التحديات المستقبلية للاتحاد العام التونسي للشغل

سامي عوادي

الأستاذ سامي العوادي جامعي ونقابي غني عن التعريف ومساهماته الفكرية والنضالية أكثر من أن تحصى،

ونحن اليوم اذ ننشر النص الكامل لمداخلته في المنتدى النقابي للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد يومي 24 و25 جوان 2024 انما نفعل ذلك ايمانا منا بأن هذه المداخلة تطرح قضايا جوهرية لا تهم فقط الحركة النقابية بل الحركة الديمقراطية عموما وهي في جوهر النقاش في احد أهم جوانب النجاح والإخفاق في التجربة الديمقراطية التونسية في علاقتها بمنظمة في وزن الاتحاد العام التونسي للشغل .

 

تعيش الحركة النقابية منذ سنتين تقريبا حالة تأزم أسوأ من تلك التي عاشتها عام 1985 اتّسمت بعطالة تامة لآليات العمل النقابي واهمها المشاركة في صياغة القرار عبر التحاور والتداول في امهات القضايا الاجتماعية عبر الحوار الاجتماعي.

ولئن عاش الاتحاد منذ ستينيات القرن الماضي أزمات مع السلطة وتصدع العلاقة وانقطاعها مع كبار رموزها بدءا ببورقيبة وصولا الى رئيسي الوزراء الهادي نويرة ومحمد مزالي وانتهاء بالوزيرين محمد الصياح وزين العابدين بن علي (وزيرا للدّاخلية آنذاك) الّا ان الجبهة الداخلية ظلت صلبة وتضامن النقابيين كان مشهودا والتنديد الشعبي والدولي بقمع النقابيين صارما والحاضنة الشعبية مشرعة أياديها تضامنا مع الاتحاد وقياداته في العاصمة وفي الجهات.

أما اليوم فان ما يزيد الازمة الحالية تعقيدا هو انعدام هذه الميزات التي وجدت خلال 1978 و1985، اذ اصبح النقابيون يلاقون النفور بل التشفي أحيانا فضلا عن الكيد لهم ونشر الشائعات حولهم بل ويعيشون حالة لفظ من الحاضنة الشعبية الطبيعية للاتحاد وهي الفئات المكونة للطبقات الوسطى والشعبية، تلك التي عطّل بعض النقابيين الخدمات شبه المجانية التي يتمتعون بها ويتمتع بها أبناؤهم مثل النقل والصحة والتعليم، مقابل ضمان إعادة انتخاب هؤلاء من طرف منظوريهم والمحافظة على امتيازاتهم العينية والمعنوية.

خلاصة القول فان المتوفّر الآن والبادي للنقابي المتمعن في واقع المنظمة ولنشطاء المجتمع المدني من أصدقاء الاتحاد هو الآتي:

• ان المنظمة النقابية تمر بفترة جزر لأنّها اساءت إدارة فترات المد وحولت سلطتها الاعتبارية الى نفوذ وُظِّف واستفادت منه بعض الاطراف النقابية في مختلف المسؤوليات.

• لم يكن للقيادة النقابية بحكم انشغالها بإدارة نفوذها على إدارة سلطتها الاعتبارية، الوقت أو الفرصة للسيطرة على النشاط النقابيّ الأمر الذي ولّد انفلاتا على المستويين القطاعيّ والجهويّ والامثلة على ذلك عديدة، وتسببت في إخراج الاتحاد من حاضنته الشعبية وتأليب جزء هام من الرأي العام ضده، مقابل محافظة بعض الأشخاص على منافعهم وتنفُذهم.

• أن المنظومة الإعلامية للاتحاد، اربكتها هذه التجاوزات وغلّبت مقولتي «عدم نشر الغسيل الداخلي» و»انصر اخاك ظالما او مظلوما»، ما جعل الرأي العام ينحو نحو العدوانية تجاه الفعل النقابي على خلفية ما عايشه مع تحركات قطاعات التعليم, النقل, الصحة... بل وتجاه قيادة الاتحاد ككل.

هذه الاعتبارات تحيل الى التساؤلات التالية :

• ماهي العلاقة السياسية التي يجب ان تسود بين الاتحاد ورأس الدولة الذي يبدو غير مؤمن بالقوى الوسيطة مثل جل الرؤساء العرب؟

• ما العمل لتجاوز حالة العطالة النقابية واستئناف الحوارات الاجتماعية؟

• ما العمل لتأمين رجوع الاتحاد الى حاضنته الشعبية؟

• هل يمكن للاتحاد ان يكون كما كان قبل الثورة حاوية للاحتجاجات الاجتماعية الأمر الّذي وفر له اريحية الفعل النقابي ومكنه في بعض الفترات من الفعل السياسيّ ؟

• كيف يمكننا التأكيد الفعليّ على المواقف التاريخية للاتحاد في علاقة بقضايا السلام والسلم والحرية والديمقراطية ورفض كلّ اشكال العنصرية؟

• ما العمل من اجل رد الاعتبار لصورة قيادة الاتحاد ودرء شبهات الفساد عنها؟

تأسيسا على هذا التشخيص السريع فان اهم التحديات يمكن ان تتلخص فيما يلي :

التحدي الأول : استرجاع المكانة الاعتبارية للاتحاد وقيادته والعودة الى الحاضنة الشعبية : عرفت هذه المرحلة دورا سلبيّا لبعض النقابات : الصحة والتعليم الأساسي والتعليم الثانوي والنقل والبريد... كانت سببا مباشرا في شرخ المكانة الاعتبارية للاتحاد خاصة لدى الرأي العامّ والفئات المستفيدة بشكل مباشر من خدمات هذه القطاعات والتي يجب ان يطمئنها الاتحاد اليوم وبكامل الوضوح انه يرفض كل التحركات في قطاعات النقل والتعليم بمراحله الثلاث التي تؤدي الى تعطيل امتحانات التلاميذ والطلبة او تعطيل الإعلان عن نتائجها، كما ان ما وقع من اهدار لأموال المستشفيات لا يجب ان يتكرر.

الرجوع الى الحاضنة الشعبية يتم أيضا عبر تبني مطالب الفئات الشعبية الملحة سيما التقليص من التفاوتات الجهوية في مجالات النفاذ الى العلاج العمومي في مختلف جهات البلاد والى طب الاختصاص، التعليم العمومي ذي الجودة الكافية، السكن الاجتماعي والنقل العمومي سيما في الاحياء الشعبية والمدن الداخلية وعبر المطالبة بمراجعة مجلة الأسعار في اتجاه إعادة الاعتبار للقدرة التعديلية للدولة والحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلكين.

التحدي الثاني : الاعتماد على هيكلة تنظيمية عصرية تضمن التداول على المسؤولية والشفافية في العلاقات والسرعة في اخذ القرار والحزم في التنفيذ كما تقطع مع الترضيات والزبونية والجهوية والتوريث.

مسألة الهيكلة التنظيمية للاتحاد لا زالت تشكل واحدة من أهم التحديات وأقدمها وكانت قد طرحت لأول مرة سنة 1984 وقد تناولها النقابيون في كل مرة دون العقلانية التي كانت تستوجب وضعها في اطار تصور متعدد الأبعاد لمستقبل العمل النقابي وللمهام النقابية الجديدة والأنشطة الاقتصادية الجديدة والأجيال النقابية الجديدة وبناء عليه الوصول الى الهيكلة الجديدة الكفيلة بتنظيم النقابيين لإنجاز هذه الأهداف بأوفر حظوظ النجاح وبأقل التكاليف والتضحيات.

الهيكلة الحالية تعود الى سنوات خلت، السبعينات تقريبا وهي استنساخ للتقسيم الإداري للدولة (اتحاد جهوي في كل ولاية واتحاد محلي في كبرى المعتمديات) وما عادت تستجيب الى متطلبات المرحلة على اعتبار أنّ :

- التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع التونسي قد تغيرت تغيّرا كبيرأ ـ كمّا وكيفا ـ بفعل الزمن والوقائع وحركة التّاريخ ذاتها على المستوى السياسيّ.

- المنظومة الشغلية شهدت هي أيضا تحوّلات كبرى أهمّها : تطور عمل المرأة والعمل المستقل والعمل عن بعد والاشكال العديدة للعلاقات الشغلية غير النّمطية

- تحول جزء هام من القطاع الخاص من رافعة داعمة للنهضة الاقتصاديّة الى قطاع ريعي يكاد يحجّر العمل النقابي.

- ظهور قطاع موازي ما فتئ يتضخم يشغل مئات الآلاف من العاملات والعمال جلهم بدون تغطية اجتماعية وكلهم بدون تمثيل نقابي.

- اندثار ثم بداية عودة الاقتصاد الاجتماعي التضامني وتحديات هيكلته النقابية، حيث لا تعلم ان كانوا اجراء أم أرباب عمل.

- ظهور خدمات جديدة اجتماعية واقتصادية لا تستطيع الهيكلة الحالية احتواءها.

رغم انف كل هذه التحوّلات ظلت هيكلة الاتحاد وطنيا وجهويا وقطاعيا صامة آذانها مديرة ظهرها بل تنظر اليها بكبرياء وإستخفاف (مثال ذلك مسألة الصحفيين الذين دفعوا من قيادة الاتحاد الى تكوين نقابة مستقلة)

لهذه الاسباب نقترح في ما يلي تصورا لإعادة هيكلة الاتحاد العام التونسي للشغل وهو مشروع كنت اعددته بتكليف من الأخ علي بن رمضان ثم الأخ نور الدين الطبوبي سنوات 2006 - 2007، وعرضته في ندوة نقابية ولم يتجاوز صداه قاعة الاجتماع ولاقى اعتراضا من بعض ممثلي الجهات والقطاعات، وحدث ما حدث لمشروع محمد الطرابلسي الذي رُفضت حتى قراءته خلال اجتماع المكتب التنفيذي آنذاك.

أرى وفقا للقراءة النقدية السّابقة أن هيكلة الاتحاد يجب أن تتوزع كما يلي:

1) جهويا : يكون الانتصاب في احواض التشغيل وليس في المراكز الإدارية (ولايات ومعتمديات كبرى) فبعض الاتحادات الجهوية أو المحلية في بعض الجهات لها نسبة انخراط محدودة وتكاد تقتصر على الوظيفة العمومية لافتقارها للمؤسسات الشغليّة بالمقابل تعرف اتحادات جهوية أخرى ضغطا بسبب حجم النشاط بمناطقها

2) قطاعيا :

- الاحتذاء بمنظومة الأنشطة الاقتصادية والمنتجات وتسمى NAP20 وتسمى دوليا CITI أي الاكتفاء ب 18 او 20 قطاعا كنت قد حددتها في المشروع الذي أشرت اليه سابقا

- القطع مع نقابة او جامعة عامة لمؤسسة واحدة (STEG, SONEDE, Tunisair, SNCFT, SNT) وضمّ بعض الأنشطة المتشابهة مثل النقل، والطاقة والمناجم وفصل بعض الأنشطة عن بعضها مثل السياحة والصناعات الغذائية.

3) وطنيا :

- المكتب التنفيذي : 11 عضوا على الاكثر (يشمل امرأتين على الاقل بالحصة عند اللزوم)

- احداث خطة نائب الأمين العام يتولى الاشراف على اللجان الوطنية وتوكل اليه مهام أخرى مثل الاشراف على معهد حشاد الذي سيأتي ذكره.

- لا يمكن الترشح لاكثر من دورتين انما يمكن لثلث الأعضاء الترشح لدورة ثالثة وأخيرة متى حصلوا على العدد الكافي من أصوات الناخبين أي كانوا ضمن الـ 11 الأوائل، ولا يمكن تعيينهم بالحصة ولا يمكنهم الترشح للأمانة العامة.

- الغاء قسم المالية وممتلكات الاتحاد وتكليف مكتب دراسات خاص بالمهمة والغاء تداول السيولة والصكوك داخل الاتحاد، فـالنقابي في اغلب الحالات لا يستطيع التصرف في مالية تقدر ببعض المليارات ولا في عقارات عديدة، والأمثلة عن التجاوزات وسوء التصرف عديدة. ولا خوف على أعوان القسم الحالي فلهم من الكفاءة ما يؤهلهم لتقلد مهام في مختلف هياكل الاتحاد.

- الغاء قسم الدراسات والتوثيق وقسم التكوين واسناد المهمة الى معهد حشاد للدراسات والتكوين على أن يسيره مجلس علمي ومدير تنفيذي ويكون تحت الاشراف المعنوي للأمين العام المساعد. المعهد يتلقى الطلبيات من القطاعات والجهات، يبرمجها بعد ان يصادق عليها المجلس العلمي ويحيلها على المكتب التنفيذي الوطني للمصادقة. وذلك لأن مهام الدراسات والتكوين تستدعيان تخصصا غالبا ما لا يتوفر عند النقابيين (مثال السحباني كان مسؤولا عن قسم الدراسات).

- نظرا الى كثافة نسيج شركات القطاع الخاص ومتطلبات تأطيره فاني أرى ضرورة تقسيمه الى قسمين، صناعات القطاع الخاص وخدمات القطاع الخاص.

- ضم قسمي الوظيفة العمومية والقطاع العام نظرا لأن هذا الأخير لا يحتوي الا على عدد صغير من المنشآت لا يستوجب افراده بقسم.

- الهيئة الإدارية الوطنية : 40 الى 45 عضوا لا اكثر حتى تكون اطارا للحوار العميق السانح لأخذ القرار الوجيه

- الاتحاد الجهوي : 7 أعضاء من ضمنهم امرأتان على الأقل بالحصة عند اللزوم

- الجامعة العامة : 7 أعضاء من ضمنهم امرأتان على الأقل بالحصة عند اللزوم

- النقابة الأساسية : 5 أعضاء من ضمنهم امرأة على الأقل بالحصة عند اللزوم

هكذا نرفع التحدي الثاني أي الاعتماد - وإن تطلب الامر اللجوء الى إجراءات استثنائية - على قيادة تضمن التداول على المسؤولية والشفافية في العلاقات وتقطع مع الترضيات والزبونية والجهوية، تعيد الاعتبار الى وقارها ومكانتها معبرة عن إرادة ناخبيها دون خضوع الى أي تاثيرات من خارج المنظمة واوصيها بالعمل على:

• ضمان الاستقلالية عن السلطة وعن الأحزاب والتفاعل مع المنظمات الوطنية والمجتمع المدني بما يدعم مجالات الفعل المدني الحقوقي الانساني .

• ضرورة مراجعة القانون الأساسي للاتحاد: واختصاره في 40 مادة على الأكثر (CSI 30, CFDT 42, UGTT +100)

• الحد من التدخل في تعيين مسؤولين في الحكومة والمؤسسات العمومية.

• مقاومة مظاهر الانفلات النقابية القُصوية دون تلجيم النضال النقابي وأيضا دون المساس بـمصالح الفئات الشعبية والوسطى وابناءها.

التحدي الثالث : مقاومة ظاهرة الانحراف بالعمل النقابي وهي أصبحت متفشية على خلفية تحول بعض النقابيين من التطوع والالتزام الى التنفّذ والانتفاع ناهيك عن بعض مظاهر الفتوّة التي يعمد لها بعض النقابيين في الدفاع عن بعضهم البعض في بعض المؤسسات (عنف لفظي وجسدي، منع وصول المسؤولين الى مكاتبهم، اقتحام مكاتب المسؤولين...) مما رسخ صورة غير حميدة عن «النقابيّ». وتجدر الإشارة في هذا المجال الى ضرورة مقاومة ظاهرة البرجزة النقابية embourgeoisement syndical وظاهرة تحول الاتحاد من منصة نضال الى مصعد اجتماعي.

التحدي الرابع : اعداد جيل جديد من النقابيين لاستيعاب التحولات الكبرى على المستويات البيئية والتكنولوجية وانعكاساتها على مستقبل العمل (اندثار بعض الأنشطة) وانعكاسات الثورة الصناعية الرابعة على عالم الشغل (بروز فئة جديدة من عمال الذكاء الاصطناعي والأتمةautomatisme ) وعلى العلاقات الشغلية (علاقات لانمطية).

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115