إذا كان المتكلّم إخوانيا فالحذر الحذر من المغالطات

الكلام عند العرب فنون ومراتب، اعتنوا بتصنيفه واختصّ به علماء في اللغة والكلام. وانبرى علماء في الحجاج شهد لهم الأصوليون بالعبقرية. لكن ما نعيشه اليوم هو بدعة إذا ما قارناه بنواميس الخطاب قديما.. وأكاد أعترف بنشأة مقاربات جديدة في فنون الكلام لن تعثر لها على أثر في مصنّفات القدامى.

ولا أقصد بالكلام الخطابة بقدر ما أعني أساليب الحديث المعاصرة المقنّعة بقناع السياسة والحاملة لمشاريع بديلة تسعى جاهدة إلى أن تتبنّاها المجتمعات العربية المعاصرة.

أتحفنا زعيم الإخوان المسلمين بتونس السيد راشد الغنوشي بتصريحين متتاليين ، تصريح في صحيفة تونسية وآخر في صحيفة قطرية. وإن بقيت على موقفي في اعتبار النهضة سليلة حركة الإخوان المسلمين ، فلأنّ رؤساءها باقون على وفائهم لمبادئ الحركة الأصلية، ولم يعلنوا عن تراجعهم صراحة ودون مواربة. أضف إلى ذلك التصريحات التي يدلون بها بين الحين والآخر يسهمون بها في وضع النقاط على الحروف، ويجدّدون بها عهدهم الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم.

قرأت الحوارين باهتمام بليغ، لأنّي لا أخفيكم، أريد أن أعثر على إشارات وإن كانت باهتة تنير فيّ الأمل لتغيير في هذا الحزب الذي كما قال عنه مالكه يمثّل نسبة هامّة من التونسيين، وإلى يومنا هذا تسعى جميع الأطراف إلى البحث عن منهج يضمن التقارب بصفة طبيعية لا مركّبة أو مسقطة من الخارج.

فأهمية هذين الحوارين تتنزّل في الزمن الذي تكلّم فيه السيد الغنوشي، وألخّصه في : الحالة التي تمرّ بها بلادنا من اهتزازات اقتصادية، سياسية واجتماعية أيضا. وخاصّة أنّها اهتزازات تنبئ بأزمات ستنعكس سلبا على جميع المستويات التي ذكرنا. أضف إلى ذلك موقعنا في المستوى العربي الإقليمي، وما تعانيه بقية الدول العربية من تحدّيات قد تهدّ المجتمعات العربية هدّا. ويقتضي هذا الأمر أن نكون جميعنا واعين بالمخاطر وأن يتنازل كلّ منّا عن بعض من طموحاته في سبيل تحقيق التقارب الذي تحدثتُ عنه أو لنقل بشيء من التجاوز «التعايش».

ففي أيّ سياق أنزّل حديث زعيم الإخوان بتونس؟
يمكن أن أكتفي بثلاث مسائل، مع التنبيه إلى أنّ الحوار ثريّ ويمكن للمختصّين أن يغنموا منه الكثير، وكلّ من موقعه. هذه المسائل هي: موقف الغنوشي من المعارضة بتونس، موقفه من المجتمع التونسي ، وبصفة أخصّ الأسرة، وموقفه من الدواعش وتنظيمهم.

1) أمّا فيما يخصّ الموقف الأوّل فإنّي أنقل ما ذكره السيد الغنوشي حتى لا أتّهم بالتحريف: يقول «هناك مشروعان في تونس مشروع التوافق ومشروع الاستئصال. المركبة التونسية في تصورنا ينبغي ان تحمل الجميع وان لا تلقي بأحد، الشعب التونسي اكثر شعوب المنطقة انسجاما دين واحد ومذهب واحد وعرق واحد ولغة واحدة وبالتالي لم يكن عجبا ان سبقت تونس في ان افتتحت الربيع العربي وانجزت ثورتها بأقل التكاليف. وليس ذلك فحسب وانما انجزت تحولا ديمقراطيا الجميع يعترف بأنه استثنائي في المنطقة العربية وصنعت دستورا توافقيا، ولكن هذا التمشي ترفضه أطراف معروفة لدواع ايديولوجية مقيتة أو لحسابات سياسية خاطئة أو في إطار أجندات مشبوهة.» أعتبر أنّ هذه الفقرة تلخّص في أسلوب بليغ ما صار متداولا منذ ما يزيد عن السنة تقريبا. وأودّ أن أناقش السيد الغنوشي في هذه المسألة: يبدو أنّك سيدي تروم تقديم تعريف جديد لمفهوم الاختلاف، ولمفهوم المعارضة، وأتساءل إن كان هذا الموقف يختلف عمّا عشناه زمن بن علي، أي زمن الحكم الاستبدادي، حكم الحزب الواحد. بل إنّ ما يخيفني أنّك تضفي إلى مفهوم الاستئصال شحنة تسعى إلى إيجاف الناس منها، والإيجاف هو التخويف، فمن أختلف معه يقف أمامي بلباس التقوى، وإن خالفته فقد أتهم بمخالفة الدين، والحقيقة أنّنا لم نتّهم بهذا، اتهاما صريحا على الأقلّ، زمن الاستبداد السياسي.

2) أمّا المسألة الثانية ، وقد عبّرت عنها بموقفك من المجتمع والأسرة التونسية، فهي في نظري امتداد للمسألة الأولى وأبدأ نقاشي لك بالسؤال التالي : ماذا تقصد بالاستئصال؟ ألست أنت أيضا استئصاليا عندما تدعو إلى إدخال المجتمع إلى خيمة الطاعة؟ ألست استئصاليا عندما تحتفظ بكتبك عن الإصلاح المجتمع ؟ وموقفك من المرأة؟ في كتابك « المرأة بين القرآن وواقع المسلمين» خاصّة أنّك أعدت طبعه في 2011 أي سنة الثورة ودون تنقيح ؟ ولعلّ الأخطر كتابك « الحريات العامّة في الدولة الإسلامية» والغريب أنّك أعدت طبعه في نفس السنة أي 2011، كتاب يتضمّن مشروعك السياسي والاجتماعي في أتمّ تفصيل: من حديث عن التعليم والنخبة والثقافة والأحزاب... والدولة والنظام السياسي. ويمكن أن أسميه « بالكتاب الأبيض للنهضة». وهو ديوان أعضاء النهضة يستلهمون منه خطبهم إلى يومنا هذا.

فمن أراد أن يعرف عن قرب « دستور النهضة» فليقرأ هذا الكتاب . فماذا تنتظر منّا؟ أن نصفّق لك؟ أم أن ندافع عن وجودنا ووجود بناتنا وأبنائنا؟ أنزع هذه المسلمة من ذهنك تسلم، فكلّ يدافع عن مشروعه، ومشروعنا سابق لمشروعك، لأنّه مشروع تونس منذ مئات السنين اختلطت فيه الأعراف البربرية بالرومانية والعربية والأوربية أيضا. فإن قبلت بأعرافنا لن تجد منّا سوى مهاد يحتضنك، ولسنا استئصاليين البتّة لأنّك أنت الدخيل ونحن الأصل. وتبعا لذلك، رجاء سيدي اجتنب كلّ فرصة تسمح لك بالحط من مجتمعك: فقد ذكرت ارتفاع نسبة الطلاق بتونس، وذكّرتني بالمثل السائر « ميمونة آش تكون من ربّي؟» ، ونسيت أنّ الطلاق تنهض به في بلدنا محاكم مدنية، ولهذا السبب فأنت تجد النسبة مضبوطة، بينما غيرنا من البلدان الأخرى تمارس الطلاق عن طريق محاكم شرعية، وهي في ضلال مبين أو في كثير من البلدان ينزل القضاء بالطلاق لفظا على الزوجة، وليس لك البتّة حيلة لضبط نسب الطلاق بهذه البلدان. وإن كنت أعلم جيّدا ما ترمي إليه من هذا المثال الذي أنزل بمثابة الذبابة في كأس ماء: فما علاقة حال التوتر التي يعيشها التونسي وانعكاسها على نسب الطلاق؟ حال التوتّر يا سيدي هي نتاج ما يمارس علينا من تجارب دخيلة علينا، حال التوتّر التي نعيش هي وليدة المشاكل الاقتصادية وتفاقم البطالة وتسرّب اليأس من غد أفضل في النفوس.... يبدو أنّك مهووس بوجوب الإسراع في تطبيق مشروعك الاجتماعي

علينا.. لكن ما كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه. لذا فالاستئصالي لا يقابله سوى الاستئصالي. وأنا أقول سوى من يدافع عن وجوده.

3) بقيت قضيّة موقف الإخوان من داعش: فكثيرا ما تساءل الناس ، ومنذ أن انتشر الدواعش في الأرض، عن موقف النهضة من داعش. وإن تساءل الناس فلأنّ الجواب الصريح مغيّب، وحتى إن ووجه الإخوان بهذا السؤال فسرعان ما يراوغون ويجانبون القضيّة. وفي الحقيقة أعتقد أنّ هذه المسألة تحرج المدرسة التقليدية، لأنّ داعش اتخذت من الشريعة مبدأ مقدّسا تنافس في قداستها القرآن الكريم واعتمدتها منهجا في بناء مجتمعها، وهي لا تختلف بتاتا عن منهج كثير من البلدان العربية في اعتماد الشريعة أصلا من أصول التشريع، وإن كنّا قد نجّانا الله تعالى من شرّ تأويلات القدامى عندما وقفنا ضدّ الغنوشي وجماعة النهضة في الصياغة الأولى للدستور. لذا، أعتقد انّ أوّل صعوبة يواجهها إخوان تونس في دعواهم بفصل الديني عن السياسي، وإن كانوا يستعملون الدعوي، هي في كيفية تجاوز المحنة من

القول الفصل في هذا الاتجاه الجديد، وكيفية اجتناب الحديث عنه باعتباره تنظيما إرهابيا يعمل على تقديم مفهوم جديد للإسلام، بالعودة إلى ما تضمنته كتب الرجال والتفسير والفقه. يقدم الغنوشي شهادة أعتقد انّها خطيرة جدّا خاصّة إذا ما وضعتها في سياقها مع دعواته إلى كيفية التعامل مع الإرهابيين العائدين من سوريا: « الإسلام الآن في حالــة غضب والغاضــب أحيانا يخرج عن طــوره ..ويعبر تعبيرات غيــر معقولة حتى تخاله مجنونا...» كلام خطير، لماذا؟ لأنّ الغنوشي يعتبر داعش ممثّلين شرعيين للإسلام، وعلى هذا الأساس فما يطبقونه من تشريعات هي مقاصد الشريعة التي يطمح إلى فرضها علينا ، ورغم أنّ الدواعش ينكرونه باعتباره رمزية دينية، فهو لا يزال على عهده في اعتبارهم من أهل ملّته. ولا يمنعني إن استنتجت أنّه يعتبرهم إخوانه في العقيدة بينما نحن ، من نعتنا بالاستئصاليين خارجين عنه، وقد نشبه الخوارج أو الشيعة. كلام يدفعنا إلى الريبة في مستقبل بلادنا مع شخص يحمل هذه المسلّمات. وتزداد الخطورة عندما يعلّل جرائم القتل والتعذيب التي يمارسها الإرهابيون بجميع الدول في العالم بأنّها تعبير عن غضب، غضب من ماذا بالله عليك؟

من رفض لمشروعهم؟ أم رفض لتعيينهم أولياء أمر على العالم؟باختصار، لأنّ المجال لا يسع مزيدا من التحليل: ورد حديث « الشيخ» عن داعش مثل حديث الأب عن ابن مدلّل لا يعجبه العجب. وأعتقد انّ هذا الموقف ليس جديرا بموقف شخصية سياسية تقدّم نفسها لأروروبا وأمريكا وأستراليا على أنّها رسولة الإسلام المعتدل القائم على التسامح. فالإسلام كما عبّر عنه الغنوشي، هو إسلام دم وحشيّ وبدائي وغريزي، لا غير. وحاشى الله سبحانه وتعالى أن يكون أراد لنا هذا النوع من الإسلام دينا.
كلامي الآن أوجّهه إلى السيد الباجي قائد السبسي: إليك سيدي هذه الشخصية التي فرضتها على المليون امرأة، مليون امرأة كانت تعلم جيدا أنّهم لا يتغيّرون، مليون امرأة أدركت أنّها فريستهم التي يبحثون عن التهامها. وأنّ صبرهم طويل.. زدت سيدي في تعقيد نضالنا لأنّك بتحالفك معه قمت باستقوائه علينا. وهو لا يضيع فرصة في إيذائنا باللسان، ولو أمكنه باليد لفَعَل.

ومع ذلك، فأنا مازلت مؤمنة أن يتغيّر هؤلاء، وصبرنا طويل أيضا،و لأنّه ليس لنا من خيار سوى « التعايش» . فليكن على الأقلّ تعايشا قوامه الاحترام وقبول الآخر إنسانا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115