الأمر الذي ترتب عنه تراكمات انقسام واضح بين الزعامات الليبية الحالية والتي هي في الواقع مجرد أدوات في أيد عابثة لا تقيم لمصلحة الشعب الليبي العليا أي ميزان أو اعتبار، للأسف ساهم بعض الليبيين أنفسهم في مأساوية المشهد الليبي عندما تخلوا عن القيم والأخلاق فانسلخوا عن بني جلدتهم من عامة الليبيين دافعهم الطمع الرخيص بعد أن تم إغراؤهم بالمال الفاسد والذي هو أساسا من مال الشعب المغلوب على أمره.
ومنذ ذلك التاريخ فقدت ليبيا سيادتها وأضحت تحت وصاية الأمم المتحدة وتحكّمت فيها دول متنفّذة بعينها، حيث تم استعمال بعض الزعامات الليبية والسيطرة عليها بعد أن تقاسمتها الدول المتدخلة في الشأن الليبي الأمر الذي نتج عنه انقسامات حادة بين تلك الزعامات أدت الى وقوع عديد الحروب طيلة عقد من الزمان راح ضحيتها الكثير من الشباب الليبي ناهيك عن حجم الدمار والخراب في الممتلكات العامة والخاصة والبنية السياسية للبلد، وكان أول انقسام معلن بين الأطراف الليبية وقع عام 2014 الذي ولّد حربا شرسة في طرابلس وما حولها فيما سمي بفجر ليبيا، ومنذ ذلك التاريخ وليبيا تعيش حالة انقسام حاد وصراع مرير أدى إلى عديد الحروب الأهلية فيما بعد لعل آخرها الحرب على طرابلس من قبل القوات التي يتزعمها حفتر.
لقد حاولت الأمم المتحدة منذ 2011 أن تكون حاضرة في المشهد الليبي بقوة وخاصة بعد 2014 م لكنها وللأسف فشلت حتى الآن في إيجاد حل للصراع المحتدم بين الأطراف، فبرغم ما قامت به عبر مبعوثيها لدى ليبيا من محاولات وساطة وتقارب بين الأطراف ابتداء من اتفاق الصخيرات مرورا باتفاقات القاهرة وروما وباريس ثم برلين وانتهاء باتفاق جنيف الذي نتج عنه تشكيل ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية والتي لا تزال قائمة حتى الآن ومتشبثة بالبقاء في السلطة رغم تكليف مجلس النواب حكومة جديدة.
لقد تأملنا خيرا في حكومة «الدبيبة» خاصّة وأنها سميت بحكومة الوحدة الوطنية لكن للأسف منذ الشهر الأول تبيّن أنها غير ذلك وأنه عاجز عن تحقيق الحد الأدنى من الوحدة الوطنية بل أنه وصل به الأمر حدا صارت حكومته حكومة للإنقسام وعدم الإستقرار خاصة بعد نكثه للعهد والميثاق الذي أخذه على نفسه أمام الليبيين والعالم بعدم الترشح للإنتخابات عندما أصر على ترشيح نفسه في سابقة غير أخلاقية، وما نتج عن ذلك من حالة استقطاب في الشارع الليبي مما زاد من حدة الانقسام ووضع البلد من جديد على حافة وقوع حرب جديدة مدمرة.
لقد كانت نقطة الضعف في كل الحكومات التي تشكّلت في السابق تكمن في عدم امتلاكها الفعلي لقدر من القوة المسلحة تكفل لها فرض هيبتها وسلطتها على كامل التراب الليبي، فمثلا حكومة السراج كان لا يمكنه التواجد بعد مصراتة شرقا وللأسف الدبيبة كان بالمثل، ناهيك عن فقدان هاتين الحكومتين لسلطة الأمر على المجموعات المسلحة في العاصمة والمنطقة الغربية إجمالا، وكان واضحا لكل ذي بصيرة أن مثل هذه الحكومات لا يمكنها بأي حال تحقيق الهدف من إنشائها فقد ولدت ميتة منذ البدء.
إنّ باشاغا بالرغم من كونه ابرز قادة ما سمي ببركان الغضب ضدّ قوات حفتر في حربها على طرابلس وهو من استطاع أن يقنع تركيا بتوقيع معاهدة عسكرية تمكنت بفضلها قوات الغرب الليبي من قلب الموازين وصد ودحر قوات حفتر التي تراجعت إلى سرت، برغم ذلك يبدو أنه أخيرا أدرك أنّ لا قيام لدولة ليبيا من طرف واحد ولهذا أخذ زمام المبادرة فذهب إلى بنغازي والتقى بالفرقاء الأخوة هناك، وعقد معهم توافقا وطنيا هو الأول من نوعه منذ 2014م، ونظرا لما يتمتع به باشاغا من ثقل عسكري واجتماعي في مصراتة باعتبارها تمثل القوة العسكرية الأكبر في المنطقة الغربية كان طبيعيا أن يكون توافقه مع الشرق مبعث أمل جديد لكل ليبي يتطلع إلى وحدة ليبيا وإنهاء الإنقسام وعودة الاستقرار وامكانية الشروع في قيام الدولة الموحدة ومؤسساتها.
وبعد أن تأكد فشل انتخابات ديسمبر 2021 ونشوء فجوة كبيرة بين الدبيبة ومجلس النواب كانت الفرصة مواتية لحجب الثقة عن حكومته والبحث عن بديل آخر والذي كان طبعا السيد باشاغا، وفعلا تم تكليف باشاغا بحكومة جديدة اعتمدها وأقرها مجلس النواب، غير أن حكومة باشاغا اصطدمت بموقف متعنت من حكومة الدبيبة التي رفضت التسليم وتمسكت بالبقاء في العاصمة، الأمر الذي حال دون مباشرة حكومة باشاغا لمهامها من العاصمة طرابلس ما دعاها لإتخاذ سرت مقرا مؤقتا لها، خاصة بعد محاولة باشاغا الفاشلة الدخول للعاصمة في 17 ماي والتي أدت إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين ما دفع باشاغا للعدول عن رأيه والخروج من العاصمة متوجها إلى سرت.
والآن يبدو الوضع ضبابيا أمام رغبة الأطراف المؤيدة لباشاغا في الدخول للعاصمة وتعنت الطرف المقابل وتمسكه وهو ما يشير إلى تعقد الوضع الليبي وزيادة تأزمه في ظل اختلاف حاد بين الأطراف، ونستطيع القول الآن أن الأمم المتحدة قد فشلت فشلا ذريعا في إدارة الملف الليبي رغم عديد المحاولات، غير أنّ الثابت هو أنّ حكومة باشاغا يمكن اعتبارها الفرصة الأخيرة المتاحة أمام الليبيين للحفاظ على وحدة ليبيا واستقرارها كونها جاءت بتوافق بين الشرق والغرب ولأول مرة منذ 2014م، فهل يستثمر الليبيون هذه الفرصة؟! أم أن تضييعها سيفقد الليبيين ما تبقى من أمل وتدخل البلد في مرحلة أخرى من الصراعات العنيفة اقلها الإنقسام.