة الزّوجيّة، لأنّ الإرادة الفرديّة و العقد الخاصّ سيحلّان محلّ الحكم القضائي، و الحال أنّ الطّلاق ليس تصرّفا قانونيّا عاديّا.
و الفرق شاسع، فالقضاء يقضي بعد القيام بالعديد من التّحرّيات، حتّى و إن بنى حكمه على اتّفاق، لأنّ مثل هذا الاتّفاق خاضع إلى المراقبة القضائيّة، و المنشئ للطّلاق ليس الاتّفاق و إنّما هو الحكم القضائي.
أمّا عدول الإشهاد ، فلا يعدو أن يكون دورهم سوى تحرير العقود و غيرها من الحجج المثبتة للتّصرّفات القانونيّة، فهم يشهدون بصحّة الإمضاءات فحسب. و في المجمل عدل الإشهاد يسجّل و لا يقضي، فلا وجود عنده لمفهوم الفصل الّذي يتضمّنه القضاء.
كما ينجرّ عن المقترح حرمان المتقاضي من الطّعن بالاستئناف، خلافا لما هو الوضع حاليّا، في حين أنّ الدّولة تتعهّد بمقتضى الفصل 123 للدّستور على ضمان الحقّ في التّقاضي على درجتين. فلن يكون الأمر كذلك إزاء الاتّفاق على عقد الطّلاق بالتّراضي لأنّ مراجعته رهينة موافقة المتعاقدين. فالعقد شريعة الطّرفين، لا يصحّ تنقيحه إلّا بمقتضى اتّفاق لاحق ، و هو الأمر الّذي يخوّل لأحدهما الاعتراض و الرّفض، ممّا يحيل دون الأخذ بعين الاعتبار تغيّر المعطيات و الأوضاع و تبدّل الوضعيّات الواقعيّة للأطراف، فيجعل من العقد عقدا نهائيّا.
و أخيرا لا يمكن التّعلّل بأحقّيّة العدول في تحرير عقود الزّواج، لأنّ عدل الإشهاد عند تحريرها لا يقوم مقام القاضي، و إنّما يقوم مقام ضابط الحالة المدنيّة.
2. أمّا علاقة المقترح بالحرّيّات وبحقوق الإنسان، فهي جليّة، و هي نتيجة للإعتبار الأوّل، لأنّ الهدف الأساسي لتدخّل القضاء هو ضمان فاعليّة الحرّيّات و الحقوق، و نفاذها في الواقع.
فالحرّيّة تعني أن لا يلتزم المرء إلّا برضاه، شريطة أن يكون ذلك الرّضاء سليما، خال من كلّ عيب ، صادرا عن وعي تامّ بآثاره و تبعاته. و أمّا حقوق الإنسان، فهي تشمل كرامته الّتي لا يحقّ لأحد أن ينال منها، كما تعني كذلك حماية الحياة الخاصّة و العلاقات الحميميّة ؛ و هي تستوجب تحرّيات و احتياطات تضمن المساواة بين الزّوجين ، و عدم التّمييز بينهما، بسبب الجنس أو الدّين أو العرق. و هو ما قد لا يوفّره و يلبّيه في كلّ الحالات عدول الإشهاد في غياب االرّقابة القضائيّة.
فالعلاقة الّتي تربط بين رجل و امرأة تستوجب التّأكّد من سلامة الاتّفاق على الطّلاق، ليس من حيث الشّكل و الظّاهر فحسب، و إنّما و أساسا، من حيث جوهر المساواة بين الطّرفين من غياب الضّغوط و الإكراه المادّي و المعنوي، درءا للإستغلال المفرط لموازين القوى الّتي هي في مجتماعاتنا لصالح الرّجال على حساب النّساء، وهو واقع لا يحقّ للمشرّع تجاهله.
3. أمّا اتّصال المقترح بالأحوال الشّخصيّة، فهو الأوضح، و لا تستوجب تحليلا مطوّلا لأنّ الطّلاق يدرج كما الزّواج صلب النّظام القانوني للعائلة، و ما يترتّب عن انشائها و انقضائها من آثار، و هو كما هو الشّأن للزّواج المحدّد لما يسمّى اصطلاحا الحالة المدنيّة للفرد: أعزب \ متزوّج \ مطلّق .
فالأمر يتعلّق هنا برمز الحداثة التّونسيّة و بميزاتها السّياسيّة و القانونيّة و القيميّة و الاجتماعيّة.
4. قد يتعلّل البعض بتجارب أجنبيّة مقارنة خوّلت الطّلاق بالتّراضي دون اللّجوء إلى القضاء، وهي مقاربة سطحيّة، لأنّ هذه التّشريعات تتّسم بالتّشعّب و الدّقّة في التّأكّد من سلامة الاتّفاق و في تحديد شروط إنشائه و الآثار المترتّبة عنه، و هو أمر غاب عن المقترح المقدّم . كما أنّ هذه التّشريعات لا تقصي على وجه الإطلاق تدخّل القضاء،
علاوة على أنّ تقييم هذه التّجارب و نجاعتها و حماية الطّرف الأضعف محلّ جدل يبيّن أنّه لا يمكن الجزم إطلاقا بنجاحها.
و ليس معنى الاستئناس بالتّجارب الأخرى الانقياد لها.
و الأهمّ بالنّسبة للقانون التّونسي أنّ منطلقاته التّاريخيّة و الاجتماعيّة غير المنطلقات و الخاصّيّات الأجنبيّة.
أمّا المنطلق الأجنبي الأوروبي، فهو تحجير الطّلاق إطلاقا لقدسيّة الرّابطة الزّوجيّة الّتي لا تنفصل إلّا بالوفاة أو في بعض الحالات النّادرة بإلغاء الزّواج.
لم تعترف فرنسا بالطّلاق إلّا سنة 1792، خيار وقع تثبيته في المجلّة المدنيّة الفرنسيّة لسنة 1804. لكن ما أن عادت الملكيّة إلى الحكم بعد سقوط نابوليون، حتّى وقع إلغاء الطّلاق و منعه مجدّدا، من سنة 1816 إلى حدود 1884.
إنّ ما يميّز القوانين الأجنبيّة هذه هو التّشدّد في قبول الطّلاق، و حصره في حالات الخطأ أو الضّرر. فلم تحرّر هذه القوانين شروط الطّلاق إلّا بالتّدرّج على امتداد سنوات عديدة. و يمكن تلخيص مسارها في كونها مرّت من التّحجير و المنع إلى الإباحة و التّحرّر.
و على نقيض هذه التّجربة، تأتي التّجربة التّونسيّة، الّتي انتقلت من الإباحة غير المتساوية إلى التّأطير المتساوي و التّنظيم المعقلن.
فالمنطلق فيها الحرّيّة المطلقة الّتي يتمتّع بها الزّوج وحده بفصم العلاقة الزّوجيّة، يكفيه لذلك التّفوّه بألفاظ تفصح عن قراره وضع حدّ لها، و ذلك دون القيام بأيّ إجراء. و ليس للعادة الّتي اتّبعت في المدن و المتمثّلة في اللّجوء إلى عدول الإشهاد أيّ أثر على السّلطة التّقديريّة المطلقة للزّوج، لأنّ الهدف منه مجرّد تسجيل إرادته الاختياريّة، مع تحمّل عدل الإشهاد واجب إعلام الزّوجة بطلاقها.
لم يكن وضع المرأة على هذا النّحو، حيث كانت ملزمة بالالتجاء إلى القاضي الّذي يحكم بالتّطليق حسب شروط عويصة التّوفّر و في حالات ضيّقة أيّما ضيق.
جاءت مجلّة الأحوال الشّخصيّة تزامنا مع توحيد القضاء و عقلنة تنظيمه تحت سلطة الدّولة، بإلغاء المحاكم الشرعيّة و العبريّة. كما جاءت المجلّة لتصحيح الوضع تصحيحا جذريّا في الشّكل كما في المضمون. فألغت السّلطة التّقديريّة المطلقة و الأحاديّة الجانب للزّوج، و أطّرت على وجه المساواة التّامّة بين الزّوجين سبل الطّلاق الّذي فقد معناه التّقليدي الفقهي ليصبح بالضّرورة قضائيّا في كلّ الحالات. هكذا وضع حدّا للماضي و نظرته للعلاقات الزّوجيّة و لمكانة المرأة فيها. إنّ في التّأطير تضييق، مقارنة بالوضع الماضي، و في المساواة تحرير للمرأة.
فمن هذه الأوجه تميّز القانون التّونسي مقارنة بنضرائه في البلدان العربيّة و الإسلاميّة. و من أوجه أخرى، أصبح القانون التّونسي سبّاقا مقارنة بالقوانين الأوروبّيّة،
حيث فتح المجال للطّلاق إنشاء للزّوج كما للزّوجة، و هو ما سيعتمده مؤخّرا و باحتشام القانون الفرنسي، كما أقرّ القانون التّونسي الطّلاق بالتّراضي 19 سنة قبل نضيره الفرنسي الّذي لم يبدأ العمل به إلّا سنة 1975.
إنّ تدخّل القضاء لعقلنة العلاقات العائليّة و حماية أفرادها من مؤشّرات التّقدّم، كما تدلّ على ذلك التّجربة المغربيّة بعد تنقيح المدوّنة سنة 2004، إذ أنّ التّرخيص القضائي فيها إلزامي عند الاتّفاق على الطّلاق.
فهذا التّنظيم المعقلن هو الّذي يتهدّده خطر النّسف، و هذا التّأطير الممنهج هو الّذي تتهدّده الفوضى ، و هذه المساواة الّتي يهدّدها التّراجع، و هذا المجتمع الّذي يتهدّده فقدان االمكتسبات. فيخشى أن يكون هذا المقترح مؤشّرا لتراجعات أخرى، عوضا عن تثبيت المكاسب و تدعيمها و تعميقها. فالخشية ، كلّ الخشية، أن تصبح التّنقيحات التّشريعيّة تعلّة للعدو إلى الوراء و إلى الماضي.
إنّ القوانين الّتي يكتب لها الدّوام ليست تلك الّتي تحدّدها الخيارات الايديولوجيّة، أوالّتي تلبّي الحاجيات المصلحيّة الظّرفيّة و الفئويّة، و إنّما هي القوانين الّتي تساير تطوّر المجتمعات ، و تتناسب مع مقتضيات العصر، وتتماهى مع القيم الكونيّة الّتي تتقاسمها البشريّة و تؤهّل لبناء مستقبل أفضل.