لوضع اليسار بمختلف مشاربه خلال اللحظة الراهنة مما اتفق على تسميته بالمرحلة الانتقالية في بلادنا . كما احتوى على تحليل هادئ و رصين لأهم مواقف و خيارات اليسار إزاء آخر التطورات السياسية و أبرز الرهانات المطروحة أمامه و أمام الوطن . و أعتقد أن المقال نجح في جلب الاهتمام و التحفيز على التفكير ببلورة ثنائية «اليسار الحكومي» و «اليسار الاحتجاجي» كأداة لتحليل الوضع الحالي لليسار و كذلك بدعوته إلى نوع من الخط الثالث يجمع في آن واحد بين المراجعات الفكرية العميقة التي قام بها اليسار البراغماتي من جهة و المحافظة على خط المعارضة المطلقة لكل حكومة تمثل أو تجسد الخيار الليبرالي، مدنية كانت أم دينية، تقدمية كانت أم محافظة، لليسار الاحتجاجي من جهة أخرى . لكن المقال على جودته و طرافته بدا لنا مخطئاً في تناوله لدوافع خيار اليسار المتبني لوثيقة قرطاج بجناحيه الحزبي و النقابي و في تقييمه لأهم انعكاسات هذا الخيار. كما أن تحليله لأداء اليسار بنوعيه، الحكومي و الاحتجاجي، إفتقد لتقييم موضوعي لحجم اليسار كوزن انتخابي و كقوة سياسية و كعمق اجتماعي . و هو ما مثل الحاضر - الغائب في المقال و ما وجب العودة إليه بالضرورة عند تناول قضايا في علاقة بتكتيك اليسار و استراتيجيته و هو ما جعل كذلك المقال ينزلق تدريجياً من تحليل الموجود إلى الخوض في المنشود دون أن يوفر، في نظرنا، الواقع السياسي و الاجتماعي الحالي البوادر الدنيا للخط الذي دافع عنه كاتبه.
سردية جديدة أم قراءة لطبيعة المرحلة ومهامها ؟
إن أهم خطأ يقع فيه المقال، بل خطيئته الأصلية حسب رأينا، هو اعتبار قراءة المرحلة تحت عنوان حكومة الوحدة الوطنية بمثابة سردية جديدة ألفها اليسار البراغماتي في الآونة الأخيرة و هي تصبح بذلك مؤهلة لتعويض السردية السابقة القائمة على العدالة الاجتماعية و المساواة والحداثة !! و هو ما جعل الرفيق حنين يتحدث عن «تبني قناعات أخرى» و يتساءل حول غياب «المراجعات الفكرية» في هذا الصدد. و كأن التحليل السياسي الذي أفضى إلى المشاركة في صياغة وثيقة قرطاج و الإمضاء عليها يعني هكذا و بكل بساطة التخلي عن المبادئ و القيم المكونة لهوية اليسار منذ بروزه كتيار فكري و سياسي على المستوى العالمي! إنا نعتبر أن في مثل هذا الطرح تعسفاً كبيراً بل تجنياً على مكونات اليسار الحزبية و النقابية التي قررت المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية. و نتساءل هنا كيف غاب عن المناضل اليساري المحنك أن تموقع اليسار إزاء هذه الحكومة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرتقي إلى مستوى سردية جديدة و هو في قضية الحال مستند إلى قراءة لطبيعة المرحلة و تحديد لأهم أولوياتها و المهام العاجلة التي تطرحها على قوى اليسار. خاصة و أنه لا يمكن أن يفوته أن قراءة طبيعة المرحلة و تحديد مهامها لا معنى لهما خارج السردية التي تضع الأهداف الكبرى التي يناضل كل يسار من أجل تحقيقها : المساواة والعدالة الاجتماعية والحداثة ...
لكن و من جهة أخرى يجب الإقرار بأن خيار المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية كان مسبوقاً بتردد كبير ونقاشات مطولة حوله بين المناضلين وأدى بدون شك إلى «ارباك لبداهات و مسلمات اليسار» خاصة في ما يخص علاقة هذا الأخير بالحكم من جهة و بطريقة التعامل مع مكونات الإسلام السياسي من جهة أخرى . و المسألة هنا ليست متعلقة بـ«سردية» اليسار بقدر ما هي متعلقة بثقافة المناضل اليساري التي تكونت على امتداد عقود في بلادنا و التي جعلته ينظر إلى نفسه أولاً كمعارض مطلق للحكم ما لم يصبح هذا الأخير إشتراكياً و ثانياً كالخصم الرئيسي بل الوحيد لكل المشاريع الرجعية التي تهدد الوطن . و هذه الثقافة متغلغلة وراسخة في اليسار بدرجة تجعل تعامل هذا الأخير مع الواقع السياسي لما بعد الثورة ، الذي أفرز حزباً «ليبرالياً» منحدراً من النظام السابق و حزباً ذا مرجعية إسلامية كمكونتيه الرئيسيتين ، تعاملاً صعباً و حرجاً و مصدر قلق يكاد يكون وجودياً . إلا أن هذا المعطى يفرضه الواقع و لا يمكن للسياسي أن يتجاهله أو أن يمني النفس باندثاره من تلقاء نفسه. صحيح أن في عالم مثالي و بعد ثورة كانت مطالبها اجتماعية وكان وقودها شباباً نادى بالكرامة وندد بالفساد، من المفروض أن يصعد اليسار إلى سدة الحكم و ليس حزبين عبأ أساساً حول القضية المجتمعية و الثقافية ، و أن تبرز قيادات شابة في الأحزاب والمجتمع المدني وأن تظهر نخبة سياسية ناصعة أخلاقياً تجلب الاحترام و الإعجاب لدى الرأي العام الوطني . لكن المسار الانتقالي لم يأت على هذه الشاكلة، و على اليسار ، إلى جانب مواصلة عمله على تغيير هذا الواقع ، أن يأخذه بعين الاعتبار وأن يحسن التعامل معه قدر الامكان في اللحظة الراهنة مساهمة منه في انجاح الانتقال الديمقراطي و حمايته من المخاطر.
و إذا أخذنا قضية المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية من عدمها من هذه الزاوية أي انطلاقاً من ثقافة اليسار بمختلف مكوناته نرى أن خيار عدم المشاركة والبقاء في المعارضة مع المراهنة على فشل هذه الحكومة لجني ثماره الانتخابية هو الخيار الأسهل سياسياً و الأريح ايديولوجياً . بينما لا يخلو خيار المشاركة من مخاطرة بما فيه من ارباك للمسلمات وبما «يحمل في ثناياه من فخاخ» و من بينها ما وقف عليه المقال من الوضعية المتردية التي آل إليها الحزب الأول و من «حسابات الشيخين» التي يمكن أن تربك أداء الحكومة و أن تقلل من حظوظ نجاحها . المهم أننا هنا لسنا إزاء سرديتين وإنما إزاء قراءتين للمرحلة ومهامها. ترى الأولى بأنه بعد المصادقة على الدستور وإجراء الانتخابات التشريعية و الرئاسية نكون قد تجاوزنا المرحلة الانتقالية بسلام و يمكننا إذن العودة إلى الصراع التقليدي بين اليمين واليسار أو بين الليبرالية و الإشتراكية . بينما تعتبر الثانية أننا لم نجتز بعد هذه المرحلة و أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي ما انفك يتدهور بعد الثورة يستوجب وحدة وطنية لانقاذ الانتقال الديمقراطي برمته . و لكن لعل المحدد في آخر الأمر في الموقف من
حكومة الوحدة الوطنية ،أي المشاركة أم المعارضة ، هو درجة الاقتناع بخطورة الوضع الاقتصادي و بالحالة الحرجة التي آلت إليها التوازنات الاقتصادية و المالية الكبرى و التي باتت تستوجب سياسات شجاعة يتفق حولها أغلبية الطيف السياسي و المنظمات الاجتماعية و تقطع مع ما انتهج منذ خمس سنوات من خيارات شعبوية أضرت بأهم التوازنات أيما ضرر . و لعل وجود اليسار داخل هذه الحكومة بوجوه حزبية و نقابية ذي خبرة سوف يدفع أكثر نحو التقاسم العادل للتضحيات إن كانت هذه الأخيرة لازمة و سوف يجنبنا السيناريو المعهود القاضي بوضع وزر السياسات «الموجعة» على الفئات الاجتماعية الأضعف فحسب ...
مهام اليسار بين العاجل و الآجل
قلنا في المقدمة أن بعد التطرق إلى نقد أداء اليسار بجزأيه الحكومي و الاحتجاجي ينزلق مقال «اليسار وحكومة الشاهد» تدريجياً من تحليل للموجود إلى وصف للمنشود. و هذا أمر طبيعي بالنسبة لكل طرح سياسي لا يكتفي بقراءة الواقع و إنما يسعى بالأساس إلى تغييره. إلا أن الخط الثالث المنشود في قضية الحال يفتقد حسب رأينا إلى دعائم في الواقع السياسي والاجتماعي الحالي فلا يمكن له من هذا المنطلق أن يكون من باب الأمور العاجلة و إنما سيكون حتماً في أحسن الأحوال من باب الأمور الآجلة خاصة أن التحليل الذي يستند إليه لا يقف البتة على نقاط الضعف الحقيقية لليسار التونسي كتيار فكري و سياسي و التي بانت للعيان بعد الثورة. فإذا عدنا إلى ركائز و شروط بروز هذا اليسار الجديد المشار إليها في المقال نجد أنه يجب عليه أن يستند إلى اليسار الاحتجاجي المعارض، إلا أن هذا الأخير مطالب من جهة بالشروع في مراجعة فكرية عسيرة تحمله إلى التخلص من موقفه المبدئي و التقليدي المعادي لرأس المال و إلى التبني الصريح للمطالب الاقتصادية للرأس المال الوطني المتعلقة بإطار تنافسي عادل و نزيه، كما هو مطالب من جهة أخرى بالالتصاق أكثر
بالحراك الاجتماعي الحالي والحامل لحس إجتماعي و مواطني مرهف و الذي يمكن أن يمثل الحاضنة السوسيولوجية لصعود اليسار الجديد كقوة سياسية بارزة، خاصة في ظل المشاكل التي يتخبط فيها الحزب الأول منذ مدة و ما يمثله هذا التعثر من فرصة إنتخابية ثمينة لقوة سياسية صاعدة من جهة اليسار. لكن المتأمل في هذين الشرطين يرى أولاً أنهما صعبا المنال خاصة الأول منهما في ظل هيمنة «المزاج الايديولجي» على خطاب اليسار الاحتجاجي و يرى ثانياً ما يمكن أن يحملانه من تناقض ، إذ لم يظهر الحراك الاجتماعي على الأقل إلى حد الآن وعياً أدنى بمطالب أصحاب المؤسسات الإقتصادية. و من جهة أخرى حتى و إن كان من المشروع المراهنة على ناخبي النداء غير الراضين على أدائه ، فلا شيء يضمن اليوم أن هؤلاء سوف يعطون أصواتهم لليسار، جديداً كان أم قديماً ، مرناً كان أم متكلساً، خاصة و أن الوضع الحالي لليسار - المسكوت عنه في المقال - لا ينبئ بهبة يسارية في المواعيد الانتخابية القادمة .
فلو نظرنا إلى المشهد اليساري الحالي سنرى من جهة يساراً ذهب ضحية التصويت المفيد إلى درجة الخروج من مجلس النواب، لكن مع الظفر بحضور في الحكومة، و من جهة أخرى يساراً نجح في الفوز بتمثيل نيابي محترم إلا أنه لم ينجح إلى حد الآن في ترجمته إلى أداة فعل سياسي مكتفياً على ما يبدو بما يمكنه هذا الحضور من منبر إعلامي لإلقاء خطب حماسية ترضي المناضلين لكنها، كما أبرز ذلك ماهر حنين ، لا تمر في أوساط واسعة من المجتمع التونسي، وهي لا تساعد بذلك على فك عزلته الاجتماعية . و هنا نأتي إلى ما أعتبره أهم موضوع يجب الخوض فيه لكل من يهمه حاضر اليسار السياسي و مستقبله و هو فقدانه إلى عمق اجتماعي يجعله إلى حد الآن ظاهرة نخبوية بالأساس إلى درجة أن حضوره النيابي يبقى رهين الإبقاء على النظام الانتخابي الحالي المبني على مبدأ النسبية و الذي يتيح الصعود إلى المجلس عن طريق أفضل البقايا . فرغم تاريخه الطويل و الحافل بالتضحيات و الذي أهدى البلاد قادة و مناضلين أفذاذا، فإن الثورة أبرزت أن اليسار لا يزال مع الأسف بنسبة كبيرة غريباً عن المجتمع، مما يجعل أصوات الطبقات الشعبية تنقسم
أساساً بين النهضة و النداء . و هذه مفارقة كبرى لا يمكن التغافل عنها . ففهمها ملياً و الاهتداء إلى سبل تجاوزها بات من أوكد المهام الفكرية لليسار التونسي إذا كان فعلاً يريد أن يزن سياسياً في المراحل المقبلة من تاريخ البلاد . إلا أننا هنا أيضاً نجد أنفسنا أمام مفارقة أخرى و هي شحة المنتوج الفكري لليسار في وضع نحتاج فيه إلى رؤاه و تحاليله أكثر من أي وقت مضى، هو الذي تميز عن غيره من التيارات الفكرية بجدية و عمق دراساته للواقع الاقتصادي و الاجتماعي للبلاد منذ ستينات القرن الماضي على الأقل، حتى أن الخلافات السياسية في صفوفه كانت مبنية بدرجة هامة على خلافات في التحاليل النظرية... فأكثر من خمس سنوات بعد الثورة لم تكن كافية على ما يبدو لبلورة تصورات متناسقة و قابلة للتجسيد و تمثل أجوبة يسارية لاستحقاقات الثورة كصياغة ملامح منوال جديد للتنمية الاقتصادية أكثر عدلاً بين الفئات و بين الجهات مثلاً. و لعل غياب طرح بديل للمنظومة السائدة هو من أهم أسباب تقوقع اليسار في الوضع الاحتجاجي و صعوبة تحوله إلى قوة اقتراح .
لقد حلم اليسار التونسي طويلاً زمن الاستبداد معتقداً أنه الممثل الطبيعي و الحقيقي للشعب و أن القمع وحده هو الذي كان يحول دون الإتصال به و الفوز بثقته. إلا أن الثورة بددت هذا الحلم و علمتنا أنه ليس هناك أي ممثل طبيعي لأي كان في هذا المجال و أن الفوز بثقة الشعب وإقناعه بجدوى رؤانا و خياراتنا يستوجبان خوض صراع سياسي و فكري جبار . هذا هو الرهان الحقيقي الذي على اليسار مواجهته اليوم و هو يمثل تحدياً مثيراً لمفكريه ومثقفيه خاصة و أن أغلب الحواجز التي تعترض الخطاب اليساري و تجعله صعب النفاذ في أوساط واسعة من المجتمع هي حواجز ثقافية بالأساس. إن افتكاك اليسار المكانة التي يستحقها بالنظر لتاريخه و قيمة اسهاماته في مسيرة الوطن الحديثة ، على المدى المتوسط و الطويل، يتطلب مجهوداً فكرياً كبيراً يجب الشروع فيه منذ الآن . و لكن في الأثناء على كل طرف سياسي، خاصة إن كان ضعيفاً و مهزوماً، ألا ينسى أن السياسة هي فن الممكن وأنها تجبره في كل لحظة على إصدار مواقف وأخذ قرارات قصد الفعل في الحاضر بما يحفظ المستقبل أي أن عليه أن يجتهد ليحسن التعامل مع الموجود حتى يصل يوماً إلى المنشود ...
بقلم: بكار غريب