Print this page

الهوس الأيديولوجي والكراهية

يسأل المفكر والشاعر السوري،ادونيس،"لماذا لم ننجح، نحن العرب، في بناء مجتمعات تكون فيه المواطنة هي الأساس؟"

واجابته اننالسنا مجتمعاتمتناسقة، بل تجمعات متناثرة ومتناقضة ومتعادية، تعيش داخل جزرذهنية منغلقة، رغم اننانتقاسم فضاءات واحدةتسمى"أوطان" ، لكنهافضاءات يتصارع داخلها أناس متسلطون،مهما كانت صلتهم بالحكم ، غايتهم ليس بناء مجتمع جديد قوامه العدل والحرية والتنافس السياسي السلمي ، بل كل همهم هو الظفر بالسلطة والمحافظة عليها باي ثمن.
ورغم ان ادونيس يرى ان مشكلنا الأساسي والازليهو "تسييس الدين وتديين السياسة" الا ان الامر، في تقديري، يتجاوز توظيف الخطاب الديني في الشأن العام ليطرح قضية علاقتنا بالأيديولوجيا، يسارية كانت ام يمينية ،دينية ام قومية شوفينية ، وتبنيها كعقيدة ثابتة ، فالأيديولوجيا، التي لا يرى صاحبها الواقع الا من خلالزاوية تفكيره الخاص ، تتحول، هي أيضا، الى مقدس وعقيدة ثابتة، ترفض بعناد أي تنسيب، وتسجن أصحابها داخل مجموعات مطبقة ،تماما مثل سجناء كهف افلاطون ،الذين لا يرون الواقع الا عبر عتمة يقينياتهم المظللة.
الحقيقة المطلقة:
وعقدةالأيديولوجيا انهاتتحول أحيانا من وجهة نظر وقراءة للواقع الى فكرة سرمدية راسخة حتى وان تعارضت مع هذاالواقع وسفهتها التجربة ودحضها العلم، قال غاليلي (Galilée)، حين رفض الناس اكتشافه المدعم بالحقائق العلمية حول دوران الأرض وتمسكوا برأي ارسطو -الذي تبنته الكنيسة-حول ثباتها: "حتى وان رأى الناس في الطبيعة ما يناقض راي ارسطو، فانهم يكذبون الطبيعة ولا يكذبون ارسطو"،ومع كهنوت الأيديولوجيا المعاصرة، يمكنك ان تعوض ارسطو باي مرجعية "مقدسة" أخرى، يمينية او وسطية أو يسارية.
الهوس الأيديولوجي:
في الحقيقة ، مشكلة الأيديولوجيا ليست فقط في افكارها المطلقة ولا قي حقيقتها السرمدية التي تتعالى بعناد على كل الحقائق الأخرى ، مهما كانت تجربتها واشتباكها مع الواقع ، بل في خطورة تحولها الى هوس مدمّر لتفكير الشخص والتفاعل مع من حوله، يقول جوسلين بيلونحي (Jocelyn Bélanger ) وهو أستاذ علم النفس الاجتماعي، ان مشكلة الأيديولوجيا انها تتحول، مع الزمن، الى هوس وبذلك تفقد التنظيم الأخلاقي الذاتي و تسمح بممارسات غير خاضعة لإدانة أخلاقية ذاتية ، ثم ان هؤلاء المتعصبين يرفضون كل نقد ويعتبرونه "تهديدا لوجودهم" وكثيرا ما يحيل هوسهم الى الكراهية ، ويغلق الباب امام كل تواصل مع الاخر، المختلف.
تنكر الأيديولوجية لأصولها الفكرية:
لكن تعالي الأيديولوجيا عن الواقع لا يمنع من انها ولدت من التراكمات الفكريةلهذا الواقع بمختلف مكوناته، الفلسفية والدينية والاجتماعية، خذ مثلا الماركسية ما كانت لتتشكل كأيديولوجية "علمية" لولا التطورات الفكرية التي عرفها كارلماركس عبر تاريخه الفلسفي، فهو قد استقى أفكاره من استاذه هيغل ، حين كان يناقش ضمن حلقات "الشباب الهيغلي" ، وهيغل، بدوره، غرف من الديانة المسيحية ، التي كان يعتبرها "الديانة المطلقة" ،حيث تربط فلسفته بين ثلاثة اركان : "الحرية والعقل والروح." والخلاصة ان الفكر، كما المعرفة ، مبني على التطور والتواصل والتفاعل مع كل المعطيات الثقافية والدينية والاجتماعية.
وع ان المسار الأيديولوجي يأتي دائما بعد تطورفكري وعملية بحث تراكمية،الا ان مشكلته الأساسية تظل انه وصل الى حالة من الانقطاع الذهني عن التفكير والتحصن "بالحتمية" ، وحينها تسجن الأيديولوجيا مريديها داخل شرنقة حقيقتها المطلقة وتبدأ في اجترار وتطبيق مسلماتها وتغيب مساحة الحرية التي هي أساس الابداع الإنساني ومحرّك رقيّه وتطوّره.
عقم الأيديولوجيا العربية:
هل هناك تناقض بين البنية الذهنية الأيديولوجية في فكر النخب السياسية العربية وبين الواقع العربي الذي تسعى الى تغييره؟ بالنسبة للدكتور سهيل الحبيّب ، الباحث الجامعي الذي كتب كثيرا عن الانتفاضات العربية ، اعادت النخب السياسية العربية، بعد " الربيع العربي" ،درب الدولة الوطنية في الشرق العربي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي واخطائه القاتلة ومالاته المحبطة ، حينها طرحت الأيديولوجيا القومية الناشئة التي حلمت بالوحدة العربية وتحقيق الازدهار للشعوب والقضاء على الاستعمار فكانت نتائجها مدمّرة، اذ افضت الوحدة الى مزيد التجزئة والتفتيت،و الاستعمار ازداد توسعا بعد الهزائم المتتالية امام إسرائيل والوهن امام القوى الإقليمية الصاعدة وارتفعت نسب الفقر والبؤس وتعمّق الاستبداد مع توسع شبكات الفساد والمحسوبية،
وكذلك الشأن بعد انتفاضات الربيع العربي، حين أعطت الجماهير الثائرة فرصة للنخب السياسية حتى تقود البلاد نحو الحرية والعدالة، لكن هذه "النخب الليبرالية واليسارية والإسلامية والقومية"، التي لم تحسم صراعاتها الفكرية في الفضاء العام قبل الحراك الثوري ، استبدلت عملية الانتقال الديمقراطي بمتخيلات أيديولوجية ، "طبقية" و"هواياتية " او "قومية" حتى افرغت الممارسة الديمقراطية من محتواها وهمشت عملية الانتقال، ليتحول الصراع الحزبي ، الذي من المفترض ان يتأسس على مضامين سياسية واجتماعية ، الى "تناحرات فئوية "
الحالة التونسية:
اعتقد ان الدكتور سهيل الحبيّب انطلق من مخبر التجربة التونسية بعد الثورة ، اين الأيديولوجيا بكافة تلويناتها استعادت نصوص الماضي "المقدسة"والصراع الطفولي ايامالجامعة ، دون اعتبار لما يتطلبه الواقع من نضج ، وكانت في انفصال تام عن اشتراطات الواقع السياسي والاجتماعيوكذلك المتغيرات الحاصلة في العالم، وبعد ان اهدرت الرصيد القيمي للثورة واضاعت فرصة ثمينة في التأسيس لمشروع مواطني حامل لهموم المواطنين ومشاغلهم وطموحاتهم، دفعت هذه القوى ثمن ترددها غاليا، لأنها، في نشوة غرورها ،لم تقرأ حساب الارتدادات ...
وبما ان الأيديولوجيا لا تقف عند محاولة اقصاء الاخر وتخوينهوتكفيره ، مثلما قال عزمي بشارة ، بل تتحول ، حسب تعبيره،"الى مبرر للقمع "فلك ان ترى اليوم ردود فعل بعض "التقدميين" حول معاناة مساجين من يختلفون معهم حتى تدرك حجم الكراهية والتشفي، الذي وصل لدى بعضهم الى حد المطالبة بالإعدام والقصاص ،حتى دون معرفة التهم ومدى جديتها ، ادراك يصيبك، أحيانا، ببعض الإحباط لأمرين : الأول ، ان التجربة الحالية ، على قسوتها لم تلقن ما يكفي من الدروس لتغيير الذهنيات المجيّرة والثاني ، لو قدر لهؤلاء ان يكونوا في السلطة ، يوما ما، الن تتحول الأيديولوجيا الحاقدة، هي نفسها ، الى "أداة للعنف"؟
.

 

 

المشاركة في هذا المقال