"إيبلا يا حسرة !!" مجلّة إيبلا في المعرض الدّوليّ للكتاب

فيصل حمدي

في ذلك الرّكن القصيّ من القاعة الثّانية الفسيحة لمعرض تونس الدّوليّ للكتاب، في دورته الأخيرة،

كان يمكن لك، إن انعطفت يسارا، أن تنتبه إلى ذلك الشّيخ الذي يسير بتؤدة ويتوقّف فجأة أمام ثلاثة رفوف صغيرة رُصفت عليها أعداد اختلفت ألوان أغلفتها من مجلّة قديمة بدا وكأنّ نداء خفيّا قاده إليها فاستجاب له، في تلك اللحظات المهرّبة من الزّمن الغابر.
كلّما أمسك بين يديه عددا من تلك المجلّة وأخذ يقلّب صفحاته باحثا عن فهرس المحتويات، رأيت ذلك البريق الذي لا يشيخ أبدا في العينين وتلك الابتسامة التي تجمع بين أسى الحسرة ودفء الذّكريات. الاثنان يمتزجان في فرح طفوليّ بلقاء صديق قديم تنطلق معه عبارات التّرحيب والشّوق : "إيبلا ! يا حسرة! ".
لم يكن ذلك الشّيخ وحده على موعد غير منتظر مع "إيبلا" العتيقة (تأسّست سنة 1937). حضر الصّحفيّ والكاتب والطّبيب والمؤرّخ والباحث عن كنوز المعرفة والجامع للمنشورات القديمة، والمتقدّمون في السنّ يقودهم ذلك الحنين العجيب، والشبّان والشّابات تدعوهم متعة الاكتشاف.
في ذلك الجناح الصّغير الخجول، وفي ضيافة كريمة من الأصدقاء الكبار في جناح "برسبكتيف-العامل التّونسيّ"، اختارت "إيبلا" أن يكون لقاؤها الأوّل، عبر معرض الكتاب، مع مُريديها، وقد تفاجأ الكثير منهم باستمرار صدورها وحفظها لأعدادها القديمة التي خيّرت أن تعرضها على قرّائها، في هذه المناسبة، وتمكّنهم من ضمّها إلى مجموعاتهم بدل رَكنِها على رفوف الأرشيف في مقرّها القديم المعتاد بجانب "متحف معقل الزّعيم". وهذا المقرّ لم يغب طريق الوصول إليه عن ذاكرة الكثيرين منهم.
أحد الذين قضوا وقتا طويلا في تقليب صفحات كلّ عدد معروض، والإمساك بالكثير منها وكأنّها الفرصة الأخيرة التي تُتاح له للعثور على تلك النّوادر، خائفا من أن يفوز بها غيره فيسبقه إلى حيازتها، برّر ذلك برغبته في استكمال مجموعة والده من أعداد "إيبلا" التي واظب على اقتنائها منذ أواسط القرن الماضي. لقد تحوّلت المجموعة إلى إرث عائليّ عليه أن يُمرَّرَ إلى الأجيال اللّاحقة وعليها أن تحفظه وتُواصل إثراءَه.
رئيس تحرير إحدى الصّحف التّونسيّة العريقة، وقد أحيل على التّقاعد منذ سنوات كما قال، كان يزور الجناح يوميّا تقريبا ليسأل إن كانت هنالك أعداد أخرى أُضيفت للعرض بعد أن اقتنى منذ اليوم الأوّل أعدادا كثيرة من المجلّة. "يبدو أنّني سأترك كلّ أموالي لديكم! لا قبل لي بمقاومة هذا "الإغراء"".قالها ضاحكا مُستسلما لرغبته في "تملّك" ذلك الحنين والاستزادة منه : "إيبلا، لم تكن لتغيب عن قائمة مراجعي عند الاستعداد لكتابة أي مقال متين البنيان...".
إحدى الشّابات، ويبدو أنّها من طالبات معهد الفنون الجميلة، لم تفوّت فرصة تصوير أغلفة المجلّة الملوّنة وخطوطها بكاميرا هاتفها وكأنها تقف أمام لوحات فنيّة تريد أن تخلّد لحظة اكتشافها أو تستلهم منها فكرة لمشروع تخرّجها : "أخشى أن يكون انجذابي لدرجة البرودة والسّكون في هذه الألوان الزّرقاء والحمراء سببا في حرماني من دفء المحتوى ! سأقتني عددين".
لم تكن الأعداد القديمة الصّادرة منذ السّنوات الثّلاثين إلى حدود السّنوات السّبعين وحدها معروضة في الجناح، كانت هنالك الأعداد التي صدرت خلال الثّمانينيّات والتّسعينيّات إلى جانب الأعداد الجديدة الصّادرة منذ سنوات قليلة بمحتواها الثّريّ ومقالاتها القيّمة عن تاريخ تونس وحياتها الرّاهنة. كما وجدت بعض المنشورات الخاصّة مثل كتاب "ألغاز تونسيّة" (Enigmes tunisiennes) إقبالا لافتا جعلنا نجلب في كلّ مرّة نسخا إضافيّة منه إلى المعرض لتلبية الطّلبات المتزايدة لاقتنائه.
"إيبلا"، وكما قال أحد الزّوّار، طائر فينيق حقيقيّ نهض من رماد حريق 2010ليواصل تحليقه في سماء هذه البلاد التي جال في ربوعها القصيّة باحثا ودارسا ومدوّنا لأهازيج أطفالها وألغاز جدّاتها وأمثال شيوخها، لآثارها وأحجارها، لأسرارها وأخبارها، لعادات بَدْوِها وتقاليد حَضَرِها، لآدابها وفنونها، لما تقوله "لُغَتُها"عندما تصمت ولما تُخفيه حين تتكلّم.
من الأب المؤسّس ديمرسمان إلى الأب الأكثر شهرة جون فونتان، وعبر عشرات الأعداد من المجلّة وكثير من الإصدارات الأخرى، تواصل "إيبلا" قيامها بدورها كمنبر جادّ للثقافة التّونسيّة والمغاربيّة، وتعمّق تجذّرها في "تونسيّتها"من حيث تسييرها وتحريرها يوما بعد آخر. ومنذ مقاﻻت الأب ديمرسان عن أهميّة الثّقافة في البلاد التّونسيّة، يقود المجلّة إيمان عميق بأنّ هذه الأرض، على صغر مساحتها، نسبيّا، لها امتداد تاريخيّ وانفتاح جغرافيّ وتنوّع حضاريّ مازال يحتاج إلى سنوات أخرى كثيرة من البحث و"التّنقيب" والتّجميع والتّدوين والكشف والكتابة.
وإلى لقاء جديد مع "إيبلا" في معرض الكتاب القادم.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115