تطوير القطاع الصحي في الجهات الداخلية : الإصلاحات الجوهرية و الضرورية

طرحت حادثة خمودة بالقصرين و التي راح ضحيتها عديد القتلى و الجرحى و من جديد الوضع المتردي لقطاع الصحة في الجهات الداخلية التي و علاوة على ضعف البنية الصحية فيها أصلا فإنها تمثل ساحات حرب مع الإرهاب الذي يتمترس في الجبال المحاذية للكاف وجندوبة والقصرين

و قفصة و غيرها. وللأسف لم تتقدم الحكومات السابقة بإصلاحات جذرية لتطوير القطاع الصحي في تلك الربوع و اكتفت بإجراءات تسكينية سرعان ما ظهرت محدوديتها بعد كل أزمة صحية تصيب تلك المناطق. ونخشى أن تواصل الإدارة الحالية لوزارة الصحة في ذات النهج و هو ما قد يحرم المواطنين في تلك الجهات من منظومة صحية دائمة وناجعة و قادرة على مجابهة الأزمات و مجابهة معضلة العصابات الإرهابية

• نقص أطباء الإختصاص في الجهات الداخلية: الحل في العمل الوجوبي للأطباء
تفتقد أغلب الجهات الداخلية لأطباء الاختصاص. ورغم أن وزارة الصحة تفتح سنويا ما يقارب 300 مركز ا لأطباء الاختصاص إلا أن الإقبال عليها لا يتجاوز 50 طبيبا والعديد منهم سرعان ما يستقيل أو يسعى للنقلة إلى الجهات الساحلية بما يجعل المستشفيات الجهوية في حالة نقص مزمن. و لم تكن محاولة السيد سعيد العايدي الوزير السابق للصحة ناجعة عبر بعث صندوق طب الإختصاص بميزانية سنوية تقدر ب26 مليار . فعلاوة على أن الإقبال لم يكن كثيفا رغم المنحة المالية السخية (630 دينار لحصة عمل ب24 ساعة) فإن تلبية حاجيات الجهات الداخلية لا تتمثل في أطباء يزاولون حصة استمرار ليلي بالمستشفى ثم يغادرون دون رجعة كما لا تتلخص في توفير 6 اختصاصات طبية حيوية فقط. فالمستشفيات الجهوية تتطلب أطباء مختصين قارين يعملون على مدار اليوم و السنة و ينشطون الحياة الصحية و العلمية للمستشفى كما أن المواطنين في تلك الجهات هم بحاجة إلى كل الاختصاصات مثل سائر المواطنين و ليس فقط الإختصاصات الحيوية ( جراحة..انعاش... توليد....طب القلب..الأطفال..). فالمواطنون هناك لهم الحق في المختصين في أمراض السكري

والغدد والطب النفسي والامراض السرطانية وامراض الأنف والحنجرة والأعصاب و المفاصل و الجلدة وغيرها من ضمن ما يقارب 20 اختصاصا طبيا يحتاج لها المواطن بصورة يومية.

لو نواصل في السياسات الحالية فلن نتمكن لا في المدى القصير و لا في المدى المتوسط من توفير أطباء الإختصاص بالعدد الكافي ( من الأطباء و الإختصاصات الطبية) في المستشفيات الداخلية. و هذا يؤدي إلى تواصل تدهور الأوضاع الصحية في تلك الجهات ويمثل فتيلا للاحتجاجات الاجتماعية. كما أن من نتائجه تواصل الاكتظاظ بالمستشفيات الجامعية الكبرى إضافة إلى أنه سيثقل كاهل المواطن الذي سيضطر إلى التوجه إلى القطاع الخاص أو التوجه إلى المدن الساحلية للتداوي مما يعمق من تدهور مقدرته الشرائية المهترئة أصلا
لذلك لا نرى حلا أخر سوى سن قانون للعمل الوجوبي لأطباء الإختصاص المتخرجين حديثا لمدة سنتين في المستشفيات العمومية علما بان النقص في طب الإختصاص يشمل أيضا المستشفيات المحلية في المدن الساحلية و حتى المستشفيات الجامعية

تحويل المستشفيات الجهوية إلى مستشفيات جامعية
من غير المقبول أن تبقى المستشفيات الجامعية حكرا على المدن الساحلية. و من مزايا هذا التحول أن يمكن كليات الطب و كليات الصيدلة و طب الأسنان من فتح مراكز للأطباء الأساتذة المحاضرين maitre de conférence agrégé و أساتذة مساعدين assistants و أطباء متمرنين internes et résidents و هو ما يرفع القيمة العلاجية و العلمية في تلك المستشفيات و يعطيه قيمة مضافة. من جهة أخرى فإنه يمكن من تغيير طريقة التسيير الإداري و المالي من إدارة عمومية للصحة ( ذات تنظيم ثقيل و بيروقراطي) إلى مؤسسة عمومية للصحة و الذي و رغم سلبياته فهو يمكن من تسيير أكثر سلاسة وأقل بيروقراطية مع إشارتنا عرضا بأنه حان الوقت لمراجعة كلا التنظيمين من أجل تسيير أكثر مرونة و أقل بيروقراطية لمستشفياتنا العمومية.
قد يبدو الأمر خياليا للبعض و لكن علينا أن نتذكر بأن مستشفى جندوبة و مستشفى منزل بورقيبة على سبيل المثال كانت مستشفيات جامعية خلال سنوات الثمانيات. كما أن مستشفيات المهدية و القيروان و نابل و بنزرت أصبحت ذات صبغة جامعية منذ سنوات قليلة. فإن بعث أقسام استشفائية جامعية أو تحويل مستشفى جهوي إلى جامعي يتم بأمر حكومي ( و ليس بقانون) و هو بالتالي يتعلق بالإرادة السياسية و لا نتصور أن هنالك من سيعرقل هذا الأمر باعتبار الإرادة الشعبية اليوم بتطوير تلك الجهات عبر إجراءات و سياسة إرادية في نطاق التمييز الإيجابي

• بعث كليات طب و صيدلة في الجهات الداخلية
يعود تشييد أخر كلية طب ( بالمنستير) إلى سنة 1978 أي منذ ما يقارب 40 سنة. و قد شاءت الظروف أن تكون 4 كليات طب و كلية الصيدلة و كلية طب الأسنان موزعة فقط بين المدن الساحلية ( تونس وسوسة والمنستير وصفاقس). و في بلادنا هنالك طبيب واحد لما يقارب 1000 نسمة في حين أن المنظمة العالمية للصحة تطلب بأن يكون هنالك طبيب لكل 500 مواطن بما يعني أن حاجتنا من الأطباء في المرحلة المقبلة لا تزال كبيرة (مضاعفة العدد الحالي في العشر سنوات القادمة). وكذلك الحال بالنسبة للصيدلة و طب الأسنان حيث أن هنالك كلية واحدة لكل اختصاص و ذلك منذ 40 سنة. خلاصة القول أن بلادنا وعلى المدى المتوسط تحتاج على الأقل إلى كليتين للطب و كلية أخرى للصيدلة و مثلها لطب الأسنان. و على سبيل المقارنة ففي فرنسا ( 70 مليون نسمة) توجد 40 كلية طب و 25 كلية صيدلة و 16 كلية لطب الأسنان.

و برأينا فإن المواقع الطبيعية لمثل هذه المنشآت هي الجهات الداخلية. من جهة لأن ذلك يحقق الحد الأدنى من التوازن الجهوي. من جهة ثانية لأن بعث تلك المؤسسات يحفز النمو الإقتصادي و الإجتماعي في تلك الجهات. فلقد أثبتت الدراسات أن بعث مؤسسة للتكوين في أي جهة ( مدرسة..معهد ثانوي..معهد عالي..) ينشط الحركية الإقتصادية و الإجتماعية في تلك المنطقة. من جهة ثالثة فإن بعث مثل تلك الكليات يشكل القاطرة لتركيز هياكل صحية قوية متينة و دائمة في تلك الجهات. و من ناحية أخرى فإن بعث كليات طب و صيدلة من شانه أن يشكل استقطابا للطلبة الأجانب ( و خاصة من إفريقيا) و الذين يقبلون على دراسة الطب و الصيدلة و يتوجهون حاليا إلى أوروبا. فتونس بإمكانها أن تكون قطبا إقليميا في الخدمات الصحية و التكوين الجامعي بمختلف شعبه وهو محور استراتيجي للتنمية المستقبلية في بلادنا.

عبد المجيد المسلمي (عضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115