الأزمات ومخاضات الأمل والمستقبل: نحو سياسات زراعية بديلة

ساهم الاقتصاد السياسي ورجال السياسة والمسؤولون التكنوقراط في بناء قناعة راسخة وعميقة على مر عقود من الزمن،

وهي نهاية الفلاحة والعالم الفلاحي ومرور المجتمعات البشرية الى عالم ما بعد الفلاحة .

وقد شكلت عوالم المجتمع الصناعي او مجتمع الخدمات والمجتمع الافتراضي في السنوات الاخيرة آفاقا لتطور الانسانية والخروج من المجتمعات الفلاحية التقليدية.

وقد ارتكزت هذه القناعة التي اصبحت بمثابة العقيدة التي حكمت المجتمعات الحديثة منذ القرن التاسع عشر على ثلاث مسائل اساسية. اولاها السند الفكري والفلسفي لأفكار التنوير والتحديث والتي اعتبرت ان المجتمعات البدوية والقروية ومجتمعات محافظة ورافضة لفكرة التقدم والتطور.وقد اثر هذا التصور الفكري على اهتمام السياسات العمومية في المجتمعات الحديثة على حساب السياسات الزراعية وادى الى تهميشها . وهكذا اصبحت القرية الزراعة في المخيال الحداثي والتنويري مرادفة للفكر المحافظ والمجتمعات البدائية التي لم تتحرر من المنظومات الاقتصادية التقليدية .

اما المسألة الثانية والتي تفسر تهميش الفلاحة والزراعة في الفضاء العام وخاصة في مجال السياسات العمومية فهي نتيجة الابحاث والدراسات الاقتصادية ففي مجال الاقتصاد السياسي والتي اشارت منذ القرن التاسع عشر الى نتيجة مهمة وهي تحول الديناميكية الاقتصادية بصفة تدريجية من القطاع الفلاحي الى القطاع الصناعي ثم الى القطاع الخدماتي. وقد اشارت هذه الدراسات الى ان هذا التحول كان نتاجا طبيعيا لتراجع انتاجية القطاعات الاقتصادية في الفلاحة وارتفاعها في القطاعات الاخرى مما حول وجهة الاستثمارات نحو هذه القطاعات .

اما المسالة الثالثة والتي سرّعت في تهميش القطاع الفلاحي فتعود الى تطور بعض الصناعات الغذائية التركيبية (synthétique) والتي تمكنت مع تعويض بعض المنتجات الفلاحية .وقد ساهمت هذه التطورات والعناصر المجتمعة في تهميش المجال الفلاحي وبناء قناعة راسخة صمدت على مر عقود طويلة تقول بنهاية عالم الفلاحة ودخولنا الى عالم التقدم والرفاه الذي يمر عبر الصناعة والخدمات والعالم الافتراضي إلا ان التطورات والتحولات التي عرفها العالم في السنوات الاخيرة اثبتت عدم صحة هذه القناعة الموروثة منذ عقود وأعادت المسألة الفلاحية الى الاوليات الكبرى في السياسات العمومية على المستوى العالمي . ولئن عانت البلدان المتقدمة من الانعكاسات السلبية لتراجع الفلاحة رغم مواصلة دعم هذا القطاع الا ان الازمة كانت اكثر حدة في البلدان النامية حيث قاد تهميش القطاع الفلاحي الى تعميق التبعية الفلاحية وتراجع القطاع وظهور الجوع في عديد البلدان.

وقد ادت هذه الازمات الى اعادة النظر في القطاع الفلاحي وإعطائه الاهمية الاستراتيجية التي يستحقها ليكون عنصرا اساسيا في استراتيجيات بناء السيادة الاقتصادية في البلدلان النامية. وقبل الخوض في الاسباب العميقة لازمة القطاع الفلاحي التي تهز استقرار البلدان النامية سنتوقف عند انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية .

انعكاسات الازمات الفلاحية

في البلدان النامية

كانت للازمات الفلاحية وتهميش القطاع الزراعي انعكاسات كبيرة على الاقتصاديات النامية في السنوات الاخيرة وأثرت بطريقة كبيرة على الاستقرار الاقتصادي والمالي وحتى السياسي لهذه البلدان .

ويمكن في هذا المجال الوقوف على خمسة مظاهر كبرى وأساسية لانعكاسات الازمات الزراعية في اغلب البلدان النامية .

اما الانعكاس الاول فيهم تراجع النمو الاقتصادي في اغلب البلدان النامية بسبب تراجع الاستثمار والدعم في عديد المجالات كالمواد الاولية وغيرها .وكان لهذا تأثير كبير على جميع المستويات الاقتصادية والمالية لأغلب الدول النامية .

اما التأثير الثاني لهذه الازمات الفلاحية فيهم تزايد التبعية الفلاحية لأغلب البلدان النامية. فقد قاد تراجع النمو الزراعي وخاصة في القطاعات الاستراتيجية الى تزايد التوريد لتغطية الحاجيات الاساسية للسكان في اغلب البلدان النامية .

وقد اثر تراجع النمو وارتفاع التبعية في القطاع الزراعي الى ارتفاع كبير في اسعار المواد الفلاحية خاصة المستوردة منها والتي عرفت ارتفاعا كبيرا في الاسواق العالمية نتيجة الازمات الجيوسياسية. وكان لهذا التضخم انعكاس كبير على تدهور المقدرة الشرائية . وكانت لازمة القطاع الزراعي نتائج وخيمة على مستوى المعيشة في القرى والأرياف في اغلب بلدان العالم الثالث مما ساهم في النزوح الى المدن والهجرة غير النظامية نحو البلدان المتقدمة للهروب من الفقر.

كما كان لهذه الازمات الزراعية تأثير كبير على توفير الحاجيات الاساسية للسكان مما ساهم في ظهور الجوع من جديد في عديد البلدان النامية .

وقد شكلت هذه التطورات ابرز سمات ازمة القطاع الزراعي في البلدان النامية .ولم تكن هذه الازمة وليدة اللحظة او بعض الظروف بل كانت نتيجة اختيارات استراتيجية على مستوى السياسات العمومية في البلدان النامية ادت الى تهميش القطاع الزراعي

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115