الشعبوية في أوروبا : من الراديكالية الثورية إلى اليمين المحافظ

تعتبر السنة الحالية 2024 سنة محورية على المستوى السياسي عالميا.

فقد عرفت عديد البلدان المهمة والمؤثرة في السياسة الدولية مثل روسيا والهند وجنوب افريقيات انتخابات مهمة سيكون لها تأثير كبير، لا فقط، على التوازنات السياسية الداخلية بل كذلك على مستوى العالم..ولئن لم تأت بعض الانتخابات بمفاجآت كبيرة كما حصل في روسيا فقد حصلت تغييرات كبيرة في عديد البلدان الاخرى .في جنوب افريقيا فقد حزب المؤتمر الوطني الافريقية الاغلبية المطلقة مما اضطره الى تكوين تحالف مع حزب التحالف الديمقراطي المعارض ذي المنحى الليبرالي لتشكيل الحكومة وإعادة انتخاب الرئيس راما لولاية ثانية .

لئن رحبت الاوساط اليمينية بهذا اللقاء والذي سيساهم في محاربة الفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة وانخرط فيه عدد كبير من زعماء الحزب الحاكم الا انه اثيرت عديد المخاوف من قبل المنظمات الاجتماعية وبصفة خاصة نقابات الكوساتو (cosatu) خشية أن يحمل ذلك في خفاياه تراجعا كبيرا على المكاسب الاجتماعية ودور دولة الرفاه الذي جسدته الحكومات المختلفة في جنوب افريقيا منذ سقوط نظام الابارتهايد العنصري .

وفي نفس الاتجاه شكل التراجع الكبير لحزب الوزير الاول نارندار مودي في الهند مفاجأة كبيرة حيث لم يتحصل في الانتخابات إلا على 272 مقعدا من مجموع 543 مقعدا .ولئن مكنت هذه النتائج الوزير الاول من المحافظة على مقعده الا انها لم تمكنه من الحصول على اغلبية الثلثين والتي كانت الهدف الاساسي لحزبه من اجل القيام بالإصلاحات الدستورية لتأبيد حكمه ومواصلة النهج الاستبدادي والتراجع على الحريات في بلد كان يمثل اكبر ديمقراطية في العالم الثالث .

وستتواصل الانتخابات خلال هذه السنة في فرنسا بعد قرار الرئيس ماكرون حل البرلمان والدعوة الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها .كما ستعرف بريطانيا انتخابات جديدة تذهب كل التوقعات الا انها ستفقد المحافظين اغلبيتهم البرلمانية .وستتجه الانظار الى الانتخابات الامريكية في بداية نوفمبر والتي ستعرف الكثير من الغموض الى اخر لحظة .

وقد شكلت هذه الانتخابات محطات مهمة في المسار السياسي الذي عشناه خلال هذه السنة التي تمثل لحظة مهمة وقد تكون فارقة في المجال السياسي وبصفة خاصة في اوروبا .

وفي رأيي فإن اهمية هذه السنة لا تتوقف عند العدد الكبير للانتخابات التي عشناها وسنواصل السنة على وقعها بل في التحولات والتغييرات السياسية التي بدأت تعتمل في المجتمعات الاوروبية .ويبدو ان هذا المسار الانتخابي في اوروبا يشير الى نهاية مرحلة والعودة الى الصراع السياسي من جديد بين اليمين واليسار والذي سيطر على المسار السياسي في اغلب البلدان المتقدمة منذ بداية القرن العشرين .

الانتخابات الأوروبية: نهاية مرحلة

في قراءتي لتطور المجال السياسي قدمت فرضية تداول لحظتين اساسيتين منذ ازمة الدولة الوطنية او دولة الرفاه في بداية تسعينات القرن الماضي .

تمثل اللحظة الاولى من بداية التسعينات الى الازمة المالية لسنوات 2008 و2009 اللحظة الليبرالية والتي عرفت انتصار هذا المنهج والتمشي في السياسة والاقتصاد .

شكل المشروع الديمقراطي الاطار العام لتنظيم الحياة السياسية من خلال الانتخابات الديمقراطية والمبادئ التي دافع عنها من احترام للتعدد والحريات العامة والفردية واستقلالية السلط.

كما كانت للمشروع الليبرالي الريادة في المجال الاقتصادي حيث عملت السياسات الاقتصادية على فتح الاسواق ودعم انخراط البلدان في العولمة وسلاسل الانتاج العالمية .

ولئن عرف المشروع الليبرالي الكثير من النجاحات الا انه شهد تراكم الازمات منذ سنة 2005 ومن ضمنها تزايد الفوارق الاجتماعية والتهميش والأزمات المناخية. وكانت الازمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 لحظة فارقة في المسار السياسي للبلدان الاوروبية حيث ادت الى تراجع هزيمة المشروع الديمقراطي في اغلب البلدان .

ومنذ 2010 ستدخل اغلب البلدان الاوروبية في لحظة سياسية جديدة ثورية تتميز بصعود القوى السياسية من خارج النظام والتي تسعى الى تغيير النظام وتثويره ردا على عجزه عن إيجاد الحلول الضرورية لهذه الازمات. ومن ضمن هذه القوى الجديدة نجد قوى اقصى اليسار التي وصلت للسلطة في عديد البلدان الاوروبية مثل سيرازا في اليونان وبوديموس في اسبانيا والبرتغال والنجاحات الانتخابية الكبرى في عديد البلدان الاوروبية الاخرى مثل فرنسا.

كما عرفت هذه اللحظة الثورية صعود قوى اقصى اليمين والقوى الشعبوية والتي اصبحت تنادي من جانبها بثورة ضد الانظمة القائمة وانحرافات الانظمة الديمقراطية في المجالي الاجتماعي والاقتصادي. وأصبحت مسألة الهجرة القضية الكبرى لهذه القوى اذ اعتبرت انها تساهم في بطالة وتهميش الطبقات الشعبية في البلدان الاوروبية الى جانب تغيير هويتها الدينية ومعتقداتها .وقد تواصلت هذه اللحظة الثورية والشعبوية الى سنة 2022 لتعرف تراجعا كبيرا في ثقة الناخبين ودعمهم.

الشعبوية في أوروبا وتحولها نحو اليمين المحافظ

عرفت السنوات الاخيرة تراجعا كبيرا لتاثير الحركات الشعبوية في اوروبا فقد تراجع التأثير الانتخابي لبعضها اما التي بقيت في السلطة فقد عرفت تراجعات كبرى في برامجها واختياراتها السياسية لتنتقل من التوجه الثوري الذي دافعت عنه لسنوات طويلة الى مواقع اكثر واقعية تتسم بدفاعها عن مواقف يمينية موغلة في المحافظة والدفاع على التقاليد.ويطرح هذا التحول تساؤلا كبيرا يهم كل القوى السياسية وقدرتها على تغيير بطريقة جذرية المؤسسات القائمة والاختيارات الاقتصادية والسياسية الكبرى في المجتمعات الاوروبية.

ولئن عرفت القوى اليمينية و الشعبوية تقدما كبيرا في اغلب البلدان الاوروبية الا انها عرفت تراجعا كبيرا في تحاليلها ومواقفها السابقة لتلتحق في اغلبها بمواقف اليمين التقليدي .فقد تخلت في اغلب برامج الحكم التي قدمتها عن رفضها للديمقراطية الليبرالية ومؤسسات الحكم .كما التحقت في المجال الاقتصادي بالسياسات النيوليبرالية للقوى اليمينية التقليدية. اما في المجال الاجتماعي وفي مسألة الهجرة فقد ابقت على مواقف موغلة في المحافظة والدفاع عن الهوية التقليدية لهذه المجتمعات.

تشكل السنة الحالية لحظة محورية في حركة المجال السياسي وتطورها في العالم لا فقط من الناحية الانتخابية بل كذلك في صيرورة وتشكل القوى والتحالفات السياسية وقد تؤدي هذه اللحظة المهمة الى تراجع القوى اليمينية والشعبوية مع تشكل لحظة سياسية جديدة يقودها الصراع بين اليسار واليمين من جديد

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115