جدل حول الزيادة في تعريفة الأطباء: الصحة ليس لها ثمن و لكن لها كلفة...فمن يدفع كلفة الصحة في تونس؟؟

أثار قرار عمادة الأطباء الزيادة في تعريفة الأطباء ثم التراجع فيها جدلا واسعا لدى الرأي العام.

و بقطع النظر عن الإنتقادات الحادة التي تعرض لها الأطباء فإن هذا الجدل يعكس عدم رضا التونسيين عموما على القطاع الصحي سواء كان خاصا أو عموميا.

فالمواطن التونسي الذي يدفع 3 مرات للصحة عن طرق الضرائب أولا و عن طريق المساهمات الإجتماعية ثانيا و ثالثا عن طريق ما يدفعه من جيبه مباشرة فإنه لا يتمتع بخدمات صحية في مستوى طموحاته. صحيح أن خدمات المستشفيات العمومية مجانية و لكنها عموما غير مرضية رغم مجهودات الإطار الشبه الطبي و الممرضين. و إذا توجه المواطن للعيادات و المصحات الخاصة فإن الخدمات عموما أحسن بكثير و لكنها باهضة و تتجاوز بكثير الطاقة الشرائية للمواطن.
من يدفع تكاليف العلاج في تونس؟؟؟
تقدر تكاليف الصحة في تونس بحوالي 8 بالمائة من الناتج الوطني الخام أي حوالي 10 ألاف مليار سنويا و هو نظريا رقم محترم مقارنة بالبلدان الشبيهة و البلدان المتقدمة. ( بين 8 و 12 بالمائة في البلدان الأوروبية )
و لكن المعضلة في توزيع هذه المصاريف. فإلى جانب الصندوق الوطني للتامين على المرض ( الكنام) و وزارة الصحة اللذان ينفقان في حدود 65 بالمائة على الصحة فإن المواطن التونسي يساهم بنسبة 35 بالمائة و هي نسبة مرتفعة جدا. فقد حددت المنظمة العالمية الصحة سقف إنفاق المواطن ب10 بالمائة حتى لا يكون ذلك الإنفاق على حساب مصاريف الغذاء و التعليم و الترفيه و غيرها.
لذلك فإنه من الأهداف الجوهرية هو تقليص إنفاق المواطن التونسي على مصاريفه الصحية لتتكفل بها سواء الدولة أو صندوق التأمين على المرض.

تونس : خليط من منظومة الرعاية و منظومة التأمينassistance et assurance ??
عموما يوجد هناك في العالم منظومتين للتكفل بالعلاج. فإما أن تكون الدولة راعية للصحة assistance حيث تتكفل بعلاج المواطنين مباشرة و مجانا و يكون التمويل عبر الضرائب. في حين اتجهت كثير من البلدان إلى إنشاء صندوق للتأمين على المرض assurance ينخرط فيه الأجراء و يدفعون اشتراكاتهم و هو من جهته يتكفل بمصاريف العلاج عند الحاجة.
و في تونس لدينا منظومة هجينة هي خليط بين المنظومتين أي منظومة التأمين و منظومة الرعاية. و هي تحتوي على عديد المساوئ كما نرى.
فلدينا صندوق وطني للتأمين على المرض ( كنام) أنشئ سنة 2004 و بدأ بالعمل سنة 2007 و يمثل إحدى أهم المنجزات الإجتماعية في تاريخ تونس المعاصر. و لكنه لا يتكفل إلا بالأجراء ( حوالي 8 ملايين بين مؤجرين منخرطين في الكنام و عائلاتهم).
في حين أن هناك ما يقارب 800 ألف تونسي يتمتعون ببطاقات العلاج المجاني أو نصف المجاني و يمثلون مع عائلاتهم ما يقارب مليونين و نصف و هم من الشرائح الضعيفة و الهشة. و هؤلاء غير منخرطين في "الكنام" لأنهم ليسوا أجراء و إنما يعالجون بمنظومة الدولة الراعية. و هذا حيف كبير و عدم مساواة بين كتلتين من المواطنين إضافة إلى مساوئ التصرف و الحوكمة في هذا النظام المختلط.
من جهة أخرى فإن "الصندوق الوطني للتأمين على المرض" لا يتكفل إلا بجزء محدودا من التدخلات الطبية و الجراحية. ففي منظومة الأمراض العادية و رغم أنها تمثل الجزء الأكبر من علاج المواطنين و رغم تحسن سقف السنوي للفرد الواحد فإنها لا تزال بعيدة عن ما يطمح له المواطن. أما بالنسبة للعمليات الجراحية فالصندوق الوطني للتأمين على المرض لا يتكفل إلا بما يقارب 30 تدخلا جراحيا من ضمن مئات العمليات الجراحية التي قد يخضع لها المريض.
خلاصة القول أنه لدينا منظومة رعاية صحية تشرف عليها الدولة غير مرضية. و لدينا منظومة تأمين على المرض جزئية و غير شاملة لجميع المواطنين.
"الكنام" : رافعة استراتيجية للمنظومة الصحية في تونس
في المستقبل من الضروري تجاوز هذا النظام الهجين كما فعلت عديد البلدان المتقدمة. و يكون ذلك بدعم التأمين على المرض assurance و تقليص دور الرعاية الذي توفره الدولة assistance في توزيع صريح للأدوار. فيكون دور "الكنام" هو تمويل علاج المواطنين و يكون دور الدولة تعديليا و رقابيا و إنجاز البنية التحتية و المشاريع الكبرى.
و أول شرط في هذه الإنتقال هو إنهاء عدم المساواة بين المواطنين و تقسيمهم الحالي بن مجموعة منخرطة "بالكنام"و مجموعة أخرى مشكلة من الطبقات الضعيفة تتكفل بها الدولة. لذلك من الضروري إدماج جميع التونسيين "بالكنام" و لو على مراحل تحقيقا للتغطية الصحية الشاملةcouverture médicale universelle .
من جهة أخرى على "الكنام" أن توسع تكفلها للأمراض لتشمل أغلب التدخلات و بأسرع وتيرة ممكنة. تذكيرا انه و في 2007 عندما دخل الصندوق مجال النشاط تم الإتفاق على أن يشمل التكفل جميع التدخلات في ظرف 3 سنوات. و لكن مرت الأن حوالي 15 سنة و لا يزال الصندوق بعيدا عن هذا الهدف. و على "الكنام" أن تحين اتفاقياتها التعاقدية مع مسدي الخدمات الصحية سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص من مستشفيات عمومية و مصحات و مخابر و أقسام أشعة.
و لا يمكن للصندوق الوطني للتأمين على المرض أن ينجز مهامه إلا بالترفيع في ميزانيته.
فلقد بدأ الصندوق سنة 2007 بنسبة اقتطاع تقدر ب 6,75 بالمائة من الأجور. و كان هذا أحد الفرضيات التي تمت دراستها أنذاك و التي تراوحت بين 5بالمائة و 9 بالمائة. و ربما حان الوقت للترفيع في هذه النسبة بنقطة أو نقطيتين و لو على مراحل ) نصف نقطة مثلا كل سنة) حتى يتمكن الصندوق من تطوير ميزانيته و يوسع تدخلاته في القطاع الخاص و العام و يمول الصحة بطريقة ناجعة. كما بالإمكان تطوير مداخيله عبر تدابير خاصة مثل سن ضرائب ضريبة على الكحول أو السجائر موجهة لتمويل الصندوق الوطني للتأمين على المرض.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115