شرائح مختلفة من الشعب الفرنسي في مختلف جهات البلاد. الجاني الذي تمت إحالته أمام القضاء يوم الخميس 10 جوان ينتمي إلى مجموعة تدافع على النظام الملكي وقد أطلق صيحة «مونجوا سان دوني»، عند قيامه بالاعتداء على رئيس الدولة، تسترجع أمجاد المقاتلين في القرون الوسطى و تعتبر توقيع المناضلين الجدد ضد النظام الجمهوري. وتم إلقاء القبض على مرافق المعتدي الذي ثبت بعد تفتيش منزله أن يمتلك أسلحة قتالية غير مرخص فيها كما عثرت الشرطة في بيته على كتاب «ماين كانف» لأدولف هيتلر.
هذا الاعتداء المفاجئ على شخص رئيس الدولة اعتبره ماكرون «عملا معزولا» في حين ندد به رئيس الحكومة جون كستاكس أمام البرلمان مناديا بـ«استفاقة الجمهورية» لما لهذا العمل من رمزية تهدد كيان النظام الديمقراطي الذي شهد في الآونة الأخيرة هزات متعددة سجلت فيها مظاهرات عنيفة وعمليات تخريب و سلسلة من المظاهرات خلال 18 شهرا من قبل «السترات الصفراء» التي أسست لدى معظم الملاحظين فكرة أن المجتمع الفرنسي يعاني من امراض أصبحت مزمنة.
تاريخ من أعمال العنف ضد رموز الدولة
ما حصل للرئيس ماكرون يندرج تاريخيا ضمن سلسلة من الاعتداءات ضد رموز الدولة الفرنسية منذ تأسيس الجمهورية عام 1848. فقد سجل التاريخ مقتل رئيسين الأول سادي كارنو عام 1894 والثاني بول دومر عام 1932. وقتل بعد ذلك الزعيم اليساري جون جوريس. أما في فترة الجمهورية الخامسة فسجلت اعتداءات متكررة ضد رؤساء الدولة والحكومة بدءا بالجنرال دي غول الذي نجا من الاغتيال عام 1962 على يد عصابة «الأو أ. أس». أما جاك شيراك فقد حاول شخص قتله رميا برصاص بندقيته يوم 14 جويلية من سنة 2002 في «جادة الشانإيليزي». اعتداءات أخرى طالت وجوه من اليمين واليسار مثل نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند ورئيسي الحكومة ليونال جوسبان وفرنسوا هولاند. وكانت جميعها لم ترتق إلى نية القتل، بل اكتفت بالعنف الجسدي. وكأن المجتمع الفرنسي اعتاد من حين لآخر التعبير عن غضبه بهذه الصفة غير الحضارية التي تهز رمزيا النظام الديمقراطي الذي يعتمد أساسا التعبير الحر عن الرأي والمنافسة السلمية على السلطة.
تزايد العنف ضد نواب الشعب
وشاعت في الأشهر الماضية «موضة» الاعتداء على النواب من رؤساء البلديات ونواب في البرلمان ومستشارين في مختلف الهيئات الانتخابية. وأصدرت جمعية عمد فرنسا التي تمثل 35000 عمدة تقريرا لسنة 2020 يشير إلى ان الاعتداءاتضد منسوبيها طالت 1276 نائبا أي ثلاثة أضعاف العدد المسجل عام 2019. ونشر مرصد الاعتداءات على النواب تقريرا أشار فيه إلى تسجيل 233 اعتداء في السداسية الأولى من 2020. حسب احصائيات وزارة الداخلية سجلت العام الماضي اعتداءات ضد 500 عمدة واعتداءات جسدية ضد 60 نائبا برلمانيا وهجومات عنيفة ضد منازل 68 نائبا. كما سجلت الشرطة حرق 63 سيارة شخصية للنواب. وهي حالات تظهر تدني الثقة بين النواب وبعض المواطنين الذين دخلوا في عمليات عصيان لا مثيل لها من قبل.
أعوان الأمن يطالبون بالحماية
وطالت أعمال العنف رجال الأمن والشرطة الذين يواجهون المجموعات العنيفة التي تشق المظاهرات المرخص فيها. وسجلت الداخلية كذلك هجمات من مجموعات مهربي المخدرات والعصابات الإجرامية الأخرى المحاصرة من قبل الشرطة ذهبت في عديد الحالات إلى الاعتداء على مقرات الشرطة بقذائف الشماريخ في الأحياء الشعبية للمدن الكبرى.وجاء في تقرير لوزارة الداخلية نشر في فيفري 2021 أن عدد الاعتداءات على أعوان الشرطة وصلت إلى 85 يوميا وأن مجمل أعمال العنف تضاعفت في عشرين سنة من 13392 عام 2000 إلى 31257. هذا الوضع أدى إلى تحركات من قبل نقابات الشرطة مطالبة بسن قانون لحماية أعوان الدولة حاملي السلاح منالاعتداءات اللفظية والجسدية ضدهم. وقامت مختلف النقابات الأسبوع الماضي بمظاهرة ضخمة أمام مقر البرلمان شارك فيها وزير الداخلية وعدد من ممثلي الأحزاب.
مجتمع يفقد أعصابه
تصدر أعمال العنف للمشهد الاجتماعي أصبح من الأحداث «العادية» التي تفتح بها القنوات التلفزيونية صفحاتها الإعلامية. وبالرغم من الإجراءات القضائية والأمنية المتخذة فإن العنف ضد الأشخاص وضد المسؤولين في تزايد مستمر. آخر التقارير اشارت إلى مقتل 51 امرأة من قبل أزواجهن خلال السداسي الأول لهذا العام. عنف متعدد الأساليب في المنازل وفي مواطن الشغل وفي المؤسسات العمومية والخاصةأصبح يشق المجتمع الفرنسي الذي دخل منذ اندلاع أزمة «السترات الصفراء» في مشهد يشبه الحرب الأهلية الباردة ولو أن بعض الحالات كانت دامية وخلفت قتلى في صفوف المواطنين والمسؤولين. المناخ الناتج عن المشاكل الاجتماعية خلف احتقانا في صفوف فئات تعتبر نفسها مضطهدة مثل المهاجرين من العرب والمسلمينوالأفارقة الذين يسكنون الضواحي والذين هم عرضة للتفتيش والمضايقة من قبل الشرطة التي تؤطرها نقابات لها علاقات إيديولوجية وسياسية مع أحزاب اليمين المتطرف.
ومع انطلاق الخطوات الأولى في الحملة الانتخابية لرئاسية 2022 دخلت الطبقة السياسية في شيء من الغليان ضد سياسات إيمانويل ماكرون الذي لم يساعد على تهدئة الخواطر. بل أن المناخ العام، بعد تصريحات جون لوك ميلونشون الأخيرة الذي اتهم ضمنيا السلطات باستخدام الهجمات الإرهابية والاغتيالات لأغراض سياسية، لن يساعد على تهدئة الوضع. بل أن تشنج الخطاب السياسيوبعض وجوه المعارضة أصبح جزء من المشكلة وليس من الحل لمعضلة استعمال العنف في المجتمع التي يمكن أن تهز أركان النظام الديمقراطي.