المبادرة الثلاثية لاقت معارضة عدد من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذين اعتبروها غير قانونية مستندين في ذلك إلى تعليلات وصفوها بالقانونية والدستورية وبأن التقدم بتلك المبادرة في التوقيت الذي كثر فيه الحديث عن التدخل التشريعي يعتبر تشويشا على ذلك المسار أي تعديل القانون وعبروا عن رفضهم الجلوس إلى طاولة الحوار حول تلك المبادرة.
«تهليل واستياء»
التلويح بالدفع نحو التدخّل التشريعي جاء من طرف شق من المجلس الأعلى للقضاء رغم وصفهم إياه بالشرّ الذي لا بدّ منه أي العمل بمقولة «مجبر أخاك لا بطل» لأن القضاة يمكن القول بأنهم خسروا أولى معارك إثبات وحدة الصفّ للدفاع عن استقلالية السلطة القضائية التي طالبوا بها منذ اندلاع الثورة لأن الحكومة سلّمتهم المقود في بداية الطريق نحو بناء الوضع الدائم لسلطتهم ولكن الخلافات الداخلية والحسابات القطاعية الضيقة ألهتهم عن السير نحو الهدف وحدث المنعرج ليجدوا أنفسهم أمام أزمة هم المتسبب فيها بسبب تعنت جميع الأطراف بطريقة أو بأخرى ولأسباب وتعلات متعددة منها الخفي ومنها المعلن عنه وتناسوا مصلحة القضاء عامة والمتقاضي بصفة خاصة الذي يعتبر الضحية الأولى لهذه الأزمة. المبادرة التشريعية جاءت كحلّ بديل للمبادرة الثلاثية كما ذكرنا رغم أن هذه الأخيرة تقدمت فيها الأعمال نحو الإيجاب وفق تقييم المبادرين خاصة وأنهم تمكنوا من جمع عدد هام من الإمضاءات ولكن المصادقة على مقترح تعديل القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء مثل مفاجأة للشق المساند للمبادرة ولعديد الأطراف الأخرى،في المقابل هناك من هلّل وساند التدخل الحكومي لحلّ الأزمة التي طالت أكثر من اللزوم وأثرت بشكل مباشر على سير مرفق القضاء اذ دخلت المحاكم في شبه شلل.
«لماذا في هذا التوقيت بالذات»؟
اختيار هذا التوقيت للتدخّل من أجل وقف نزيف الخلافات والتجاذبات في مسألة المجلس الأعلى للقضاء بعد أشهر من المدّ والجزر بين أهل الدار ولكن دون جدوى ولئن لقي الاستحسان إلا أنه يفتح الباب لطرح سلسلة من الاستفهامات لماذا الآن؟ الإجابة وبالنظر إلى المشهد القضائي اليوم وبرصد مواقف عديد الملاحظين هناك عديد الأسباب منها المعلن وهو أن الوضع القضائي اليوم لم يعد يسمح بمزيد من الاحتقان والتوتر لأن معضلة المجلس إن طالت يمكن أن يتولد عنها أزمات أخرى خاصة وأن شهر مارس الحالي والأشهر المقبلة ستشهد إحالة عدد كبير من القضاة على التقاعد لبلوغهم السنّ القانوني سواء من داخل المجلس الأعلى للقضاء على غرار احمد الصواب المعين بالصفة أو في عدد من محاكم الجهات الداخلية بالإضافة إلى محكمة الاستئناف والتعقيب بتونس والنتيجة سلسلة من الشغورات لا بد من
سدّها وبالتالي لا بد من الإسراع في تركيز المجلس الأعلى للقضاء بوصفه الجهة الوحيدة المخولة قانونا للبت في المسار المهني للقضاة وفي غيابه تتعطل كل الأمور و فرضية دخول المحاكم في حالة شلل تام تصبح شبه مؤكدة. أما الخفي والذي ذهب إليه عدد من رجال القانون هو أن الحلّ التشريعي في هذا الوقت بالذات أمر مدروس في ظل الفراغ الذي تعيشه الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين باعتبارها تعاني من شغورين اثنين وهما الرئيس بعد إحالة خالد العياري على التقاعد ونائبه الأول وهو الرئيس الأول لدائرة المحاسبات وبالتالي هناك استحالة الطعن في المبادرة التشريعية في صورة المصادقة عليها أمام مجلس نواب الشعب وهذا شبه مؤكد وبالتالي فإن هذه الأخيرة ستمرّ بسلام ويتم تركيز المجلس الأعلى للقضاء لتلافي مزيد المنعرجات والتعقيدات في المشهد القضائي وسدّ الشغورات.
مخاوف من تأثيرات مستقبلية
المبادرة التشريعية المقترحة من قبل الحكومة والتي حظيت بالمصادقة اثر مجلس وزاري عقد في الغرض هي الآن في أروقة مجلس النواب تنتظر إدراجها في جدول الجلسة العامة خاصة وأن الحكومة أكدت على استعجال النظر وبالتالي فإنه من الممكن مناقشتها في الأيام القليلة القادمة وفي صورة المصادقة عليها وأمام استحالة الطعن فيها لدى الهيئة المعنية بالنظر في دستورية مشاريع القوانين وفق ما ينصّ عليه القانون المنظم لها ووفق ما أفادنا به مصدر مطّلع فيمكن القول بأنها خطوة نحو انفراج الأزمة ولكن هناك تأثيرات مستقبلية ربما تظهر بمجرد إرساء المحكمة الدستورية التي ستعوّض هيئة مراقبة دستورية القوانين وستضع مستقبل المجلس الأعلى للقضاء في الميزان إذ يمكن لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء المعارضين للمبادرة التشريعية الطعن فيها أمام المحكمة الدستورية وفي صورة قبول طعنهم تكون الكارثة وتسقط بذلك كلّ الأعمال المبنية على ذلك الأساس والنتيجة العودة إلى نقطة الصفر وكأن المجلس لم يكن وهذا أمر وصفه عديد الملاحظين بالخطير واخطر من الأزمة الحالية. علما وأن هناك أطرافا قضائية عبرت عن تخوفها من الوصول إلى هذه المرحلة لأنها يمكن أن تتسبب في انهيار كلّ ما سيبنى على أساس هذه المبادرة وفق تعبيرهم.
قول القانون
بالعودة إلى نصّ القانون المنظم للهيئة الوقتية للنظر في دستورية مشاريع القوانين للتثبت من امكانية الطعن في المبادرة التشريعية من عدمها نظرا للشغورات الحاصلة في تلك الهيئة وجدنا بأن الفصل 13 يقول «عند حصول شغور في رئاسة الهيئة لاستقالة أو تخل أو إعفاء أو عجز تام أو وفاة، يتولى الرئيس الأول للمحكمة الإدارية رئاسة الهيئة إلى حين تعيين رئيس جديد لمحكمة التعقيب وذلك في أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ الإعلام بالشغور». الأجل المنصوص عليه قد انقضى منذ أكثر من ثلاثة أشهر والرئيس الأول للمحكمة الإدارية بصفته نائب أول لرئيس الهيئة الوقتية لمراقبة الدستورية يمكن له ممارسة صلاحيات الرئيس والنظر في الطعون التي يمكن أن تقدّم بخصوص المبادرة التشريعية ولكن من جهة أخرى وبمنطق القانون فإن نفس الشخص هو عضو معين بالصفة في المجلس الأعلى للقضاء وبالتالي سيكون الخصم والحكم وهذا أمر غير ممكن قانونا ومنطقا وبالتالي فالطعن غير ممكن حاليا وفق قراءات عديدة أيضا.