لمسرحية «رقصة سماء» ما تقوله

الطاهر بن قيزة
أكثرنا يتفق على أن الفاضل الجعايبي مدرسة فنية راقية لها جمهور كبير وأحباء مولعين بأعماله،

وقد أنتج من المسرحيات ما يشرف كل تونسي. وقد حصل سنة 1985 أني دعوت جميع تلاميذي في معهد العمران لعرض خاص بهم في المسرح البلدي لمشاهدة «عشاق المقهى المهجور». كان يوما مشهودا لتلاميذي الذين يشاهدون لأول مرة في حياتهم مسرحية بالمعنى الحقيقي للكلمة وكانت تجربة بيداغوجية صالحت الشباب بالفلسفة. تتالت بعد ذلك الروائع وصار الجعايبي رمزا من رموز المسرح التونسي. ما حدث من فعل وردة فعل من قبل مدير مهرجان الحمامات الدولي لا يبرر إلغاء عرض «نهاية البحر» بأي تعلة من التعلات، خصوصا تلك التي تفرض أنا أعلى على المسرح وتدعي الدفاع عن الأخلاق الحميدة. ومهما كانت ملابسات إلغاء مسرحية الجعايبي فلا أفهم لِم يعامل الإداريون المبدعين في بلادي بهذه الطريقة. أهو الخوف العارم عن فقدان موقع سلطة ونفوذ. أشعر أننا ننخرط رويدا رويدا في سياق اللاثقافة التي لا تقبل إلا بالرديء ولا تعترف إلا بالطريف والظريف والهزيل والهزلي.
علمت أن مسرحية «رقصة سماء» للطاهر عيسى بن العربي قد بُرمجت بعد أيام عن مسرحية الجعايبي. غير أن ما يثير حفيظتي واستغرابي ممن يدعون أنهم نقاد مسرحين -ولا ادعي بدوري ذلك- أنهم ذهبوا من تقريض عمل الجعايبي إلى قدح عمل بن العربي. هل يعني ذلك أن عدم اختيار مسرحية الجعايبي يعني رداءة عمل الطاهر عيسى بن العربي؟ هل أن تقريض هرم مثل فاضل الجعايبي يفترض قدح عمل جاد مثل «رقصة سماء» واستنقاصا من كفاءة مخرجه واتهامه بالمتربص (قال بعضهم: سنة مسرح مقارنة مع خمسين سنة مسرح)؟
لا أعتقد. صادف أني شاهدت في هذا الموسم ثلاث مسرحيات (!) للطاهر عيسى بن العربي. أحببت كثيرا ما قدمه في «الأمير الصغير» الذي أيقض فيَّ طفولتي وجعلني أزهو من فرط مرح العمل وتقنياته وآداء الممثلين، خصوصا لمين النهدي الذي أبرز قدرة على التجدد لم أرها فيه من قبل. ولكن لنبقى في «رقصة سماء».
نص المسرحية مكتوب بحنكة وجمال يصل أوجه في محاكات نص أليف شافاق المحاكي بدوره «لقواعد العشق الأربعين « لشمس الدين التبريزي. فجمال تواتر الشعر والنثر يُكسي المسرحية جمالية زادتها السينوغرافيا بعدا سينمائيا يجعل الركح يتضمن ركحا آخر هو عبارة عن شاشة حية بألوانها وشخوصها التي تظهر ثم تتوارى كمن يسبح في الزمن. إنه زمن التصوف الذي يأخذك إلى ديمومة لا يترتب عنها فعالية واقعية نفعية باهتة بل تصلك بعالم المطلق ليكون سبيل الإحلال الذي هو سبيل العشق. أدى بعض الممثلين شخصيات متعددة بحرفية عالية. وكانت الشخصية التي أدتها منى نور الدين ضربا من الفعل النقدي الذي يذكرنا بضرورة حضور القديم في الجديد. تؤدي منى نور الدين في «رقصة سماء» دورا جميلا وأنيقا يليق بمقامها. وجميل أن يحمل القديم الجديد بروح الانفتاح المميز للعشق. لذلك لا يجوز حسب رأيي فهم جزئية مشاركة منى نور الدين في هذه المسرحية من وجهة نظر جزئية. ثمة فارق أساسي بين الحكم على الكل وفق الاجزاء والحكم على الاجزاء وفق الكل. وهنا يظهر الفرق الشاسع بين ما هو كمي وما هو كيفي. فإن قلنا إن الخط من أ إلى ب خط مستقيم، فإن الجزء من الخطأ أ إلى ج خط مستقيم أيضا. فما هو صحيح على الكل يصح على الجزء. غير أن الأمر يختلف اختلافا جذريا في شأن الأثار الفنية. فخذ أروع جزء من لوحة بيكاسو غيرنيكا مثلا فسيظهر لك الجزء منها بلا جمالية تُذكر. لأجل ذلك، فالقول بأن اختيار «رقصة سماء» كان بدافع تكريم منى نور الدين استنقاص للعمل وط من قيمته الجمالية التي تظهر في سرديته الكاملة. وإن كانت سردية المسرحية تستحضر وضع امرأة تعيش رتابة المتزوجة ويُباغتها نصٌ وكاتبٌ تخرج بفضله من جلدها لتكتشف روعة العشق، ففي ذلك ابراز لأهمية القراءة ولأهمية النص في المسرح. أسلوب كتابة «رقصة سماء» يذكرنا بالفن الباروكي الذي يجعلك تفتح بابا فترى مدينة. أدى بي هذا الأمر أحيانا إلى فقدان إيقاع أحداث المسرحية. ورغم ذلك ثمة تناغم جميل بين الموسيقى والملابس لا سيما المشاهد التي تصف علاقة التبريزي بالرومي.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115