حصيلة مُخيفة تسجّلها غزة في أطول حروبها: إعادة إعمار غزة على مدار السنوات العشر المُقبلة ستتطلّب نحو 53.2 مليار دولار

 

• قطاع غزة سجّل أعلى موجة نزوح يشهدها العصر الحديث

يمثل ملف إعادة إعمار غزة ما بعد حرب الإبادة التي يعيشها القطاع منذ أكتوبر 2023 ،

أحد أهم أولويات المرحلة المقبلة لا فقط على صعيد المنطقة فحسب بل أيضا على الصعيد الدولي .فعلاوة على التوافقات السياسية الملحة تتطلب المرحلة موارد مالية ولوجيستية ضخمة لتغطية مخلفات أحد أعنف الحروب التي شهدتها البشرية في العصر الحديث. ولئن اختلفت التقارير الدولية الصادرة بخصوص تكاليف إعادة الإعمار إلا أنّ جلّها اشترك في أنّ قيمة التمويلات التي يجب رصدها لإعادة الحياة للقطاع المنكوب باهظة جدا . ويرى مراقبون أنّ ماتعيشه غزة من حرب خلفت آلاف الضحايا بين شهداء وجرحى ومفقودين لايزالون تحت الركام والأنقاض ، يجعل الندوب التي خلّفتها الكارثة لإنسانية في غزة غير قابلة للترميم ولا لإعادة البناء على غرار مساعي إعادة الإعمار التي تقودها أطراف إقليمية ودوليّة .

وبالنظر للخسائر الفادحة التي خلّفتها حرب الإبادة التي تشنّها سلطات الإحتلال الصهيونية في غزّة منذ أكثر من عام ونصف ، يبدو الحديث عن إعادة الإعمار ما بعد الحرب شبيها بالحلم الذي يصعب تحقيقه على المدى القريب ، لا فقط بسبب الواقع الإقليمي بل أيضا نتيجة تضارب السياسات على الصعيد الدولي. نظرا لما يواجهه هذا الملف من تحديات بخصوص التمويلات أولا ،وبالعراقيل التي يفرضها المحتل ثانيا سواء المتعلقة بالقيود والشروط المجحفة التي يفرضها الكيان على إدخال المساعدات الإنسانية عبر المعابر ، أو في علاقة بمنع إدخال مواد البناء والآليات اللازمة لإعادة بناء غزة التي سُويت أغلب بناياتها ومؤسساتها ومدارسها وجامعاتها وجوامعها بالأرض نتيجة القصف اليومي .
إن ما يعيشه القطاع من دمار شامل وحصار خانق يجعل من عملية إعادة الإعمار أكثر من مجرد استعادة للبنية التحتية، بل هي معركة لاستعادة الكرامة الإنسانية لشعب ضحى بكل شيء من أجل البقاء. إن هذا الملف لا يقتصر على كونه أولوية إقليمية فحسب، بل بات يتصدر أولويات المجتمع الدولي، الذي لا يمكنه أن يتجاهل حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع.
فإلى جانب التوافقات السياسية الضرورية، يتطلب هذا التحدي موارد مالية ولوجيستية ضخمة لمواجهة آثار واحدة من أشرس الحروب في تاريخ البشرية الحديث. على الرغم من تعدد التقارير الدولية التي قدّرت تكاليف إعادة الإعمار، فإنّ جميعها اتفقت على أمر واحد: قيمة التمويلات المطلوبة هي أرقام خيالية تستوجب تظافر جهود الدول والمنظمات الإغاثية. في هذا السياق يرى العديد من المراقبين أنّ آثار الحرب على غزة قد تركت جراحا عميقة في قلب الإنسانية نفسها، بحيث يصعب تصوّر إمكانية إعادة بناء الأرواح والعقول التي تحطمت تحت الأنقاض.
ووفقا لتقييم مشترك صادر عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي في 18 فيفري، فإن عملية التعافي وإعادة البناء على مدار السنوات العشر المقبلة ستتطلب نحو 53.2 مليار دولار، مع الحاجة إلى 20 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الأولى فقط. التقرير، الذي حمل عنوان "التقييم المرحلي السريع للأضرار والاحتياجات في غزة والضفة الغربية"، رسم صورة قاتمة عن الأوضاع، موضحا أن الحرب أدت إلى انهيار شبه كامل للاقتصاد الفلسطيني، وألحقت خسائر هائلة بالبنية التحتية والمرافق الأساسية.
هذا التقرير السريع والمبدئي يأتي بعد أسابيع من وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في 19 جانفي 2025 ، في أعقاب حرب إبادة صهيونية خلفت عشرات الآلاف بين شهيد وجريح، وأدت إلى تدمير واسع للمباني والمساكن.
وتعددت التقارير المتعلقة بإعادة إعمار غزة واختلفت التكاليف من تقرير إلى آخر ، إلا أن الأرقام في كل التقارير تؤكد حجم الأضرار وقيمتها الباهضة إذ كشفت وكالة "بلومبيرغ" نقلا عن خبراء أنّ عملية إعادة إعمار قطاع غزة ربما تكلّف أكثر من 80 مليار دولار، إلى جانب 700 مليون دولار لإزالة 42 مليون طن من الأنقاض خلفتها الحرب الدائرة منذ أكثر من 10 أشهر وفق دراسة أجرتها مؤسّسة "راند" البحثية ومقرّها كاليفورنيا.

تحديات كبرى
ولئن تسلط هذه التقديرات الضوء على حجم التحديات المالية واللوجستية المطلوبة لإعادة غزة إلى مسار الحياة الطبيعية، إلا أن التساؤلات تبقى مطروحة بشدة حول إمكانية تأمين التمويل اللازم وسرعة تنفيذ المشاريع لإعادة إعمار القطاع المنكوب .
في قطاع غزة، حيث يعيش نحو 2.3 مليون نسمة، نصفهم من الأطفال ، شهدت هذه الأعداد تراجعا بنسبة 6% منذ اندلاع الحرب، في واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي يشهدها العصر الحديث.
وعلى مدار أكثر من 15 شهرا من القصف المستمر، قتلت سلطات الإحتلال الإسرائيلي اثنين من كل مئة فلسطيني، بينما لا يزال 11,160 شخصا في عداد المفقودين، أي أن واحدا من كل مائتي مواطن ما زال مصيره مجهولا، ودُفن العديد منهم تحت أكثر من 42 مليون طن من الركام، وسط مشاهد الموت والدمار.
ومع استمرار القصف والتشريد، اضطر 100 ألف فلسطيني إلى مغادرة غزة، بينما عانى 9 من كل 10 مواطنين من النزوح القسري، بعضهم نزح مرارا وتكرارا بحثًا عن ملاذ آمن في مدينة باتت كل زواياها مهددة بالخطر.
هذه الأرقام الصادمة التي تقول تقارير أممية أنها لا تنقل بدقة الأعداد الحقيقية التي هي أكبر بكثير ، تكشف واقعا إنسانيا يفوق كل وصف، حيث باتت الحياة في غزة كابوسا يوميا، وأصبحت منازلها وشوارعها مقابر مفتوحة لأحلام شعب يحاول النجاة وسط الركام.
أرقام صادمة تكشف حجم المأساة
ومنذ بدء الحرب في 7 أكتوبر 2023، تعرض قطاع غزة لحملة قصف غير مسبوقة، تسببت في خسائر بشرية كارثية ونزوح جماعي، إلى جانب تدمير المساكن، والمستشفيات، والمدارس، والبنية التحتية الأساسية. التقرير كشف أن الأضرار المادية وحدها بلغت 29.9 مليار دولار، حيث كان قطاع الإسكان الأكثر تضررا بنسبة 53% من إجمالي الأضرار، يليه قطاع التجارة والصناعة بنسبة 20%، فيما شكلت الأضرار في قطاعات الصحة، والمياه، والنقل أكثر من 15%.
أما الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تعطل الإنتاج وفقدان الإيرادات وتكاليف التشغيل، فقد قُدّرت بنحو 19.1 مليار دولار، مع تكبد قطاعات الصحة، والتعليم، والتجارة أكبر الخسائر. في المجمل، بلغ التأثير الاقتصادي للحرب 49 مليار دولار، وهو ما يجعل الحاجة إلى 53.2 مليار دولار ضرورية لإنقاذ القطاع وإعادة الحياة إلى ما تبقى منه.
اقتصاد غزة يتلاشى
التقرير كشف أيضا عن انهيار شبه كامل للاقتصاد في غزة، حيث توقفت عجلة الإنتاج في جميع القطاعات تقريبًا، وسجلت الأسعار ارتفاعًا جنونيًا بأكثر من 300% خلال عام واحد، بينما ارتفعت أسعار الغذاء وحدها بنسبة 450%، مما جعل الحياة اليومية أكثر قسوة على السكان المنهكين.
وتوقّع التقرير أن يشهد اقتصاد غزة انكماشا بنسبة 83% في عام 2024، مما قلّص مساهمته في الاقتصاد الفلسطيني إلى 3% فقط، رغم أن القطاع يضم 40% من سكان فلسطين. ولم تكن الضفة الغربية بمنأى عن التداعيات الاقتصادية، حيث من المتوقع أنّ يشهد اقتصادها انكماشا بنسبة 16% خلال 2024، في ظلّ القيود الإسرائيلية المتزايدة والشلل الذي أصاب الأسواق.
ووفق تقارير فقد هُدمت أحياء بكاملها في الحرب التي تشنها "إسرائيل" بما تضمه من بنايات سكنية وتعليمية ومؤسسات ومستشفيات ودور عبادة ، كما قدر ت تقارير في الغرض أن إزالة مخلفات الحرب من أنقاض والتي بلغت 42 مليون طن سيستغرق إزالتها عقدا كاملا من الزمن .
ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية باتت نصف مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى تعمل بشكل جزئي نتيجة حالة الدمار التي طالتها. كما تعرّضت 88% من المدارس للضرر أو التدمير، وتعرضت 92% من المنازل للضرر أو التدمير. وتم تدمير 68% من الأراضي الزراعية، فضلا عن 68% من جميع الطرق.

160 ألف شهيد وجريح.. ودمار لا حدود له

أسفرت الحرب التي اندلعت منذ أكتوبر 2023عن 48,348 شهيد و111,761 إصابة منذ السابع من أكتوبر 2023 ، الكثير منهم دفنوا تحت أنقاض 42 مليون طن من الركام. كما أجبرت الحرب 100 ألف فلسطيني على مغادرة القطاع، بينما تعرض 90% من السكان للنزوح القسري، بعضهم نزح أكثر من مرة، بحثًا عن أي مكان آمن وسط مدينة تحوّلت إلى أنقاض.
مع كل هذه الأرقام الكارثية، تبدو إعادة إعمار غزة مهمة ضخمة ومعقدة تواجهها تساؤلات ملحة، في ظل تحديات سياسية واقتصادية هائلة ولعل الأسئلة الملحة هي من أين سيأتي التمويل؟ وكيف يمكن إعادة بناء حياة الملايين وسط هذا الدمار؟ .
خطة مصرية لإعادة الإعمار

وفي نفس سياق ملف إعادة إعمار قطاع غزة نقلت تقارير إعلامية مصادر مصرية ودبلوماسيين عرب وغربيين تفاصيل خطة تضعها القاهرة لإعادة إعمار غزة دون إجبار الفلسطينيين على مغادرة القطاع. ويأتي ذلك ردا على اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإخلاء القطاع من سكانه للسماح للولايات المتحدة بالسيطرة عليه.
ووفقا للصحيفة المصرية "الأهرام"، فإن اقتراح مصر يشمل إقامة "مناطق آمنة" داخل غزة، حيث سيتمكن الفلسطينيون من العيش بشكل مؤقت بينما تقوم شركات البناء المصرية والدولية بإزالة الأنقاض وإعادة تأهيل البنية التحتية للقطاع التي دمرتها الحرب.
وتنصّ الخطة المصرية التي من المقرر طرحها في القمة العربية الطارئة المزمع عقدها يوم 4 مارس المقبل ، على إجراء عملية إعادة إعمار مكونة من ثلاث مراحل تستغرق حتى خمس سنوات، دون تهجير الفلسطينيين من غزة. وتشمل الخطة تحديد ثلاث "مناطق آمنة" داخل القطاع لإعادة توطين السكان خلال فترة التعافي الأولية التي تمتد على ستة أشهر، حيث سيتم تجهيز هذه المناطق بمنازل وملاجئ مؤقتة، مع تدفق المساعدات الإنسانية.

وستشارك أكثر من 20 شركة مصرية ودولية في إزالة الأنقاض وإعادة بناء البنية التحتية للقطاع، مما سيوفر عشرات الآلاف من فرص العمل لسكان غزة.
يأتي هذا الاقتراح بعد الجدل الدولي الذي أثير حول دعوة ترامب لتهجير أكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزة. فقد اقترح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة إدارة القطاع وإعادة بناءه ليصبح "ريفييرا الشرق الأوسط"، ولكن دون السماح للفلسطينيين بالعودة. وهو ما قوبل بمعارضة واسعة من العرب والمجتمع الدولي.
كما أكد الفلسطينيون رفضهم مغادرة وطنهم، فيما رفضت مصر والأردن دعوات ترامب لاستقبال سكان غزة. واعتبرت منظمات حقوق الإنسان الخطة بمثابة تهجير قسري، وهو ما يعد جريمة حرب.
رهانات المرحلة المقبلة
ولئن اعتبر خبراء الحديث عن إعادة إعمار غزة يبدو وكأنه حلم بعيد المنال، فإنّ الواقع القاسي والمأساوي الذي فرضته الحرب يجعل من تحقيق هذا الحلم أولوية جادة على المدى القريب. فهذا الواقع الأليم يفرض على الجميع التوقف طويلا أمام هذه الكارثة الإنسانية التي تزداد تعقيدا مع مرور الوقت. إن عملية إعادة إعمار غزة ليست مجرد عملية بناء منازل ومرافق، بل هي رحلة طويلة وشاقة نحو إعادة بناء أرواح وعقول شعب تعرض لواحدة من أعنف الحروب التي شهدتها البشرية في هذا القرن.
إن غزة اليوم ليست فقط تحت الركام، بل تحت وطأة جراح لا يمكن للزمن أن يداويها بسهولة. فقد خلفت الحرب آلاف الضحايا بين شهداء وجرحى ومفقودين، والعديد منهم لا يزالون تحت الأنقاض في انتظار أن تمتد إليهم يد العون. إن هذا الواقع يحوّل عملية إعادة الإعمار إلى مهمة مستحيلة في نظر كثيرين، حيث لا يكفي المال والموارد المادية لإعادة بناء غزة فحسب، بل يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية وتعاون دولي حقيقي، وهو ما يظل صعب المنال في ظل الانقسامات السياسية الإقليمية والدولية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115