هذا العمل الفني الذي رُسم عام 1943، يصور طفلًا مندهشًا، متوجّسًا يحدّق في كرة أرضية متصدّعة كالبيضة ينبثق منها جسم آدمي يتصارع لكي يتحرّر. كانت هذه اللوحة بمثابة نبوءة تعكس عالمًا يتشظّى ليولد من جديد وسط فوضى عارمة. اقترب مني القائم على المتحف وهمس لي قائلاً أنه بالنسبة لسالفادور دالي، الجيوسياسة تسخر من الزمن، حيث الماضي والحاضر والمستقبل يتداخلون في دوامة لا تنتهي…
في العلوم الفيزيائية السفر إلى الماضي هو أمر مستحيل، ولكن في الجيوسياسة هي إمكانية مفزعة خصوصًا إذا كان الماضي أليمًا فكما يقول الشاعر البولندي Stanislaw Jerzy Lec: «كل قرن له عصوره الوسطى”، ويبدو ان قرننا قد استعاد روح العصور الوسطى من خلال التحالفات القائمة على المصالح الشخصية والصفقات المريبة، مع تجاهل الضعفاء وبناء الحواجز والتهجير القسري. لكن القرن الواحد والعشرون لا يقبل أن يُقيّد بأغلال الماضي، لأنه عصر الحركة المستمرة: تحركات البشر، تنقلات الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى البيانات الرقمية التي تعيد تشكيل العلاقات الدولية التي أصبحت متشابكة كما خيوط العنكبوت. ففي وقت يتمسك فيه البعض بأوهام ماضٍ ذهبي مبني على الانعزال والسيادة الانغلاقية، تبرز ثلاث أزمات هائلة تفرض علينا الجرأة والتعاون. وإذا غاب الرد الجماعي، فقد يكون هذا القرن هو آخر فصول قصتنا الإنسانية.
• ثلاثية الفوضى
فوضى التفاوت الاقتصادي (أو عالم الإنسان) :
في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الدول قادرة على النجاح بمعزل عن بعضها البعض. السياسات الشوفينية التي تركز على مصلحة الفرد أو الأمة دون مراعاة مصالح الآخرين تعمق من الفجوة الاقتصادية. فالتفاوت بين الدول يتسع بشكل غير مسبوق، حيث تتوسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتزداد الفجوات بين الدول المتقدمة والدول «النامية». في هذا العصر المتشابك، لا يمكن لأي دولة أن تحقق التقدم في ظل فشل الآخرين. عندما تُغفل العدالة الاجتماعية وتُداس حقوق الإنسان، يصبح التفاوت الاقتصادي تهديدًا حقيقيًا للسلام الاجتماعي والاقتصادي على مستوى العالم.
الفوضى المناخية (أو عالم الطبيعة) : بحلول عام 2050، قد يضطر 200 مليون شخص للهرب من مياه البحر التي ستغمر مدنهم. سنة بعد سنة، يلتهم التصحر 12 مليون هكتار من الأراضي الخصبة، مهدداً حياتنا الغذائية. ارتفعت حرارة كوكبنا 1.2 درجة عن ما كانت عليه قبل الثورة الصناعية، وكل درجة إضافية تزيد من حدة الفوضى المناخية. من شواطئ ميامي إلى أزقة مقديشو ، لا يعبأ هذا الخطر بالحدود أو بالإنسانية. النجاة أصبحت مسؤولية جماعية، في حين أن الانعزالية والانغلاق يزيدان من تأجيج هذه الكارثة الكونية.
الفوضى الرقمية (أو العالم الافتراضي) :
الفضاء السيبراني، أو ما يسمى بالـ «cyberspace»، هو بلا شك مكان ذو أهمية كبيرة. لكنه في الوقت نفسه يشكل ساحة من التوترات. إذا أُغلِق الفضاء الجغرافي، فإن كل شيء سيتدفق نحو الفضاء السيبراني. وبالتالي، سيصبح هذا الفضاء مكانًا مليئًا بالتوترات. باختصار، بسبب الاتجاهات السائدة نحو الانغلاق في العالم، سيكون الفضاء السيبراني بمثابة الوعاء الذي يجمع هذه التوترات. إذا لم نتمكن من إدارة هذا الفضاء بشكل صحيح على المستوى العالمي فإن الذكاء الاصطناعي سيرث الأرض.
• من رحم الفوضى الثلاثية، ولادة الإنسان الجديد؟
إن القرن الحادي والعشرين، في تحدياته المتعددة، يرفض الانكفاء على الماضي أو التكيف مع الحاضر المرهق. إننا نعيش في لحظة مفصلية، حيث تقف الشعوب في مواجهة التحولات العميقة التي تهدد استقرارها. هذا القرن لا يُحتمل في ظل العزلة أو التسلط أو الانغلاق. إن الأزمات الاقتصادية، والتغيرات المناخية، والفوضى الرقمية، كلها تدفعنا نحو ضرورة إعادة النظر في هوية الإنسان في هذا العصر. لكن من بين هذه الفوضى المتسارعة، هناك نداء غير مسموع، نداء يتردد في أرجاء العالم: نداء لولادة إنسان جديد. إن القرن الحادي والعشرين لا ينتظر مجرد قائد أو زعيم، بل ينتظر إنسانًا يمتلك القدرة على فهم التغيرات العميقة التي تطرأ على العالم ويعتمد على الشجاعة والتعاون من أجل بناء مستقبل مختلف. ذلك الإنسان الجديد الذي يعي أن العالم لم يعد يحتمل مزيدًا من الأنانية والانغلاق، بل يتطلب عقلًا جمعيًا يحرص على العدالة والمساواة، ويستشرف الحلول للمشاكل العالمية.b المستقبل الجيوسياسي ليس في واشنطن أو موسكو أو بكين، بل في الأرض نفسها. المستقبل يكمن في قدرة الشعوب على التعاون والتواصل، وفي البحث عن حلول تتجاوز الحدود والسياسات التقليدية. هذا الإنسان الجديد يجب أن يكون منبثقًا من هذه الأرض المتنوعة، المستعدة لمواجهة التحديات بروح عالمية. ولكنه لم يولد بعد، بل والقرن يترجاه، بكل فوضاه ومخاطره، أن يظهر.
...اقترب مني القائم على المتحف وقال: «سنغلق المتحف قريبًا»، فأجبته: «ربما، لكن هذا القرن لم ينتهِ من رسم لوحته»