تتصاعد حملات التضامن والدعم للشعب الفلسطيني وصموده .والى جانب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في البلدان العربية والبلدان المتقدمة سجلنا انخراط المفكرين الراديكاليين والجامعيين في اكبر الجامعات العالمية في هذه الحملة والدعم .وبرز بصفة خاصة في هذه الحملة المساندة للشعب الفلسطيني المفكرون الذين ينتمون لتيار واسع يضم الكثير من الاتجاهات والذين يمكن ان نسميه بتيار ما بعد الكولونيالية والذي ظهر في سبعينات القرن الماضي .ورغم بعض الاختلافات بين حملة المفكرين تلتقي هذه التيارات في نقدها الراديكالي للهيمنة الكولونيالية على العالم وبصفة خاصة على البلدان النامية او ما يسمى بالأطراف .
وقد عرفت هذه التيارات حملة من النقد من طرف الاتجاهات الفكرية الكلاسيكية ومن ضمنها الاتجاهات اليسارية ذات المنحى الاشتراكي الديمقراطي والتي تدافع على كونية الحداثة الاوروبية وترفض رفضا مطلقا مسألة الخصوصية التي تتمسك بها تيارات ما بعد الكولونيالية .وقد اشتدت الحملة المسعورة التي تقوم بها التيارات الفكرية التقليدية في التمشي والتوجهات ما بعد الكولونيالية خاصة في الفترة الاخيرة اثر مساندة اغلب مفكريها للشعب الفلسطيني ووقفوهم ضد الحرب في غزة .
وتمثل الحملة التي تشنها اغلب ابواق الدعاية خاصة في فرنسا ضد الاستاذة الجامعية الامريكية الكبيرة جوديت بتلار (Judith Butler ) والتي تعتبر ايقونة الفكر النيوكولونيالي والجندري صورة عن تدهور وانخرام المجال الفكري العالمي كذلك الهجوم العنيف على الافكار والتوجهات النقدية الخارجة عن السرب والرافضة للهيمنة الاستعمارية .
• في تعدد عوالم نقد هيمنة الغرب
لقد عرف المجال الفكري النقدي تحولات وانعطافات كبرى اثر ثورة الشباب في اغلب بلدان العالم في ماي 1968 والتي عاشتها بلادنا في شهر مارس من نفس السنة.ولعل احد اهم التطورات والتحولات التي عرفها المجال الفكري ذلك النقد الكبير الذي عرفه الفكر الماركسي الكلاسيكي والذي اعتبره الكثيرون نتاجا للجمود الفكري الذي عرفه الاتحاد السوفياتي في الحقبة الستالينية . فقد كان لهيمنة البيروقراطية الحزبية على المجالات الفكرية اثر كبير على كل مجالات الابداع الفكري والثقافي والفني .فتم عزل وتهميش المفكرين ورفض التعددية الفكرية لصالح خط واحد هو خط الحزب الواحد والذي دافع عليه جدانوف وقد تواصل تأثره على المنظومة الفكرية في البلدان الاشتراكية حتى بعد سقوط المنظومة الستالينية .
كانت لهذا الجمود العقادئي وغياب التعدد وهيمنة الفكر الواحد تأثيرات كبيرة على الفكر الماركسي الكلاسيكي والذي شكل لفترة طويلة المجال الطبيعي للفكر النقدي للمجتمعات الرأسمالية فقد عرف هذا التراث الفكري تراجعا كبيرا وعجزا وأزمة عميقة لفهم التحولات الكبرى التي كان يعيشها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كما عرف هذا الفكر صعوبات عميقة في فهم وقراءة انعطافات المجتمع الرأسمالي وظهور مجتمع دولة الرفاه .
وكان هذا العجز وراء تحولات فكرية كبرى وعميقة في مجال النظريات في الفلسفة والعلوم الانسانية والاجتماعية بشكل عام .ان قراءة وتحليل هذه التحولات يتجاوز مجال هذا المقال إلا اننا سنحاول التوقف عند التطورات التي عرفتها المجالات الفكرية في تحليل علاقة الشمال بالجنوب وبلدان العالم الثالث بشكل عام .
لقد هيمنت بشكل عام على مجالات العلاقات بين الدول الرأسمالية المتقدمة والمستعمرات بشكل عام نظرية الامبريالية .ولئن ظهر هذا المفهوم منذ فترة في الدراسات والتحاليل للعلاقات الدولية الا ان القائد الماركسي لينين هو الذي طوره الى نظرية في كتابه المعروف «الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية « (l’impérialisme stade supérieure du capitalisme) والذي صدر سنة 1916.
اعتبر لينين في كتابه ان الامبريالية مرحلة جديدة في التطور الراسمالي وهي فترة تاريخية للمرور من الرأسمالية التنافسية الى هيمنة الشركات الاحتكارية الكبرى.وقد حدد لينين هذه المرحلة بخمسة عناصر شكلت عبر تاريخ الرأسمالية وجاءت إجابة على تراجع الربح في النظام الرأسمالي .وهذه العناصر التاريخية هي تجمع وتكثف الانتاج في شركات احتكارية كبرى اصبحت الشكل السائد للمؤسسات الاقتصادية، وظهور رأس المال المالي بعد انصهار رأس المال البنكي ورأس المال الصناعي ، وتصدير رأس المال والشركات الكبرى بدل تصدير السلع التجارية وتكوين تحالفات دولية بين الاحتكارات الكبرى لتقسيم العالم.
نهاية تقسيم العالم بين القوى العظمى
وقد شكلت هذه النظرية الاطار الذي وقع استعماله من اغلب المفكرين النقديين لفهم وقراءة العلاقات الدولية وبصفة خاصة مسألة هيمنة الاحتكارات الكبرى والدول الرأسمالية على العالم.وقد عرفت نظرية الرأسمالية العديد من المساهمات نذكر منها كتابات المفكرين الماركسيين روزا لوكسمبرغ –Rosa Luxembourg) ورودولف هيلفردنغ (Rudolf Hilferding).
كما شكلت نظرية الامبريالية الاطار الفكري الذي ستقع فيه دراسة المستعمرات من وجهة نظر نقدية .فعلى خلاف نظريات التحديث الكلاسيكية والتي اعتبرت ان هدف الاستعمار ادخال هذه الشعوب المتخلفة الى الحضارة والمبادئ الكونية أكدت نظريات الامبريالية على الجانب الاستعماري لهذه العلاقة .فالمستعمرات تمثل للبلدان الرأسمالية اسواقا لترويج فائض الانتاج الذي توفره الاحتكارات الصناعية الكبرى في بلدانها .كما سعت البلدان الرأسمالية في اطار هذه الهيمنة الى استغلال المواد الاولية المستخرجة من المستعمرات لتوفير حاجيات مصانعها .
ولم تتوقف علاقة الهيمنة الاستعمارية حسب نظريات الامبريالية على تبادل السلع من خلال توريد المواد الاولية من المستعمرات للمركز وتصدير السلع المصنعة بل تجاوزتها الى تشويه اقتصادات للمستعمرات وربطها عضويا بالمركز الرأسمالي.وشكلت هذه الهيمنة حسب هذه النظريات جوهر وأساس العلاقة بين المركز الرأسمالي وأطرافه .
وقد عرفت هذه النظرية تطورا كبيرا وكان لها تأثير كبير على الدراسات النقدية والفكرية للعلاقات الدولية .ولن يتوقف تأثير هذه النظريات على المجال الفكري بل تجاوزه الى مجال السياسات خاصة بعد حصول المستعمرات على استقلالها في الخمسينات .
واصبح الخروج من الاقتصاد الاستعماري عبر تنويع اقتصادات بلدان الجنوب الهدف الاسااسي لبرامج التحديث في البلدان النامية للأنظمة الوطنية .وكانت نتائج هذا التحديث مختلفة فلئن نجحت بعض البلدان في التحرر من الهيمنة الاستعمارية الا ان بلدانا اخرى لم تعرف نفس النجاح بل انحدرت في مستنقع التهميش والفقر والحروب .
وقد عرفت نظرية الامبريالية الكثير من النقد منذ منتصف الستينات .وسيتدعم هذا النقد اثر ثورات الشباب في نهاية الستينات التي تحولت الى مخاض فكري كبير سيكون وراء بروز نظريات نقدية جديدة لعلاقة الشمال بالجنوب .
في رأيي يمكن ان نشير الى اربعة مآخذ اساسية على نظرية الامبريالية تعتبر المسالة الاولى ان نهاية الاستعمار المباشر لا تعني بالضرورة ولا تقود الى انتفاء ونهاية هيمنة بلدان الشمال على بلدان الجنوب .اما المسالة الثانية والتي اشار اليها اصحاب نظرية التبعية فتهم ما يسميه الاقتصاديون بالاستعمار الجديد من خلال الهيمنة التكنولوجية والتجارية والمالية على بلدان الجنوب .كما يمكن ان نظيف الى هذه المآخذ المسالة الثقافية والرمزية والتي لم تلق من نظريات الامبريالية الاهتمام الكافي باعتبار تركيزيها على الجوانب الاقتصادية والمادية.
كما غفلت نظريات الامبريالية عن فهم وقراءة التحولات التي عرفتها البلدان النامية في السنوات الاخيرة وبصفة خاصة بروز البلدان الصاعدة في الجنوب كالهند والصين والبرازيل وإفريقيا الجنوبية كقوى منافسة للبلدان الرأسمالية المتقدمة.وهذا العجز في فهم هذه التحولات تعدو الى المنهج الديالكتيكي الجامد الذي اتبعته هذه النظريات .
وقد فتح هذا النقد المجال لمخاض فكري كبير في السنوات الاخيرة لتجديد الفكر النقدي للعلاقات الدولية .فلئن عجزت نظريات الامبريالية على فهمها الا أن الهيمنة وإرادة السيطرة والنفوذ والسطوة لم تنتف في العلاقات الدولية .
وقد شكلت فكرة ومفهوم «الكولونيالية» الاطار العام لتجديد الفكر النقدي للعلاقات الدولية .ومن المهم الاشارة الى ان اهم اباء هذا التجديد عرب وهما الدكتور والصديق سمير امين والأستاذ ادوارد سعيد.
وستكون فكرة ومفهوم الكولونيالية وراء تحاليل وقراءات المفكرين الجدد ومن بينهم جوديت بتلور (Judith Butler ) للصراع الفلسطيني واعتباره مسالة استعمار.وهذا الخيار الايديولوجي سبب عنف الهجوم والحملة التي تعرضوا اليها من قبل مساندي اسرائيل والذين ينفون الطابع الاستعماري لهذا الصراع
يتبع