السلطة والاعلام والرأي العام

الصادق الحمامي
1. شهدت بلادنا منذ أشهر عديدة إيقافات لصحفيين ومشتغلين في قطاع الاعلام واحكاما بالسجن

وفي حين ترى نقابة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني واحزاب سياسية وقطاع من الرأي العام أن هذه الإيقافات والاحكام تضييق خطير على حرية الرأي وضرب لأهم "مكتسبات الثورة "، يرى مساندو السلطة وقطاع من الرأي العام ان هذه القرارات جزء من "معركة تحرير" الاعلام من الفساد ولوقف انحرافاته الاخلاقية وتطبيق لقوانين الدولة على الصحافيين والمشتغلين في قطاع الاعلام.
2. وعلى هذا النحو فان التقييمات تختلف مما يدفعنا الى النظر في الموضوع بشكل يستند الى مؤشرات موضوعية، على قدر الإمكان، للإجابة على سؤالين مرتبطين ارتباطا عضويا. اما السؤال الاول فهو ماذا تريد السلطة من الاعلام؟ او ما هو بتعبير آخر ما هو النموذج الذي تحبذه والذي تراه مناسبا للمجتمع التونسي؟ اما السؤال الثاني فهو كيف تتعامل السلطة السياسية والحكومة مع الراي العام التونسي؟ وخاصة فيما يتعلق بحاجته الى المعلومات عن الحياة السياسية والحياة العامة، منطلقين في ذلك من معرفة التونسيين لما يجري في البلاد والاطلاع على ادارة دواليب الدولة والازمات حق ديمقراطي مجتمعي مشروع.
السؤال الأول: ماذا تريد السلطة من الصحافة والاعلام؟
3. للإجابة عن هذا السؤال المدخل الاول هو ما تقوم به السلطة في مجال الاعلام حتى نتأكد من طبيعة هذه السياسة ويمكن في هذا الإطار ان نشير الى المؤشرات/الوقائع التالية:
 أولا: لا وجود لأية مبادرة اصلاحية لقطاع الصحافة والاعلام سواء أكانت قانونية أو تشريعية أو مؤسسية أو مهنية باستثناء دمج مؤسستي دار الصباح وLa Presse.
 ثانيا: لا وجود لاي نوع من الاتصال بين الحكومة من وبين الفاعلين المهنيين ينم على وجود تفاوض ونقاش حول اصلاح الصحافة والاعلام.
 ثالثا: بالنظر إلى تجميد مجلس الهايكا، فلا وجود لاي خطاب حكومي عن نوع من التصور لتعديل القطاع السمعي البصري في سياق يغرق فيه القطاع في مستنقع الرداءة بشكل غير مسبوق أصبح بسببها مصدرا لأخطار عديدة على المجتمع التونسي.
 رابعا: في سياق المؤشرات الخطيرة على انهيار النظام الاعلامي التونسي لا وجود لاي نوع من الاجراءات المستعجلة لإنقاذ ما يجب انقاذه من نظام هو أساسي للحياة الاجتماعية في سياق تتنامى فيه مخاطر التضليل المعلوماتي المتأتية من الشبكات الاجتماعية.
 خامسا: تأتي تسميات المسؤولين في مؤسسات الاعلام العمومي دون أي إطار عام او مشروع ما يحدد مهام هؤلاء المسؤولين الجدد. وفي الإطار ذاته، فان لا شيء يبدو قد تغير في أوضاع الاعلام العمومي منذ ثلاث سنوات، بل إن الخدمة الإخبارية اصبحت تتسم بالحد الادنى مع استثناء المعارضين والاحزاب السياسية من الحضور في النشرات الاخبار و"البرامج الحوارية". كما استمر التلفزيون العمومي في اجترار برامج الماضي.
 سادسا: وعدت حكومة بودن انها لن تطبق المرسوم 54 على الصحافيين الا انه اصبح الأداة الاولى لمحاكمة الصحافيين والمشتغلين في القطاع الإعلامي. كما ان نتائج المرسوم الوخيمة تتمثل في ارساء مناخ من الخوف في الاوساط المهنية ادى الى خلق رقابة ذاتية وهي انحراف خطير في الممارسة الصحفية يفسد جوهرها.
 سابعا: يمكن ان نضيف الى كل هذه المؤشرات الوقائع/ ان المسؤولين الحكوميين ما زالوا يتعاملون مع الاعلام لغايات وظيفية محضة باعتباره وسيلة لترويج منتجات مصالح الاتصال والعلاقات مع الصحافة.
4. الخلاصة الأولى: إذا كان الاعلام وفق منظور المدافعين عن السلطة وسياساتها يعيش انحرافات عديدة تمنعه من ان يكون مهنيا ومستقلا وفي خدمة المجتمع، فلا وجود لأية مؤشرات عن سياسة بديلة او استراتيجية ما تنهض بالقطاع أو اجراءات تخلصه من انحرافاته الهيكلية، بل على العكس من ذلك يبدو ان غياب هذه الاجراءات ينمّ عن نية للاستفادة من انهيار النظام الإعلامي والسيطرة على ما تبقى منه. ان النموذج الاعلامي الذي يتمخض عن كل هذه المؤشرات هو اعلام يقوم بوظيفة "حلقة الوصل "بين السلطة والحكومة والمجتمع التونسي، بالحد من الوساطة الصحفية التي يكتفي فيها الصحافيون بوظيفة التبليغ فقط دون اية وظيفة أخرى على غرار التحري والتحقيق والاستقصاء والتحليل والرأي.
السؤال الثاني: ما هي سياسة السلطة/ الحكومة ازاء الراي العام وحاجته الى الاطلاع على أحوال البلاد
5. بالتوازي مع إيقافات الصحفيين والمشتغلين في الإعلام تعرف البلاد أحداث متفاوتة الخطورة وأزمات أهمها على وجه الخصوص تلك المتعلقة بالهجرة التي يحتاج المواطنون معلومات دقيقة عنها، خاصة وأنها تٌقدم على أنها مصدر لأخطار وجودية تهدد مصير المجتمع التونسي. بشكل عام، فإن التونسيين لم يتحصلوا على هذه المعلومات، مما يدفعنا إلى القول ان هذه الأزمة تعكس طبيعة الاتصال الحكومي.
6. فالمعلومات الصادرة عن الحكومة في هذا المجال شحيحة جدا، فلا نكاد نعثر في صفحة رئاسة الحكومة على الفاسبوك على شيء باستثناء بلاغ تقريري عن جلسة وزارية خصصت للموضوع. أما من جهة البرلمان فالمعلومات كذلك شحيحة جدا، حتى الجلسة التي خصصت للاستماع إلى وزير الداخلية لم يرشح منها شيئا، بل إن بعض النواب يشككون في المعلومات الصادرة عن مؤسسات الدولة كعدد المهاجرين من جنوب الصحراء المتواجدين في بلادنا، في حين قال البعض الآخر أن البلاد تتعرض إلى مؤامرة داخلية وخارجية.
7. نتبين هنا كيف تدار الازمات اتصاليا. فمن المنظور التقني المحض، فان الاتصال الحكومي الحالي يتسم بثلاث سمات. اما الاولى فتتمثل في تبليغ الصحافيين والمؤسسات الإعلامية بأنشطة الوزراء لإعادة تبليغها الى الجمهور. والثانية تتمثل في عدم الحضور في البرامج الإخبارية والامتناع عن الخضوع الى السؤال الصحفي وهو الآلية الرئيسية التي تمارس بواسطتها الصحافة وظيفة مسائلة السلطة والحكومة وتمثيل الرأي العام.
8. اما السمة الثالثة فتتجسد في تحويل موارد الاتصال الحكومي الرقمي لاستخدامها لغايات الاتصال السياسي الذي يهدف الى ادارة الصورة، في حين ان الاتصال الحكومي يعرض السياسات والاجراءات الحكومية ويفسرها حتى يتمكن المواطنون من تكوين آراء عن الحياة العامة. وعلى هذا النحو تحول الاتصال الحكومي الى آليات لخدمة الاستراتيجيات الشخصية للمسؤولين الحكوميين.
9. والحال أن الاتصال الحكومي هو واجب من واجبات الدولة إزاء المواطنين لأنه يعبر عن حقهم في معرفة طرق تسيير دواليب الدولة. وهذا الحق في المعرفة يختلف عن حقّ النفاذ الى المعلومات او الوثائق الإدارية وايضا عن الحق في الاعلام وفي خدمة إخبارية ذات جودة.
10. الخلاصة الثانية في سياق الأزمات المتعددة التي تعرفها بلادنا، فإن حالة الخوف والرقابة الذاتية السائدة في الأوساط الصحفية والإعلامية وإستراتيجيات تحويل الإعلام إلى حلقة وصل بين السلطة والجمهور ومقاربة "الحدّ الأدنى" في الاتصال الحكومي وتحويله موارده إلى غايات الاتصال السياسي، فإن الرأي العام لا تتوفر له الظروف المقبولة حتى يكون عالما بشكل جيد بالأحداث وأن تتكوّن لدى المواطنين آراء قائمة على وقائع ومعلومات دقيقة في مسائل تٌقدم على أنها مصيرية.
11. تساهم حالة النقص الفادح في المعلومات والأخبار و وإحجام الصحافة عن التحقيق والاستقصاء بسبب الخوف إلى تشكل نوع من الرأي العام تعوزه المعلومات sous informé يتغذّى من المعلومات المٌضللة désinformé أو على معلومات مشوهة .malinfomé وهذا الراي العام هو رهينة قوى التضليل المعلوماتي في الشبكات الاجتماعية، تحكمه مشاعر الغضب والحقد ressentiment متقلّب يعيش حالة من القلق والهلع يمكن أن يتحول إلى خطر على الدولة والمجتمع وعلى الحكام أنفسهم.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115