الحياة السياسية والإجتماعية في ليبيا، أقصى هؤلاء من العمل السياسي الفعلي في الداخل ولم يمكنهم من التنظم في أحزاب تتداول على الحكم لمراكمة التجارب وصولا إلى تكريس الديمقراطية.
وحتى أولئك الذين مارسوا فعليا النشاط السياسي في ليبيا قبل زلزال 17 فبراير 2011، فإنه لا دراية لهم بالعمل الحزبي ولا بتسيير مؤسسات الدولة وذلك بالنظر إلى شكل النظام الليبي السابق الذي غابت عنه المؤسسات والأحزاب وغاب عنه التداول السلمي على السلطة. فهؤلاء شأنهم شأن الذين جاؤوا من الخارج مع موجة ما سمي «الربيع العربي» لا يمتلكون الخبرة في كيفية التعايش مع الآخر في حياة سياسية ديمقراطية تتصارع فيها الأفكار، لا الأشخاص، دون إراقة قطرة دم واحدة ويكون الفيصل لترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك هو صناديق الإقتراع التي يعبر من خلالها الشعب عن إرادته.
كما ان الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان الليبي، وغير الممثلة فيه، تفتقد إلى قواعد شعبية حاضنة لها و ليس لها أنصار على غرار كبرى الأحزاب في العالم. فحتى «الحركة الإخوانية» الليبية ليس لها البريق الذي لنظيراتها في البلاد العربية باعتبار أن المجتمع الليبي أغلبه محافظ و لا يقدم له هذا التنظيم خيارات جديدة مختلفة عما هو سائد، ناهيك أن أحزابا سياسية توصف بأنها ليبرالية نادت بتطبيق الشريعة في بلد عمر المختار، وبالتالي فإن توظيف الدين دون إسناده بالسلاح لا يؤتي أكله في ليبيا مثلما هو الشأن في الجارة التونسية على سبيل المثال و في مناطق أخرى على المستوى الإقليمي.
ويوجد في ليبيا أيضا حقوقيون بات المجال مفتوحا أمامهم للعمل كجماعات ضغط تحول دون انحراف الحكومات التي قد تستهدف الحريات وتنتهك حقوق الإنسان. إلا أن الملاحظ في عمل أغلب الجمعيات والمنظمات الحقوقية وفي التقارير الصادرة عنها أن تركيزها ينصب عموما على الإنتهاكات التي حصلت زمن القذافي رغم أن عصر الميليشيات الحالي يشهد ممارسات فظيعة يندى لها الجبين لا تلقى عادة الإهتمام اللازم من الحقوقيين الليبيين ويتم التعتيم عليها خوفا من الملاحقات التي قد تطال هؤلاء الحقوقيين من أصحاب السطوة والنفوذ، أي زعماء الميليشيات.
ويخشى البعض من ارتباطات لهذه المنظمات والأحزاب التي ظهرت في المشهد الليبي بعد 2011 بالخارج ومن انخراطها في تنفيذ أجندات لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالمصلحة الليبية. فأصحاب هذا الرأي يعتبرون أن الربيع العربي ماهو إلا مشروع الفوضى الخلاقة الذي سوقت له في وقت سابق وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وأن هذا المشروع الذي يستهدف الجمهوريات العربية ويستثني الأنظمة الملكية هدفه مزيد تقسيم المنطقة للسيطرة أكثر على ثرواتها وضمان استمرار اسرائيل لقرون في محيط عربي تسوده «الفوضى الخلاقة».
كما يصر هؤلاء على اعتبار أن لأصحاب المشروع المتواجدين وراء المتوسط والمحيط الأطلسي، وكلاء من دول المنطقة لديهم بدورهم أتباع في الداخل الليبي يحرصون على تنفيذ الأجندات. ولعل مشهد ساسة ليبيين وهم يستقبلون بحفاوة وترحاب كبيرين الصهيوني برنار هنري ليفي يدعم نظرية أصحاب هذا الرأي مع ما عرف عن الفيلسوف الصهيوني الفرنسي من تعصب للكيان الصهيوني ومن استبسال في الدفاع عن مصالحه والتسويق له في شتى بقاع الأرض.
ولعل الحل لتجاوز هذه المعضلة التي لا تعاني منها ليبيا فقط، بل أغلب بلدان ما يسمى «الربيع العربي» هو تحقيق التوافق بين مختلف الأطياف السياسية وتجاوز جميع أسباب الفرقة السياسية وحصر الصراع في الإختلاف الفكري الذي يحسم ديمقراطيا. فوحدة الليبيين هي صمام أمان يصد التدخلات الخارجية ويجعل ليبيا عصية على الأعداء الخارجيين الراغبين في العبث بمصالحها والهيمنة على ثرواتها ومصادرة قرارها.
ولعل أهم المعضلات التي تواجه ليبيا والتي تتطلب تدخلا عاجلا هي ضرورة إيجاد خطة للتعامل مع المنخرطين في هذه الجماعات الإرهابية لا تشمل الجانب الأمني فحسب بل تتجاوزه إلى التفكير في المعالجة النفسية وإعادة التأهيل وتكريس نظام تعليمي مواكب لعصره يبتعد عن الغلو والتطرف مع التركيز على تدريس مناهج العلوم الإنسانية التي تقوم على النقد و ترفض الأخذ بالمسلمات وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.