اثر اعلانها عن قراراتها الاولية عشية 26 جانفي 2024 في موضوع الدعوى التي أقامتها افريقيا الجنوبية على اسرائيل استنادا الى اتفاقية الامم المتحدة لمناهضة الابادة الجماعية .فقد اعتبر الكثير من المحللين ان القرار لم يرتق الى حجم المآسي التي يعيشها الشعب الفلسطيني حيث انه لم يطالب بضرورة ايقاف الحرب وبالتالي فإن القرارات التي اتخذتها لن توقف المجازر والدمار الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ بداية الحرب.
ويعتبر الكثيرون ان هذا القرار تاريخي ومهم باعتباره ينهي فترة الافلات من العقاب والمناعة التي تمتعت بها اسرائيل طيلة وجودها.وستكون بالتالي لهذا القرار على محدوديته انعكاسات كبيرة في المجالين القانوني والسياسي وحتى الاخلاقي. ولعل ابرز دليل على هذا الموقف ردة فعل المسؤولين الاسرائيليين وتعاطيهم المنفعل والحاد مع قرار المحكمة.
دعوى جنوب افريقيا وبصيص الأمل
عاشت غزة والضفة الغربية والعالم على وقع الاخبار المريعة للحرب المدمرة لآلة الحرب الاسرائيلية على غزة.وقد باءت كل المحاولات لإيقافها بالفشل ليتواصل العنف والموت والدمار وقد تصدت الولايات المتحدة الى كل محاولات اقرار لوقف اطلاق النار في مجلس الامن باستعمال حق الفيتو. ومجرد الاتفاق على ايقاف اطلاق النار وتبادل الاسرى لم يتواصل إلا لبضعة ايام ليعود الدمار والحرب الى هيجانه.
وشهدت اغلب بلدان العالم تعبئة جماهيرية عارمة من طرف منظمات المجتمع المدني للضغط على اسرائيل والدول الكبرى من اجل ايقاف الحرب.فعرفت اغلب عواصم العالم وخاصة البلدان المتقدمة مظاهرات ضخمة دورية شارك فيها الشباب بالآلاف لمحاولة فرض ايقاف المجزرة .إلا ان كل هذه المحاولات داخل المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وفي الشارع من خلال تحركات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية لم تجد اذانا صاغية لتواصل آلة الحرب مسارها التدميري .
وفي ظل هذا الاحباط والتشاؤم من قدرة الانسانية والمنظومة الدولية على حماية سكان غزة من هذه الحرب المروعة جاء قرار افريقيا الجنوبية بإثارة دعوى ضد اسرائيل وتقديمها لمحكمة العدل الدولية بمثابة بصيص امل للخروج من هذا الفشل وتواصل الحرب المدمرة .
وقد كان لقرار جنوب افريقيا وخاصة محتوى الدعوى التي قدمتها اهمية كبرى لعديد الاسباب .اولها ان لافريقيا الجنوبية رمزية خاصة وشرعية لا يمكن القدح فيها باعتبارها عانت من النظام العنصري وتنكيله بالسكان والمواطنين الافارقة في ظل صمت رهيب من النظام الدولي ومن البلدان العظمى.وقارنت جنوب افريقيا نظام الابوتهايد والتمييز العنصري الذي عاشه مواطنوها بالنظام الذي تطبقه اسرائيل على الفلسطينيين في الاراضي المحتلة .وقد ساهمت هذه المعاناة المشتركة في بناء وحدة نضالية صلبة بين الحركات الوطنية في افريقيا الجنوبية وفلسطين وكان الزعيم نلسن مانديلا وجنوب افريقيا من اكبر الداعمين للشعب الفلسطيني اثر استقلالها.
أما العنصر الثاني والذي اعطى اهمية كبرى لدعوى جنوب افريقيا فهو استنادها الى اتفاقية الامم المتحدة لمناهضة الابادة الجماعية .وقد اشارت جنوب افريقيا بكل وضوح في الدعوى الى هذه المسألة كما اشارت في تقريرها الى عديد التصريحات لأهم المسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين والتي تشير الى وجود نية لارتكاب ابادة جماعية .فالحرب في غزة لا تستهدف فقط حماس بل كذلك كل الشعب الفلسطيني مع تدمير كل سبل الحياة لإجباره على الهجرة وإعادة سيناريو نكبة 1948. وقد حاولت من خلال الدعوى ومن خلال تقرير واف وموثق الى التأكيد على ان نية الابادة تشكل جوهر سياسة الدولة.
اما المسألة الثالثة والمهمة في هذه الدعوى فتهم مسألة اتحاذ تدابير مؤقتة لايقاف الحرب ومنع حدوث ابادة جماعية وبالتالي منع كل الوحدات العسكرية من مواصلة هذا التمشي الخطير وحماية السكان الفلسطينيين من هذا الخطر الداهم .
وقد كان لهذه الدعوى وقع كبير على المستوى العالمي وانتظر الكل نتائج هذه المداولات وإمكانية ايجاد انفراج على امل ايقاف الحرب.
قرار المحكمة وبداية المنعطف
اثار قرار المحكمة الكثير من النقاش والجدل واعتبره الرافضون بعيدا عن انتظارات الفلسطينيين في غزة باعتبار أنها لم تتخذ قرارا ملزما بإيقاف اطلاق النار وإنهاء معاناة مواطني غزة والضفة الغربية. كما اعتبر هؤلاء ان غياب قرار قانوني ملزم سيعطي الفرصة لإسرائيل لمواصلة افلاتها من العقاب وعدم احترامها للقانون الدولي.
ولا يجب الاستخفاف بهذا القرار بالرغم من عدم الرضا الذي تركه عند صفوف واسعة من الرأي العام العربي والدولي. ويمكن ان نشير الى نقاط مهمة تجعل من هذا القرار بداية انعطاف في تعاطي المجتمع الدولي مع اسرائيل لتنصلها من القرارات الدولية والقانون الدولي.
وأول عناصر هذا الانعطاف هو قرار المحكمة بصلاحيتها للنظر في هذه القضية بالرغم من محاولة الجانب الاسرائيلي الطعن في هذه المسألة .فتأكيد المحكمة على أن ذلك من صلاحياتها يشكل اشارة هامة الى وجود دلائل وقرائن لارتكاب اسرائيل لجريمة الابادة الجماعية.
أما المسألة الثانية والتي تشير الى بداية هذا التحول او المنعطف فتهم اجماع اغلب القضاة وتصويتهم بأغلبية كبيرة على كل القرارات .وقد شارك في هذه الاغلبية رئيس المحكمة الامريكية وعديد القضاة القادمين من بلدان اوروبية دافعت على مواقف اسرائيل في مواصلة الحرب واعتبرتها في حالة دفاع عن النفس. ويعطي هذا التصويت اشارة هامة على استقلالية القضاء الدولي بالرغم من المخاوف التي صاحبت المداولات ومن تاثير الدول الكبرى على مواقف قضاتها.
ويمكن ان نضيف عنصرا ثالثا لبداية هذا الانعطاف والذي سيكون له تاثير كبير على تعاطي المنظومة الدولية مع اسرائيل اثر قرار محكمة العدل الدولية. فقد تنصلت اسرائيل طيلة تاريخها من القرارات الدولية واعتبرت نفسها معفاة من تطبيقها والالتزام بها نظرا للمآسي التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية ومحرقة «الهولوكست» النازية. وقد ساهمت وضعية الضحية التي روجت لها السردية الاسرائيلية في تغاضي المجتمع الدولي عن الجرائم اليومية التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني منذ 1948. وقد جاء هذا القرار وبداية مداولات محكمة العدل الدولية لرفع هذا الغطاء الرمزي الذي حاكته اسرائيل طيلة تاريخها للإفلات من العقاب والتنصل من القرارات الدولية بدعم من الدول العظمى.
أما المسألة الرابعة والتي تشكل تطورا مهما فهي اقرار المحكمة لتدابير مؤقتة لحماية الشعب الفلسطيني من هيجان الالة العسكرية الاسرائيلية. ولئن كانت هذه القرارات غير ملزمة ولم ترتق الى انتظارات الفلسطينيين الا انها ستشكل ورقة ضغط جديدة على اسرائيل لإيقاف هذا العدوان.
قرارات هذه المحكمة على اهميتها لا تشكل إلا نقطة انعطاف في مسار طويل سيتطلب الكثير من التضحيات والعمل المتواصل لإيقاف الحرب ومعاناة الشعب الفلسطيني اولا ثم الاعتراف وتجسيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وتكوين دولته المستقلة.