فوز تاريخي لليسار في كولومبيا: غوستافو بيترو، من النضال المسلح إلى رئاسة الجمهورية

بعد بوليفيا والبيرو وشيلي جاء دور كولومبيا لتعطي فرصة تاريخية لليسار وذلك بانتخاب عمدة العاصمة بوغوتا الأسبق غوستافو بيترو على رأس الدولة

بعد أن حصل على 50،44 % من الأصوات مقابل 47،31% لمنافسه الملياردير رودولفوهرنانديز. وسارع هذا الأخير الى الاعتراف بفوز بيترو، كما بادر الرئيس المتخلي أيفان ديوك المحافظ بتهنئة الرئيس المنتخب والتعبير عن استعداده لضمان «انتقال سلس» للسلطة معتبرا أنه «من أجل الدفاع عن الديمقراطية يجب احترامها. غوستافو بيترو هو الرئيس.»

وقال بيترو إثر الإعلان عن النتائج: «ابتداء من اليوم كولومبيا تغيرت، وهذا التغيير حقيقي وليس تغييرا من أجل الانتقام أو بث الكراهية. مرحبا بالأمل ولن يكون هنالك تتبع سياسي أو قضائي.» وأكد على أنه سوف يعمل على «مصالحة البلاد، سوف نعيد بناء السلم وإزالة العنصرية الهيكلية في البلاد.» وقد نجح في كسب الرئاسية صحبة المحامية والناشطة النسوية من أصل افريقي فرانسيا ماركيز التي سوف تتقلد منصب نائبة الرئيس وهي التي كانت المحرك الأساسي لنجاح الثنائي في الأوساط الشعبية.

من هو غوستافو بيترو
غوستافو بيترو عرف كمقاتل ضمن حركة «أم 19» الذي التحق بها في سن السابعة عشرة وتخلى عن النضال العسكري عام 1990 بعد مغادرة الحركة. ودخل معترك الحياة السياسية التي قادته إلى رئاسة بلدية العاصمة بوغوتا بين 2012 و2015. ثم أصبح عضوا في الكونغرس يقود اليسار الديمقراطي الذي اقتنع بضرورة العمل السلمي في إطار الإشتراكية الديمقراطية. وكسب بذلك خبرة سياسية وإدارية مكنته من بلورة برنامج انتخابي يهدف إلى مقاومة الفقر واللامساواة ومساعدة الفئات الضعيفة وإرساء نظام عمومي في التعليم والصحة وتنفيذ منظومة جبائية عادلة تقطع مع النظام الليبرالي الذي أنهك النسيج الاجتماعي الكولومبي.
ويعتبر غوستافو بيترو أول رئيس تقدمي في تاريخ كولومبيا التي لم يحكمها اليسار طيلة تاريخها السياسي. وبالرغم من معارضة القوات المسلحة والأحزاب اليمينية المحافظةلترشيحه الثالث في السباق على الرئاسةفإنه تمكن من بلورة خطاب كله أمل عمل على فتح آفاق جديدة ولم يستسلم لناقوس الثأر. بل مد يده لمن حكم البلاد من قبله ووعد بالعمل على إرساء السلم الاجتماعية ونبذ العنف و سن قانون مصالحة لفائدة الثوار المسلحين والمضاربين بالمخدرات والمليشيات اليمينية المسلحة التي قامت بتصفية عديد المعارضين في السابق. وهو يريد فتح صفحة جديدة للبلاد بعيدا عن المزايدات بالرغم من ماضيه كمقاتل في صلب حركة «أم 19».

سنوات الجمر
وكانت كولومبيا قد عانت منذ 60 سنة من الحرب الأهلية في مناطق غابات الأمازون والتي شاركت فيها حركات مسلحة تنتمي إلى اليسار الثوري مثل «القوات المسلحة الثورية الكولومبية» («فارك»)، وهي أهم حركة مقاتلة، والحركة الغفارية وغيرها من الفرق المسلحة. وبعد سنوات عدة من الاقتتال تمكنت الحكومة عام 2016 من التوصل إلى اتفاق سلام مع حركة «فارك» تم بموجبه القاء سلاح المقاتلين وادماجهم في النسيج الاقتصادي والاجتماعي. ولم يبق متمردا إلا «جبهة التحرير الوطني» الغفارية.
ووعد الرئيس المنتخب بالعمل على اقناع الحركة الغفارية بالتخلي عن العمل المسلح والدخول في اللعبة الديمقراطية والتنموية للبلاد. ويعتبر غوستافو بيترو أن عزوف الناخبين على الأحزاب التقليدية سوف يخدم توجهه لإرساء صلح شامل يخدم ارساء السلم الاجتماعية وطي صفحة الماضي الأليم. وسوف يكون لنائبة الرئيس دورا حاسما لما لها من خبرة في المجال الاجتماعي ومعرفة بقضايا المستضعفين الشائكة.

تحول تاريخي في المجتمع الكولومبي
نجاح غوستافو بيترو في كسب السباق الرئاسي مرده التوجه الواضح لمخاطبة الشباب والطبقات الضعيفة المتواجدة في المناطق الأمازونية وفي المدن الصغيرة والأرياف والتي صوتت لفائدته بنسبة 80%. وساعد ارتفاع نسبة المشاركة إلى 58% حشد الناخبين من أجل إنجاح مشروع المصالحة والتنمية والبحث عن السلم الاجتماعية كطريقة لفرض وجود المعارضة وقبول تنظيمات اليمين الديمقراطية بالتداول على السلطة.
وساعد بيترو في النجاح بلورة شعار واضح يهدف إلى «السلم والعدالة الاجتماعية والعدالة البيئية». وهي ركائز «تحالف العهد التاريخي» الذي يضم مجموعة من الأحزاب والتنظيمات السياسية والجمعيات الأهلية والشخصيات الوطنية التي التحقت به من أجل إنجاح مشروعه في دعم نظام ديمقراطي سلمي يرسي «العفو الاجتماعي» من أجل تنمية البلاد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتشارك فيهاكل فئات المجتمع بما فيها الفئات الليبرالية التي حكمت البلاد من قبل.

تحديات جسام أمام الرئاسة
يرث غوستافو بيترو مجتمعا متأزما يعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية مضطربة في أعقاب جائحة كورونا. ويجد نفسه أمام تحديات جسام تتمثل أساسا في مقاومة الفقر واللامساواة التي تضاعفت مع مخلفات كوفيد 19. وهو ملف شائك ومعقد خاصة أن الرئيس الجديد ليس له اغلبية في الكونغرس تساعده على سن قوانين جديدة لتحقيق مشروعه الانتخابي. ويبقى الملف الأمني قائما طالما تواصل الحركات المسلحة، وهي أقلية، في المعارضة للحكم المركزي.
أما باقي الإصلاحات الهيكلية المتعلقة بإرساء نظم عمومية للصحة والتعليم والنقل فهي بمثابة بناء أهرامات جديدة في بلد لم يعرف معنى المرفق العمومي. بل تعود على خوصصةالمؤسسات وخضوع المواطنين لنظام السوق الحرة ودعم الاستثمار الخاص. وهو أهم تحد سوف يجده غوستافو بيترو أمامه لما للأحزاب التقليدية من نفوذ وتماسك في المصالح فيما بينها.

صحوة اليسار اللاتيني
نجاح غوستافو بيترو يندرج في إطار صحوة الفكر اليساري في أمريكا اللاتينية التي نجحت في السنوات 2000 مع هوغو شافيز (فينزويلا) و لولادا سيلفا (البرازيل) في الحد من قدرة الولايات المتحدة على المناورة ودعم القوات المسلحة اللاتينية في تحركاتها في مختلف البلدان التي تعتبرها واشنطن تابعة لمنطقة نفوذها. لكن حركة استفاقة اليسار فشلت عام 2013 وشهدت الفترة الموالية رجوع الأحزاب اليمينية بقوة في جل بلدان القارة.
ومع نجاح الرئيس مانويل لوبازأوبرادور في المكسيك عام 2018، أخذت الحركات اليسارية في القارة تبلور برامج مستحدثة أكثر واقعية، بعيدة عن متاهات الإيدلوجيا، تجسمت في صعود شخصيات سياسية من الشباب في شيلي وبيرو وبوليفيا وغيرها من البلدان. وتتسم الفترة الحالية بصعود نجم الشخصيات «التقدمية» التي تخلت عن العقيدة الأرثوذكسية لليسار التاريخي وصنعت سياسات تتماشى وواقع المجتمعات الحالية في أكريكا اللاتينية. اليوم وقد انضمت كولومبيا للتمشي التقدمي تتجه الأنظار إل البرازيل الذي ينظم انتخابات رئاسية في شهر أكتوبر المقبل والذي يشارك فيها الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا الذي هو عازم على الإطاحة بحكم الرئيس الشعبوي جاير بولسونارو.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115