التوجيه المدرسي: إجراء إداري روتيني أم مكوّن رئيسي في مسار بناء المشروع الشخصي للمتعلّم؟

محمد البشير الهيشري

أكّد السيد رئيس الجمهورية يوم الخميس 13 فيفري 2025 عند استقباله بقصر قرطاج السيد رئيس الحكومة

على ضرورة استيعاب المسؤولين مقاصد وروح دستور 25 جويلية 2022 أثناء أداء مهامهم فاستغربت من هذه الملاحظة، ربّما لعدم متابعتي للشأن العام بصفة منتظمة. إذ كنت أعتقد أنّه من غير الوارد أن يقوم إطارات الدولة بممارسات تتعارض مع روح الدستور أو مضمونه أو بإصدار نصوص ترتيبية لا تحترم مقتضيات ومضامين بعض القوانين السارية المفعول عوض تنزيل أحكامها على أرض الواقع.

لكن استغرابي تبدّد حالما اطّلعت نهاية الأسبوع الفارط على منشور التوجيه المدرسي الصادر عن وزارة التربية بتاريخ 21 فيفري 2025. فهذا النص الترتيبي الذي أعاد صياغة نسخته النهائية بعض إطارات وزارة التربية يفرغ عملية التوجيه المدرسي من معناها ويتناقض حتى مع المبادئ العامة التي وردت فيه.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة الى بعض النقاط الواردة بالمنشور المذكور أعلاه والتي تمثّل تهديدا لمسار بناء المشروع الشخصي للمتعلّم.
أوّلا، يشير هذا المنشور إلى اعتماد مقاربة كيفية وبيداغوجية لتربية التلميذ على الاختيار في حين أن بعض الإجراءات العملية الواردة به تستند ضمنيا إلى مقاربة التصرّف في الأدفاق التي اعتمدت في نهاية القرن الماضي وتم القطع معها بعد صدور القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 والمؤرّخ في 23 جويلية 2002. ويؤكّد الفصل الحادي عشر من هذا القانون التوجيهي على حقّ التلميذ في "اختيار مساره الدراسي والمهني عن دراية واقتناع" لأن ذلك هو جوهر عمليّة التوجيه والخيار الوحيد الكفيل بضمان تعليم منصف للجميع يراعي خصوصياتهم واحتياجاتهم الفردية. في المقابل، يحرم المنشور المذكور أعلاه التلاميذ من حقّهم في تعديل اختياراتهم بسبب التنصيص على ضرورة احترام أهرامات الفصول التي لا معنى لوجودها قبل انتهاء السنة الدراسية 2024-2025 وقبل حصول هؤلاء التلاميذ على معدّلاتهم السنوية!
ثانيا، يجعل هذا المنشور من اللقاءات الفردية أو الجماعية المفترض تأمينها لفائدة التلاميذ الراغبين في مراجعة مقترح التوجيه التمهيدي من أجل مساعدتهم على الوقوف على قدراتهم وميولاتهم الحقيقية إجراء دون معنى. فقرار الموافقة أصبح يخضع إلى أهرامات يقع إنجازها إداريّا في قطيعة تامة مع المبادئ العامة التي تتأسّس عليها عمليّة التوجيه المدرسي. وسيكون لهذا الإجراء تبعات خطيرة على مسار التلاميذ إذ ستقتصر قرارات مجالس التوجيه على معطيات كمّية بما لا يعكس ضرورة الملمح الحقيقي لهؤلاء التلاميذ وميولاتهم واستعداداتهم وقدراتهم. ومن المهم الإشارة إلى أنّ تقييد الموافقة على تعديل الاختيار بتوفّر المسلك أو الشعبة سيحرم بعض التلاميذ من حقهم في تعديل المسار وهو ما يتعارض مع مقتضيات الفصل الثاني عشر من القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 والمؤرّخ في 23 جويلية 2022 الذي يؤكّد على "مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص" لجميع المتعلّمين.
ثالثا، ستحدث بعض التناقضات الواردة بالمنشور المذكور أعلاه تشويشا واضطرابا على سير عملية التوجيه المدرسي لا سيما وأن مئات المعاهد لا تتوفّر بها كل المسالك والشعب الدراسية. وسيضطر العديد من التلاميذ وعائلاتهم إلى انتظار لجان إعادة التوجيه في شهر سبتمبر 2025 من أجل الحصول على قرار قد يحترم رغبتهم أو يجبرهم على الانتقال إلى معاهد أخرى في حين أنه يمكن حسم المسألة قبل نهاية السنة الدراسية من خلال تمكين هؤلاء التلاميذ من المسلك الدراسي أو الشعبة الدراسية المتوافقان مع ملمحهم المعرفي بطريقة تيسّر، في نفس الوقت، عمليّة إعداد أهرامات الفصول كما كان معمولا به سابقا.
إن التوجيه المدرسي، كمكوّن أساسي من المنظومة التربوية، لا يمكن أن يكون إلاّ فعلا تربويا صرفا يسعى من خلاله المستشارون في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي إلى حسن مرافقة التلميذ من أجل انجاح مسار بناء مشروعه الشخصي. وعليه، لا يمكن اختزال هذا المكوّن الأساسي في البعد التنظيمي والإداري بطريقة تنسف الأسس المعرفية والمقاربات العلمية التي ترتكز عليها منظومة التوجيه ككل.
إنّ الرغبة في تجويد عمليّة التوجيه المدرسي يمكن أن تصدر بعد القيام بعمليّة تشخيص للوضع التربوي يقوم بها أهل الاختصاص، وذلك حتّى لا تكون بعض المبادرات الشخصية في قطيعة تامّة مع المبادئ العامة للتوجيه وحتّى تنسجم مع مقتضيات النصوص المنظّمة لسير دواليب الدولة لا سيّما دستور 25 جويلية 2022 الذي ينصّ على توفير "الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين" وليس ارتهان مسار بناء المشروع الشخصي للمتعلّم لرؤية ضيّقة تختزل عمليّة التوجيه المدرسي في توقّعات وتقديرات لا تستجيب لتنوّع الملمح المعرفي والشخصي للتلاميذ.
وفي علاقة بإصدار منشور التوجيه المدرسي بتاريخ 21 فيفري 2025، يبدو مهمّا التذكير بأنّ هناك تقصيرا في مستوى تشخيص طريقة اشتغال منظومة التوجيه المدرسي والجامعي نظرا لرغبة بعض الفاعلين التربويين في تنزيل جملة من المواقف والتمثّلات المغلوطة ضمن توصيف عام دون نفاذ عميق لواقع هذه المنظومة وآليّات إشتغالها باعتبارها مدارا هامّا من مدارات الفعل التربوي.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ منتسبي السلك، بوصفهم يمثّلون الطرف الأقدر على تناول مسألة الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي وجلّ المواضيع ذات الصلة، على استعداد للمساهمة في تعديل منشور التوجيه المدرسي بطريقة تضمن حق التلاميذ في اختيار مسارهم أو تعديله واتخاذ القرار المناسب الذي يسمح لهم بتحقيق أهدافهم على المستوى الدراسي والمهني والشخصي والاجتماعي.

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115