والفاعل الاستراتيجي على المستوى الأوروبي، والنموذج على المستوى الديمقراطي ، في وقت تتنامى فيه حدّة النزعة الانفصالية عن القارة العجوز بما يهدّد بانفراط عقدها ووضعها أمام تحدّي الحفاظ على الوحدة وحرب النأي بالوحدة الأوروبية عن التجاذبات الإقليمية والدولية.
المشهد السياسي البريطاني عاش على وقع اضطرابات مستمرة منذ الإعلان عن نية المملكة التوجه لإجراء استفتاء حول عضويتها في الاتّحاد الأوروبي قبل عام من اليوم ، ممّا أحدث شرخا عميقا وانقساما جغرافيا حادّا في البلاد بين مؤيدي البقاء ورافضيه. وأصبحت تداعيات التحوّل التاريخي الذي عصف ببريطانيا كانت الإطاحة برئيس الوزراء ديفيد كاميرون اثر تعهّده بالاستقالة في حال خروج بلاده من الكتلة الأوروبية .
ويرى مراقبون أنّ الانقسام الذي أحدثه الاستفتاء سيغذي الصراع السياسي داخليا ، و يفتح الباب أمام تصدع الاتحاد الأوروبي بعد خمسين عاما على البناء الشاق، حيث طالبت اسكتلندا بالانفصال عن بريطانيا، وتأييد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي .
تنامي النزعة الانفصالية بات يمثل تهديدا حقيقيا للقارة الأوروبية بعد خروج المملكة المتحدة ، خصوصا مع وجود أطراف داعمة ومحرّكة لذلك، ونعني بذلك اليمين المتطرّف الذي سطع نجمه في انتخابات عدة دول غربية في الآونة الأخيرة.
اليمين المتطرف.. أول الفائزين
من جهته قال عامر السبايلة الباحث الأردني المختصّ في العلاقات الدولية لـ«المغرب» أنّ مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي حدث «مُدوّ» لكنها تبقى لاعبا كبيرا في الكتلة حتى لو نأت بنفسها ،وأضاف أن هناك اتّفاقات كثيرة حول تحوّل السّياسات العالمية وتغيّر الكتل والتحالفات.
وأكّد السبايلة وجود نزعات انفصاليّة واضحة تنمو في أوروبا، بالإضافة إلى تيارات يمينية متطرفة تتماشى توجّهاتها مع تيّارات مٌشابهة في دول أخرى وتتعاضد معها ممّا يخلق تكتلات فيما بينها تجعل من شبح الانفصال يُخيّم فوق القارة الأوروبيّة. واعتبر محدّثنا أنّ أوروبا ستواجه هزّات سياسيّة ارتدادية خصوصا مع وصول اليمين المتطرف إلى الحُكم وتأثيره على الشارع ، إذ سيكون هذا الخروج محركا لإعادة تفعيل هذه الحركات مما سيقود إلى خروج دول أخرى وتصدّع الاتحاد الذي لطالما كان صامدا.
وأشار محدّثنا إلى أنّ الأوروبيين وضعوا سيناريوهات افتراضيّة لخروج بريطانيا، أحدها يتمثل في عودة الاتّحاد إلى النّقطة الرئيسيّة بالدّول الارتكازية التي بني عليها الاتحاد والقائمة على دول ذات اقتصاديّات قوية ، أو تبنّي فكرة تقسيم الاتّحاد الأوربي إلى فرعين الأوّل اتحاد يضمّ الدول القويّة اقتصاديا والثاني بمزايا مختلفة يضم الدول المُنضمُّة حديثا وهو ماسيتمّ مناقشته.وعن تأثير هذه الخطوة التاريخية على سياسة أوروبا في الشّرق الأوسط قال السبايلة أنّ سياسة أوروبا محدّدة مسبقا تجاه الشرق ولن تتأثر بما حدث، مضيفا أنّ ذلك سيعطي بريطانيا حرية اكبر للتحرّك إزاء عدّة قضايا .
إعادة بناء المشروع الأوروبي
من جانبه قال الكاتب والمحلّل السّياسي المغربي د. مصطفى الطوسة لـ«المغرب» يمكن أن نعتبر أن خروج بريطانيا بمثابة مؤشر قوي مُنح لكل القوى السياسية المشكّكة في جدوى وفاعلية البناء الأوروبي المُوحّد ، مضيفا انّ هذه القوى تتمثّل في الأحزاب الشعبوية والتي تحمل فكرا متطرّفا عنصريا .
وأضاف الطوسة أنّ «هذه الحركات ستوظّف خروج بريطانيا من خلال المطالبة بتنظيم استفتاءات داخلية في هذه الدول ، في محاولة لتحقيق اختراقات انتخابية في المستقبل ، مثلا هناك ما تحاول مارين لوبين زعيمة حزب الجبهة الوطنية فعله في فرنسا عبر المطالبة بتنظيم استفتاء في خطوة توظيفية تسويقية لتيارها لاستقطاب أصوات الفرنسيين في المرحلة المقبلة». وشدّد الطوسة على أن هذه التوجّه هو الخطر القوي والحقيقي الذي يتهدّد البنيان الأوروبي الموحد ومحاولة هدمه وتكسير بنيته التحتية.
وعن تداعيات مغادرة بريطانيا للاتحاد أجاب الباحث والمحلل السياسي المغربي أن هناك مؤشرا ايجابيا خلال الأسابيع والأشهر المقبلة ، من شأنه إحياء مبادرة أوروبية كانت قد دعت الى بلورة سياسة دفاع وأمن مشترك بين الدّول الأوروبيّة واجهتها معارضة بريطانية حادة آنذاك . وأضاف محدّثنا أنّ خروج المملكة الآن من شأنه تسهيل الظروف لدول الاتحاد لبلورة هذا التوجّه .
وأكد الطوسة أنّ سياسة أوروبا إزاء الشرق الأوسط لن تتغير جذريا مثلا الحرب على الإرهاب، التي تعد مسألة عابرة للحدود وعابرة للرهانات وفق تعبيره. وتابع «بريطانيا داخل الاتحاد أو خارجه مرغمة على محاربة الإرهاب ولن يتغير شيء ،ماسيتغيّر فعليا هو قضية اللاجئين الوافدين على الاتحاد فقبل هذا الخروج كانت فرنسا هي التي تلعب دور «الدركي» لمنعهم من الوصول إلى الحدود البريطانية ، الآن هناك تساؤل مطروح هل ستفتح بريطانيا حدودها أمام اللاجئين لدخول أراضيها أم ستستمر في منعهم ؟
وتابع الطوسة «هذه الخطوة ستشجع دون شك على التطرف وستحمل انعكاسات خطيرة، إذ ستساهم في غلق أبواب القلعة الأوروبية ، مما ينذر بانغلاق أوروبا على نفسها على حساب العيش المشترك والمهاجرين». وعن الآراء القائلة بان الاتحاد الأوروبي في طريقه إلى التفكّك أجاب الطوسة إن صدمة خروج بريطانيا سترغم دول الاتحاد على محاولة إعادة كتابة المشروع الأوروبي وإصلاح الهفوات والنواقص» ، مشيرا إلى أن بعض القوى السياسية أصبحت ترى أن الوقت حان لإعادة كتابة فلسفة الاتحاد الأوروبي عبر تركيز إستراتيجية جديدة تستقطب الأوروبيين وتجعلهم ينخرطون فيه عوض المطالبة بالخروج منه على حدّ تعبيره.
لاشك في ان مغادرة المملكة المتحدة لقلعة الاتحاد الأوروبي ستؤثر أيضا على الانتخابات الأمريكية القريبة ، مصطفى الطوسة قال «أن نجاح البريكست في حد ذاته هو نجاح منطق الشعبوية والديماغوجية ،وبما أن دونالد ترامب يجسد هذا المنطق في أمريكا ، فانّ هناك من يرى أن ذلك سيؤثر على مسار الانتخابات الأمريكية . علاوة على انّ وصول امرأة تنتمي إلى التيار الشعبوي كعمدة روما في ايطاليا بالإضافة إلى الاستحقاقات الانتخابية التي حققتها تيارات متطرفة في ألمانيا وفرنسا ، كل ذلك يدل على ان المد الشعبوي أصبح الآن يفرض كلمته على المشهد العام بما يساعد اليمين المتطرف على تحقيق اختراقات خطيرة».
وفاء العرفاوي