جملة من الإجراءات الجديدة، بطلب من رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، قصد إيقاف موجة العنف والتدمير والحرق التي لا تزال تلازم تحركات المحتجين كل يوم سبت في العاصمة باريس لمدة ثمانية عشر أسبوع على التوالي. وتزامنت أعمال التخريب هذه مع انتهاء «الحوار الوطني الكبير» الذي قرره الرئيس الفرنسي والذي انتظم في أكثر من 3000 موقع وشارك فيه أكثر من 300 ألف مواطن بهدف الحوار والتشاور في الحلول اللازم اتخاذها لحل الأزمة القائمة في البلاد.
و أعلن الوزير الأول إدوارد فيليب، الذي أخذ بزمام الأمور الأمنية، عن حزمة من الإجراءات تخص مدينة باريس وعدد من المدن الفرنسية الأخرى، خاصة تلك التي شهدت أعمال عنف وتخريب في الأسابيع الماضية من قبل المحتجين تحت لواء «السترات الصفراء». وتقرر العودة إلى استخدام الخراطيش المطاطية واستعمال طائرات بدون طيار للمراقبة وتشغيل الكاميرات في الشوارع في إطار الإجراءات القضائية من أجل محاكمة المعتدين على الأملاك العمومية والخاصة. وأعطيت أجهزة الأمن صلاحية استخدام مواد سائلة لتلطيخ المخربين وتثبيت اللون على ثيابهم و أجسامهم و ذلك من أجل تسهيل عمليات التعقب والإيقاف.
وإن كان وزير الداخلية كريستوف كستنار ملازما للوزير الأول عند الإعلان على الإجراءات فإن الملاحظين في باريس يعتقدون أنه يعيش أيامه الأخيرة على رأس الوزارة. و قد اضطر الوزير الأول إلى إقالة ميشال دلبواش رئيس شرطة باريس ككبش فداء للإخلال الإداري و الأمني الذي لاحظه المراقبون ونقابات الشرطة والصحفيون خلال المظاهرات وتعويضه برئيس إقليم بوردو ديدي لألمان.
منع التظاهر في عدد من المدن
قرار منع التظاهر في جادة الشان إيليزي، أشهر شوارع باريس والقبلة السياحية الأولى، و التي شهدت أعمال عنف متتالية و تهشيم للمحلات ونهب وحرق مدة 18 أسبوع ، قوبل باستحسان أصحاب المحلات والتجار والصناعيين الذين سجلوا خسائر جسيمة منذ شهر نوفمبر قدرت بأكثر من 170 مليون يورو حسب تصريحات الغرفة التجارية المحلية. ولوحظت
يوم السبت الماضي مهاجمة وحرق بعض المحلات الرمزية المعروفة عالميا مثل مطعم «لو فوكاتس» الشهير وإضرام النار في محل بنكي ونهب بعض المحلات التجارية الفاخرة قبلة السياح من الصين والولايات المتحدة والخليج العربي.
شمل منع المظاهرات أيضا مواقع في وسط المدن الفرنسية الهامة مثل بوردو وتولوز التي جال فيها «المخربون» على راحتهم بدون أن تتمكن أجهزة الأمن من صدهم. وذكر الوزير الأول أن منع التظاهر سوف ينطبق على المساحات والشوارع «التي يمكن أن يتواجد فيها «المخربون» خلال المظاهرات القادمة». من ناحية هذا يعني أن الحكومة لن تمنع كل المظاهرات بل تركز على تلك التي يمكن أن تضفي إلى عمليات نهب و تخريب. وهو إشكال في حد ذاته لأن الشرطة سوف تضطر لتطبيق هذا القرار لا بعد وقوع التخريب كما ينص عليه القانون بل بصفة وقائية أي قبل بداية المظاهرات و ذلك اعتبارا للمعلومات الواردة لها من أجهزة الاستخبارات. إجراء انتقدته المعارضة معتبرة أن ذلك يعتبر منعا لحق التظاهر الذي يضمنه الدستور.
إعادة هيكلة أجهزة التدخل
القرارات المتخذة جاءت تحت إملاء قصر الإيليزي الذي لا يرغب في تواصل أعمال الشغب خاصة أنه سوف ينكب على بلورة جملة من الاقتراحات للرأي العام بعد نهاية الحوار الوطني. و ركزت التعليمات على إعادة صياغة العقيدة الأمنية السابقة التي تعتمد على التدخل «بدون جرحى و قتلى» و التي وجدت صعوبة في التطبيق إلى حد الآن. من ذلك أن قررت
الحكومة إعادة تشكيل عمليات التدخل و استدعاء فرق تدخل خفيفة قادرة على محاصرة المتظاهرين و إلقاء القبض على الجناة. و سوف تعتمد قوات التدخل انطلاقا من السبت القادم سياسة «التصادم» مع المحتجين أي أن الحكومة أطلقت العنان للشرطة حتى تخفق كل التحركات العنيفة المرتقبة و إن كلف ذلك بعض «الخسائر».
لتحقيق ذلك ، اعتمدت الحكومة على التوصيات النابعة من نقابات الشرطة وخبراء الأمن الذين صرحوا في وسائل الإعلام منذ أسابيع أنهم غير مقتنعين بالنهج السلبي الذي قرره رئيس إقليم باريس و اعتبروا أن ذلك النهج مسدود و لا يمكن أن يحل مشكلة العنف في المظاهرات. لاحظ المختصون في الشأن الأمني أن غرفة العمليات التي تقرر تحركات الشرطة كانت معزولة من مواقع التظاهر إذ هي موجودة في موقع بعيد يراقب المظاهرات عبر شاشات و ليس لها القدرة على تقييم تحركات المجموعات العنيفة. من جراء ذلك تقرر استدعاء ديدي لالمان، وهو الرجل الذي يحظى باحترام الأمنيين على عكس سابقه، والذي نجح في كسر أجنحة المجموعات المخربة في مدينة بوردو.
إجراءات يمكن أن تنجح في حماية المظاهرات من جهة و صد المخربين من جهة أخرى. لكن صحيفة «لوبس» نشرت مؤخرا تقريرا أظهر أن زعماء من «السترات الصفراء» تحدثوا لناشطين في حركة «بلاك بلوك» المتطرفة و العنيفة التي قامت بأعمال التخريب صحبة عدد من مقاومي الفاشية اليساريين. وظهر من خلال التقرير أن هناك تنسيقا ما بين الطرفين. و لاحظت أجهزة الأمن ذلك على عين المكان. هذا الوضع يخيف الساسة في أعلى الهرم. لأن حل الأزمة أمنيا لا يكفي أمام تواصل الاحتجاجات الاجتماعية و تنامي المطالب السياسية. ذلك قد يجبر الرئيس ماكرون على تغيير موقفه من بلورة حلول للأزمة وهو الرجل الذي لا يريد التحرك تحت الضغوطات.