نسبة كبيرة منهم من النساء والأطفال اضافة الى التهديم الممنهج للمؤسسات الصحية والتعليمية والمباني والمساكن. وتعطينا غزة بعد هذا التدمير والقصف صورة ومشهدا لنهاية العالم حيث يبحث السكان بشق الانفس عن لقمة العيش لمجابهة الجوع وعن غطاء وبقايا خيمة لمجابهة البرد .
ورغم هذا الدمار والمآسي، لم تنجح المنظومة الدولية في ايقاف آلة الحرب الاسرائيلية وحماية السكان المدنيين والنساء والأطفال، على العكس لقيت اسرائيل كل الدعم من قبل الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الامريكية تحت ذريعة ان من حقها الدفاع عن نفسها امام الارهاب الاسلامي.
ورغم التعبئة المواطنية التي عرفتها اغلب بلدان العالم لإيقاف الحرب الا ان التدمير والقصف تواصلا، ولقيت كل محاولات اخذ قرار في المنظومة الاممية بالفشل .فقد واجهت الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الامريكية في مجلس الامن كل قرارات ايقاف الحرب بحق الفيتو ليتواصل الدمار والاعتداء .ولئن نجحت الجمعية العامة في اخذ قرارات بغالبية كبيرة لأعضائها لصالح ايقاف الحرب الا ان ذلك ظل حبرا على ورق نظرا لطبيعتها غير الملزمة.
وقد طرحت هذه الحرب وطابعها المدمر مسألة اخلاقية كبرى على المجتمع الدولي وبصفة خاصة على المنظومة الاممية التي كان من أهم اهدافها، اثر الحرب العالمية الثانية، المحافظة على السلم العالمية والابتعاد عن مآسي الحروب التي عانت منها الانسانية. ورغم المحاولات المتعددة فشلت المنظومة الاممية في ايقاف الحرب وحتى في اخذ قرار ملزم لإيقافها.
وقد واجهت المنظومة الاممية الكثير من النقد من عديد الدول وخاصة دول الجنوب والكثير من منظمات المجتمع المدني نتيجة هذا الفشل والعجز عن حماية المدنيين من هول الحرب والدمار .
وقد تميزت مواقف الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيراش بالكثير من الشجاعة عند زيارته لمعبر رفح في بداية الحرب ومطالبته في تصريحاته المتعددة في عديد الاجتماعات بايقاف الحرب، لكن هذه المواقف لم تغير كثيرا في الوضع ليتواصل الدمار والحرب.وكان هذا العجز وراء نقد كبير للمنتظم الاممي. وقد ازداد هذا النقد حدة جراء ما اعتبره الكثيرون سياسة المكيالين في التعاطي مع القضايا الدولية. فقد سارعت الدول الكبرى الى أخذ قرارات قوية ضد روسيا عند اعتدائها على اوكرانيا الا انها فشلت وعجزت عن اتخاذ هذه القرارات في الحرب على غزة.
وقد طرح هذا الفشل وهذا العجز مسألة اخلاقية كبرى تمس مشروعيته وقدرته على التعبير عن الضمير العالمي وقيم الحرية والديمقراطية كما ارادت ذلك الدول عند تكوينها لهذا المنتظم اثر نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد زادت هذه الحرب من تراجع ثقة المجتمع الدولي في المنظمات الدولية وبصفة خاصة في المنتظم الدولي وبقدرته في بناء علاقات تعاون وقواعد عيش مشترك عادلة بين دول العالم.
لقد جاءت الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا ضد دولة اسرائيل امام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة ابادة جماعية لتشكل امتحانا جديدا للمنتظم الدولي ومدى قدرته على الدفاع عل المبادئ الانسانية بكل عدل بين البلدان مهما اختلفت مرجعياتها الفكرية والسياسية ونظمها الاقتصادية.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم يتعلق بقدرة المحكمة على اخذ قرار حاسم يهم بصفة خاصة اتخاذ قرار عاجل بالدعوة لوقف اطلاق النار. فهل ان ذلك سيحصل أم أن العجز والفشل سيتواصلان ويضعان مستقبل النظام الدولي موضع التساؤل؟
في حجج دعوى جنوب افريقيا
محكمة العدل الدولية هيئة قضائية للأمم المتحدة وقع انشاؤها بموجب ميثاق الامم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945.ويكمن اختصاصها في حل الخلافات والنزاعات بين الدول. كما يمكن لهذه المحكمة ان تلعب دورا استشاريا للمؤسسات الاخرى للأمم المتحدة.
وقد قررت دولة جنوب افريقيا التوجه الى هذه المحكمة لإيقاف الحرب والتعبير كذلك عن مساندتها لقضية التحرر الوطني الفلسطيني.للتذكير ارتبطت حركة المقاومة بجنوب افريقيا قبل سقوط نظام الابارتهايد ارتباطا وثيقا بالنضال الوطني الفلسطيني لسنوات طوال. وتواصل هذا الدعم بعد حصول جنوب افريقيا على استقلالها وسقوط نظام الابارتهايد والميز العنصري. وتأتي هذه الدعوى في اطار تواصل الدعم التاريخي لجنوب افريقيا للنضال الوطني الفلسطيني.
ولئن نددت جنوب افريقيا بهجوم 7 اكتوبر 2023 إلا ان هذا لم يمنعها من القيام بهذه الدعوى متهمة اسرائيل بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. ولم تقتصر دعوى جنوب افريقيا على الحرب الحالية بل امتدت الى تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي واشارت الى ان هذه الابادة نتاج للسياسات التي طبقتها اسرائيل خلال الخمس وسبعين السنة المنصرمة .وقد وضعت جنوب افريقيا الدعوى يوم 29 ديسمبر 2023 تحت حجة عدم احترام معاهدة مكافحة ومحاربة جريمة الابادة الجماعية. وقد أكد التقرير الضافي الذي اعدته جنوب افريقيا على ثلاث مسائل اساسية وأركان لهذه الجريمة ودعوتها لإيقافها وهي الهجومات العسكرية والحرب المدمرة والقتل والإصابات المادية والنفسية لسكان غزة وظروف العيش التي أدت الى تدمير سكان غزة.
وانطلقت المحكمة في دراسة الدعوى الجنوب افريقية وإجابات اسرائيل يوم 11 و12 جانفي .وتابع كل العالم جلسات المحكمة مباشرة .وقد اشار أغلب الاخصائيين الى اهمية الملف الذي اعدته جنوب افريقيا والذي اعتمد على تصريحات رسمية لمسؤولين كبار في الدولة وقادة الجيش التي اثبتت وجود تخطيط للإبادة الجماعية.
هل سينجح النظام العالمي في الامتحان؟
اثر الجلسات العلنية انتقلت المحكمة للمفاوضات، بطبيعة الحال، سيأخذ النقاش حول جوهر تهمة الابادة من المحكمة سنوات من البحث والتمحيص وجمع الوثائق، وتبقى المسألة المهمة في هذه القضية القارات الاستعجالية مطالبة جنوب افريقيا باتخاذ قرار في انتظار دراسة الاصل. كما طالبت جنوب افريقيا المحكمة بأخذ قرار استعجالي بإيقاف الحرب وفتح المعابر لايصال المساعدات الى السكان وحمايتهم من العمليات العسكرية.
لهذا القرار قيمة سياسية كبرى لو تم اتخاذه باعتبار أنه سيضع اسرائيل موضع الاتهام من طرف مؤسسة اممية.ولتفادي هذا القرار تمارس الدول الكبرى ضغوطات كبيرة على القضاة الخمسة عشر الذين يشكلون هيئة المحكمة. وحتى اذا اتخذت المحكمة قرارا بوقف اطلاق النار فإن ذلك سيتطلب موافقة مجلس الامن.وقد اشارت الولايات المتحدة الامريكية منذ البداية الى انها ستستعمل الفيتو ضد هذا القرار.
ان مداولات محكمة لاهاي تشكل اليوم امتحانا اساسيا لا فقط لمحكمة العدل الدولية بل كذلك للنظام العالمي ومدى قدرته على الخروج من الهيمنة الاحادية للدول الكبرى وبناء علاقات دولية اكثر عدلا وحماية للبلدان الضعيفة وهذا الامتحان يتجاوز القضية الفلسطينية والحرب على غزة ليضع على المحك مستقبل النظام العالمي وشرعيته وقدرته على بناء علاقات تعاون جدية وعادلة.