وقد صدرت عن دار نقوش عربية. وهي تندرج في نفس نسق الروايات السابقة مثل "بحثا عن السعادة" و"الفتى ياسين في متاهاته" من حيث أنها تُراوح بين الرحلة في الزمان والمكان، بين الحاضر والذكرى وكذلك بين الكتب وسير الكًتّاب والشعراء والمفكرين من العرب والأجانب.
تنطلق الرواية من حلم يُذكّر الكاتب بعلاقته بزوجته السابقة الألمانية، حيث يحلم أنه التقاها من جديد وهي تدعوه إلى زيارة مكان ما دون أن تفصح له عنه. وها أنه يرى نفسه يتنقل معها من مكان إلى آخر ويسترجع من خلال هذه الرحلة ذكرياتهما ولكن أيضا الذكريات مع كل الأصدقاء الذين التقاهم معها في البلدان، وفي المدن التي زاراها، أو مرّا بها. وهو يحاول أن يربط كل بلد أو مدينة بذكرى صديق، كاتب أو شاعر أو فنان أو مفكر كان له تأثير عليه وعلى مسيرته الأدبية، فنراه مثلا يذهب إلى طنجة المغربية حيث يتذكر لقاءاته مع كاتبها المعروف محمد شكري الذي يسميه "الكاتب العاري"، أو إلى باريس ليتحاور مع "مهيار الدمشقي، أو إلى مدريد ليكون شاهدا على أوجاع "الشاعر العراقي الحزين"، أو إلى دبلن حيث يتذكر أول زيارة له لهذه المدينة التي جعل منها كاتبه المفضل "جيمس جويس" فضاء لجل أعماله القصصية أو الروائية، أو إلى جربة ليروي لنا فصولا من تاريخ انطلاقا من رحلة أوليس في "أوديسه" هوميروس وحتى الغزو الاسباني، وفيها يلتقي بابنها الرسام الطاهر المقدميني الذي يستمد من أجوائها كل لوحاته الفنية التي اشتهر بها. وفي ضاحية المرسى شمال العاصمة التونسية، يستحضر لقاء مع الفنان اليوناني الكبير ميكيس ثيودوراكيس. كما نقرأ في الروية فصلا عن مسيرة الفنان التونسي فاضل الجزيري.
وفي كل مرة ينتقل فيها مع وزوجته إلى مكان يفتح الرواي قوسا ليروي قصة الكاتب الذي التقياه أو الذي ينتمي إلى ذلك البلد والذي أثرت فيهما كتاباته أو أفكاره أو فتنتهما مغامراته العجيبة. ويبهرنا حسونة المصباحي بغزارة معلوماته وسعة ثقافته فيما يخص سير الكُتّاب والشعراء والمفكرين من تونس وخارجها، ويفتح شهية القارئ لمعرفة هؤلاء الذين يسكنون ذاكرته وحياته...
تتقدم الرواية في نسق دائري بحيث أن المكان الذي تبدأ منه القصة وهي "حديقة الشتاء"، كما يسميها الكاتب، هي نفسها التي تنتهي فيه. وهي نهاية مرعبة إذ أن الرواي يعانق جذع شجرة عارية عوض أن يعانق زوجته التي أحبها في سنوات الشباب. ولكن في الأثناء، تُصاغ القصص والأحداث وكأنها مجموعة حلقات ودوائر، تنتهي حلقة لتبدأ أخرى. وتبدو هذه الحلقات والداوائر لأول وهلة وكأن لا شيء يربط بينها ولكن الخيط الرابط يبقى هو الكاتب نفسه الذي يوحي بأن عالم الرواية عالم متشابك ومعقد تماما مثل الحياة التي نعيشها سواء في يوم واحد، أو على عقود طويلة. وهذه تقنيات قد يكون حسونة المصباحي تعلمها من كبار الروائيين الحداثيين أمثال جيمس جويس ومارسيل بروست وهنري ميللر. وليس هذا أمرا غريبا إذ هو نفسه يقر بتأثيرات هؤلاء الكتاب في العديد من الحوارات التي أجريت معه. في الآن نفسه، نشعر أن الكاتب يُحيلنا أيضا إلى التراث الشفوي في الحكاية العربية كما في"ألف ليلة وليلة"، و"المقامات" و"رحلات ابن بطوطة. كما أن حسونة المصباحي لا يقتصر على راو واحد عليه يعتمد لنقل الأحداث ورواية الحكايات في الزمان والمكان، بل نحن ننصت من فصل إلى آخر إلى أصوات مختلفة ومتعددة. وكل صوت يروي الوقائع بحسب تصوراته الخاصة. وفي هذه الرواية البوليفينية، يتطرق الكاتب إلى مواضيع متعددة مثل الغربة، وانهيار القيم في المجتمعات العربية، والعنف التكفيري والجهادي، وضياع المثقف العربي في مجتمعات لا تعيره أي اهتمام، بل قد تتركه يتعفن ويموت في الركن المعتم التذي فرضته عليه.
وتبدو رواية " ليلة حديقة الشتاء" أحيانا وكأنها فيلم سينمائي يُراوح بين تقنيات الفلاش باك والعودة إلى الواقع. يتنقل السرد فيها بين الأماكن والشخوص وتتغير الديكورات والعوالم. ويتقن حسونة المصباحي تنويع الصور وتكثيفها لنقرأ هذه الفصل أو ذاك وكأنه لقطة سينمائية فيها تتغلب الصورة على الكلمة. وهذا ما يؤكد لنا مرة أخرى تأثر حسونة المصباحي بالسينما، وبكبار المخرجين حتى أنه قال ذات مرة بأن تأثير هؤلاء عليه لا يكاد يختلف عن تأثير كبار الروائيين.
ويمكن اعتبار رواية:" ليلة حديقة الشتاء" رحلة بين ثلاثة عوالم: عالم الرؤيا، عالم الكتب وعالم الذكريات. بمهارة فائقة ينجح حسونة المصباحي في خلق تآلف بينها بحيث لا يحس القارئ بأنه مر من عالم إلى آخر. لكأنها تمثل وحدة. وقد يعود ذلك إلى أنه هو نفسه يعيشها كعالم واحد يتنقل في أرجائه بسلاسة كبيرة وبدون حدود، ومن دون عقبات...
والرواية هي أيضا مزيج بين أدب الرحلة وأدب السيرة الذاتية، فيها يُراوح الكاتب بين سرد ذكريات رحلاته، وسرد ذكريات حقب مختلفة من حياته، من طفولته ومراهقته وشبابه إلى أن يصل إلى الحاضر. ويمزج حسونة المصباحي بين كل هذا بمهارة فنية ليبتكر نصا تتداخل فيه الأنماط الأدبية دون تصادم، بل أنها تتماهي مع بعضها البعض لتخلق وحدة أدبية وفنية بديعة تسحر القارئ وتأخذه إلى عالم الكاتب اللامتناهي، حيث يختلط الحلم بالرؤيا والواقع بالذكرى.
هذه الخلطة العجيبة المُعدّة بإتقان هي ثمرة أكثر من أربعين سنة من الكتابة. خلطة أصبحت العلامة المميزة لروايات حسونة المصباحي الذي يحاول دائما أن يسبح ضد التيارات السردية والأسلوبية والفنية السائدة في الرواية العربية المعاصرة.