بوباء «كورونا» وفي ظل متغيرات سياسية وأمنية حادة في المنطقة العربية والغربية على حد سواء، وتزامنا مع حرب بلاد الرافدين والتحالف الدولي ضد عودة نشاط التنظيم الإرهابي «داعش» بعد إعلان الإنتصار عليه قبل 3 سنوات.
لم تخل هذه الزيارة -وهي الأولى لبابا الفاتيكان إلى العراق منذ إنتخابه عام 2012 على رأس الكنيسة الكاثوليكية- من المخاطر والتهديدات التي استوجبت استنفارا أمنيا عراقيا غير مسبوق حيث نشرت السلطات العراقية الآلاف من أفراد قوات الأمن لحماية البابا فرنسيس خلال الزيارة التي تأتي بعد موجة من الهجمات بالصواريخ والقنابل والتي أثارت المخاوف على سلامته لكنها لم تكن سببا في إلغاء الزيارة حيث أكد «البابا» في تصريح له عن «رغبته في زيارة العراق رغم كل الظروف غير الملائمة». ووصل البابا أمس رفقة وفد وطاقم أمني ونحو 75 صحفيا من مطار ليوناردو دافنشي في روما إلى العاصمة العراقية بغداد.
ومن المقرر أن يزور البابا أربعة مدن منها الموصل التي كانت معقلا لتنظيم «داعش» الإرهابي قبل أن تعلن السلطات الإنتصار عليه، والتي مازالت كنائسها ومبانيها تحمل آثار الصراع.وسيزور البابا كذلك مدينة أور مسقط رأس النبي إبراهيم، وسيجتمع مع المرجع الديني علي السيستاني.وتعد هذه هي الرحلة الرحلة رقم 33 للبابا إلى خارج إيطاليا، ومن المقرر أن يعود إلى روما صباح يوم الاثنين، حسب ما ذكرت «رويترز».
ولعل المخاوف الأمنية التي ترافق هذه الزيارة التاريخية مخاوف في علاقة بتزايد وتيرة الهجمات التي استهدفت في الآونة الأخيرة مقرات بعثات أجنبية وما تلا ذلك من قلق دولي. إذ تأتي الزيارة غير المسبوقة في وقت يشهد فيه العراق ارتفاعاً كبيراً في أعداد الإصابات بفيروس كورونا فيما تفرض السلطات إغلاقاً تاماً يتزامن مع الزيارة. كما تشهد البلاد توترات أمنية. ووفق تقارير رسمية فقد تراجع عدد المسيحيين في العراق من 1,5 مليونا سنة 2003 إلى 400 ألف سنة 2020. وتعرض المسيحيون في العراق كغيرهم من الطوائف الأخرى إلى هجمات استمرت على امتداد سنوات على يد التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم «داعش» الإرهابي. وهناك 14 طائفة مسيحية معترف بها رسميا في العراق. وتعيش الغالبية منها في بغداد، ومحافظة نينوى بالشمال وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي.
وقال البابا في رسالة مصورة موجهة إلى الشعب العراقي وزعها الفاتيكان عشية الزيارة التي تستمر ثلاثة أيام «أخيرا سوف أكون بينكم أتوق لمقابلتكم ورؤية وجوهكم وزيارة أرضكم، مهد الحضارة العريق والمذهل».
ومن أبرز المحطات في زيارة البابا للنجف الأشرف حيث سيلتقي مع المرجع الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني.وستغيب بسبب التدابير الوقائية من وباء كوفيد-19، الحشود التي اعتادت ملاقاة البابا في كل زياراته، باستثناء خلال القداس الذي سيحييه الأحد في الهواء الطلق في أربيل في كردستان بحضور نحو أربعة آلاف شخص حجزوا أماكنهم مسبقا للمشاركة فيه، علما أن المكان يتسع لعشرين ألفا.
أبعاد خفية للزيارة
في نفس السياق قال الكاتب العراقي ثائر عبطان حسن لـ«المغرب» أنّ أبعاد زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق لها أهداف متعددة ، منها الأيدلوجية ومنها السياسية ومنها الدينية وسترافق ذلك تداعيات توازي هذه الأهداف من حيث الغرض والأهمية .
وبخصوص توقيت الزيارة وما ستحمله من أبعاد وتداعيات ، أجاب محدثنا أن «التوقيت يحمل أكثر من رسالة وجميع الرسائل لا تخلو من الأغراض السياسية بحسب توقيتها ، أولها وجود بوادر تشير إلى وجود نيّة مسبقة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل في إحداث تغييرات جذرية في المناخ السياسي الشرق أوسطي والشمال الأفريقي بعد مجيء إدارة بايدن لإدارة البيت الأبيض». وتابع « وهذا واضح من خلال العدد الكبير وغير المسبوق في عدد القرارات الجيوسياسية الخطيرة التي اتخذها بايدن في فترة اقل من مائة يوم على تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة ، نذكر منها فقط ما يخص المنطقة وأوّلها بما يتعلق بالملف النووي الإيراني ، والثاني يتعلق بإنهاء حرب اليمن وتداعيات ذلك مثل إلغاء قرار إدارة ترامب السابقة باعتبار الحركة الحوثية منظمة إرهابية ، ورفع السرية عن تقرير الـ«سي آي آي» حول مقتل خاشقجي وتحميل ولي العهد محمد بن سلمان المسؤولية عن ذلك ، وأخيرا إنهاء الحرب الليبية» وفق تعبيره .
وأكد الكاتب العراقي في حديثه لـ«المغرب» أنّ كل هذه الدلالات تشير إلى وجود مؤشرات على نية الغرب في إنهاء مرحلة سياسية واقتصادية وأمنية سابقة ، ووضع أخرى بديلة تتماشى مع المصالح الغربية الجديدة في ظل وضع سياسي واقتصادي عالمي مضطرب جدا بين الصين وروسيا من جهة ، والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى ، والعراق ، في خضم هذا الصراع يعتبر قبلة الشرق الصيني والغرب الأمريكي من حيث ثرواته وموقعه الجيوسياسي ، ومن هنا يأتي الاهتمام به ، وزيارة بابا الفاتيكان ليست سوى واجهة لهذا الاهتمام ، ناهيك عن البعد الديني والأيديولوجي الذي يتخفى خلف هذه الزيارة .
إرث العراق المضيء
وتابع محدثنا أنّ «برنامج الزيارة الذي يتضمن لقاء بابا الفاتيكان بالزعيم الشيعي السيد علي السيستاني من أهم الرسائل التي تحمله هذه الزيارة باعتبار النجف فاتيكان الشيعة لا مدينة قم في إيران، ولذلك دلالات كبيرة في فك الترابط الذي تحاول إيران إبرازه بكون العراق تابع لها دينيا وسياسيا».
وأكد محدثنا أن «النقطة الإيجابية والمضيئة في هذه الزيارة أنها ستسلط الضوء على إرث وتراث العراق المعرفي والإنساني في كونه مجتمع متعدد الإثنيات والأعراق والأديان ، وفيه المعابد اليهودية ، والكنائس المسيحية بتعدد ألوانها، والمقامات الإيزيدية والصابئية ، وغيرها والتي تعايشت منذ آلاف السنين في هذه التربة التي تمّ سَنّ أقدم قوانين عدلها على يد مواطن منها إسمه «حمورابي»، لا زال اسمه مخلدا في أقصى الشرق والغرب منذ أكثر من ألفي سنة».