العالم في زمن الكورونا: 2020 عام المتغيرات الاستراتيجية هزيمة دونالد ترامب، صمود الصين وتقلبات في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا

عام 2020 كان دون منازع سنة جائحة كورونا التي هزّت العالم وانتشرت في كل القارات ولو بتفاوت ملحوظ. وظهرت الإنسانية لأول مرة في تاريخها متماسكة تعاني من نفس الوباء

وتقرر الانعزال شبه الكلي وأخذ نفس التدابير والإجراءات ضد الجائحة. وأثرت الجائحة على اقتصاديات العالم وعلى النظم الصحية في كل البلدان مخلفة تفاقما ملموسا لنسب الفقر والبطالة في كل البلدان مقابل رجوع قوي لأجهزة الدولة الراعية وللبنوك التي مولت الديون الحكومية من أجل فرض إجراءات الوقاية وحماية الضعفاء.
مع نهاية عام 2020 أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا أصاب أكثر من 80 مليون شخص في العالم و أن أوروبا تأتي في مقدمة البلدان المتضررة بأكثر من 25 مليون حالة، تليها الولايات المتحدة الأمريكية (20 مليون إصابة) في حين لم يتعد عدد الإصابات في الصين 87 ألف حالة على مليار ونصف من السكان. وأظهر هذا الوضع ضعف الإنسان أمام الطبيعة وعدم قدرة الدول على مواجهة الجائحة. بل أن جل الدول دخلت في أزمة صحية واقتصادية سوف تكون لها عواقب وخيمة عام 2021.

ومن الدروس التي خلفتها الجائحة أن خلاص البشرية، مرة أخرى، يرجع إلى التقدم العلمي، وليس إلى أي معتقد أو إيديولوجيا سياسية، والذي مكن في أقل من سنة من إيجاد لقاحات عديدة هي في طريقها للاستعمال لإنقاذ الإنسانية من أبشع جائحة تواجهها بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن وقفت كل الدول على عدم قدرة صناعة الأدوية على توفير دواء لعلاج المصابين بكوفيد 19. المعطى الثاني هو استفحال التفاوت بين الدول المصنعة والدول النامية والفقيرة التي لم تستثمر في الذكاء والبحث العلمي بل سوف تبقى مستهلكة لنتائجه وعرضة للتفقير والتهميش. المعطى الثالث هو أن كافة الشعوب لن تتخلص من فيروس كورونا الذي، حسب كل الأخصائيين، لن ينقطع بل سوف يدخل في ضمن الفيروسات العادية التي تصاحب البشر في كل القارات. الحاصل الوحيد هو أن الحل يكمن في تلقيح أكبر عدد ممكن من سكان الكرة الأرضية لتمكين البشر من الحماية ضد العدوى. وإذا لم يحصل ذلك فسوف تتواصل العدوى مع إمكانية تطور الفيروس جينيا وعدم القدرة على مجابهته. ولا بد من اليقين بأن الأشهر وربما السنوات القادمة سوف تفرض اتباع إجراءات الوقاية والتباعد الجسدي لتصبح جزءا من الحياة العادية للناس.

صعود الصين في زمن الجائحة
بالرغم من ظهور فيروس كورونا في الصين قبل انتشاره في العالم، تمكنت بيكين من التحكم بصفة مذهلة في الجائحة. حسب منظمة الصحة العالمية إذ لم يتعد عدد المصابين 87 ألف شخص مقارنة بالكارثة الأمريكية (25 مليون مصاب). واستعاد الاقتصاد الصيني عافيته وتطوره المتزايد، بالرغم من «العقوبات» الأمريكية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب عليه، ليصبح الاقتصاد الوحيد الذي ينمو بعيدا عن تداعيات الكورونا. منذ بداية الجائحة أظهرت الصين قدرتها على مواجهتها داخليا وكانت أول دولة تقدم إعانة صحية لإيطاليا والبلدان النامية والفقيرة في أول أيام انتشار الفيروس قبل أن تتحول سريعا إلى البلد الأول المصدر للكمامات لأوروبا والعالم. الأسلوب الصيني الذي اعتمد على التحكم الكلي في تحركات كل الفئات الشعبية واتخاذ قرارات صارمة وقسرية لتعميم التحاليل السريعة وعزل المصابين وفرض رقابة إلكترونية على الشعب أطاح بكوفيد 19 داخليا وأظهر نجاحا فائقا في المجتمعات التي اتبعته في آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان والتي هي دول ديمقراطية خلافا للصين الشعبية. أما البلدان التي أدارت الجائحة بطرق «ديمقراطية» أي باعتماد مرونة في الإجراءات وعدم المس بالحريات الأساسية فلم تفلح في القضاء عليها. وهو درس فتح نقاشا في الدول الديمقراطية المصنعة تحول إلى جدل بين المدافعين عن الديمقراطية بالرغم من الخسائر البشرية والقابلين بالحد من الحريات لضمان الصحة والحياة البشرية للجميع. في تلك الفترة كرست الصين تقدما على الولايات المتحدة بتوقيعها صحبة 15 دولة آسيوية إضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا على اتفاق تبادل حر يشكل ثلث المبادلات العالمية مما حد فعليا من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة جنوب شرق آسيا التي أصبحت فيها بيكين المركز الاستراتيجي الأول قبل تعزيز نفوذها الاقتصادي و الإستراتيجي في الدول المشاركة في مشروع طريق الحرير الجديدة.

هزيمة ترامب أم فوز بايدن؟
عام 2020 كان عام الخلاص بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي تمكنت من الإطاحة بدونالد ترامب في انتخابات 3 نوفمبر الماضي. وكان الرئيس الأمريكي قد رفض التعاطي بجدية مع جائحة كورونا واستهتر بصحة ملايين من الأمريكان مكرسا نزعة اللامبالاة والتسلط الفردي التي أظهرها في سوء إدارة الجائحة وعدم التزامه بالنصائح الطبية. وكان ذلك نتيجة استراتيجيته الانعزالية منذ توليه السلطة وتقوقعه حول نفسه دون أي اعتبار للضحايا. عام 2002 يختم مرحلة أمريكية من الانعزال وانتشار الفكر القومي الذي أنتج في الأربع سنوات الماضية خروج الدولة العظمى الأولى من منظمة الصحة العالمية ومن اتفاق باريس حول المناخ واتفاقية الملف النووي الإيراني. نجاح جو بايدن وكامالا هاريس، الذي لم يعترف به دونالد ترامب، سوف يتطلب إعادة ترميم البيت الأمريكي الداخلي المنقسم والعلاقات الدولية التي هزتها سياسات دونالد ترامب. أربع سنوات مقبلة لا ندري هل ستكون كافية لإعادة العلاقات التاريخية مع الحلفاء وإعادة احياء منظمة الحلف الأطلسي المهددة بالزوال؟ والتي اعتبرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «في حالة موت سريري». الأرجح أن يكون جو بايدن رئيسا لمرحلة انتقالية همها الوحيد إعادة الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي والدولي في مربع قيادة العالم.

نجاح بوريس جونسون في تحقيق البريكست
شهدت السنة المنقضية مسلسل البريكست في حلقاته الأخيرة المتعلقة بالتفاوض على اتفاق تبادل بين الإتحاد الأوروبي وبريطانيا العظمى للسنوات القادمة بعد أن خرجت من الإتحاد في بداية عام 2020. وخيم الغموض والتشويق إلى آخر أسبوع من العام حيث حصل الاتفاق النهائي الذي يحمي الاقتصادين البريطاني والأوروبي من هزة عنيفة كانت قادمة في صورة الطلاق دون اتفاق.
وخرج بوريس جونسون منتصرا في هذا المسلسل التاريخي بعد أن شارك في حملة البريكست ووعد قبل أن يتولى السلطة بتحقيقه على أرض الواقع. وكان ترحيب الطبقة السياسية البريطانية، -باستثناء اسكتلندا التي لوحت بمواصلة طلب استقلالها-، بالاتفاق عربون نجاح أولي وتاريخي لرئيس الوزراء البريطاني. اتفاق يعطي الطرف البريطاني إمكانية في مقاومة جائحة كورونا وفي نفس الوقت مواصلة الجهود لتوقيع اتفاقيات شراكة وتبادل مع مختلف البلدان الأخرى. وسوف تجد لندن سندا قويا من الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة خاصة مع ترحيب جو باين بالاتفاق المبرم الذي يسمح للبريطانيين بالتفاوض بكل حرية مع باقي الدول دون قيود إدارية وسياسية تفرضها العلاقة مع أوروبا.

نفوذ الثلاثي الإيراني الروسي التركي
في منطقة الشرق الأوسط، شهد عام 2020 نجاح النظام السوري في الصمود أمام الهجمات الدولية والإسلامية المبرمجة من قبل دول الخليج وتركيا وذلك بوقوف إيران وروسيا إلى جانبه. وإن تبقى بعض الأراضي السورية مسرحا للحركات الجهادية فإن جل المجموعات المقاتلة تم تجميعها تحت رقابة مشتركة من روسيا وتركيا في مدينة إدلب وضواحيها. دخول إيران وروسيا على خط المعارك في السنوات الماضية أعطى مشهدا جديدا عام 2020 كرس تنامي نفوذ إيران في المنطقة (العراق وسوريا ولبنان واليمن) وتغلغل روسيا التي أصبحت لها قاعدة عسكرية في منطقة اللاذقية السورية تعطيها متنفسا في منطقة البحر الأبيض المتوسط ونفوذا جديدا يسهل استراتيجية موسكو في ضمان حزام آمن في منطقتها الجغرافية. وهو ما يفسر، بعد اندلاع الحرب بين أذربيجان وأرمينيا سهولة دخولها العسكري في منطقة قارا باغ كوسيط لضمان الأمن والاستقرار دون أن تحرك أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ساكنا.
هذا الوضع الإستراتيجي الجديد أعطى لتركيا، الحليفة الجديدة لروسيا، مساحة تحرك في منطقة البحر الأبيض المتوسط بدأت بإعادة رسم الخريطة البحرية بالاتفاق مع حكومة فايز السراج في ليبيا ثم افضت إلى الشروع في التنقيب عن النفط في مناطق بحرية تابعة لليونان مما أجبر فرنسا وبعض الدول الأوروبية على التدخل لحماية أثينا وفرض عقوبات أوروبية على أنقرة. البعد الثاني لهذا التغيير الإستراتيجي يكمن في دخول القوات التركية صحبة الجماعات الإسلامية المجاهدة التابعة لها في ليبيا لضمان استمرار نفوذ الحركات الإسلامية المساندة لحكومة السراج في عملية إحياء المشروع العثماني الذي يحلم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمرتبط أساسا بتقوية ودعم الأحزاب والحركات الإسلامية التابعة لحركة الإخوان المسلمين في المنطقة. سوف يكون خلال عام 2021 لهذا الثلوث الإيراني الروسي التركي دور حساس في المنطقة خاصة فيما يتعلق بضمان مناطق نفوذ وتأثير في مناطق الشرق الأوسط والبحر المتوسط، وشمال افريقيا والبلقان.

حركة التطبيع مع «إسرائيل»
عجلت تلك التقلبات في الشرق الأوسط، وخاصة تنامي النفوذ الإيراني، بنشوء حركة غير مسبوقة في المنطقة العربية تمثلت في عملية تطبيع مع «إسرائيل» تحت رعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي نجح في اقناع دولة الإمارات العربية ومملكة البحرين في مرحلة أولى بتوقيع اتفاقية سلام مع «إسرائيل». في إطار حماية المصالح الخليجية من تنامي نفوذ إيران وقد لعبت الإمارات دورا رياديا في هذا الملف بعد أن وقفت على حدود المقاومة العسكرية في اليمن. وسهلت المفاوضات الأمريكية مع السودان والمغرب عملية المقايضة. إذ قبلت الخرطوم بالتطبيع مع «إسرائيل» مقابل خروجها من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وهو ما يفسح لها مجالا لدعم مرحلة التحول الديمقراطي الذي دخلت فيه السودان منذ الإطاحة بنظام عمر البشير، حليف الحركة الإسلامية الإخوانية، وذلك عبر الوعود الأمريكية والخليجية بالدعم المالي. أما المغرب، الذي يترأس لجنة القدس، فقد قايض فتح العلاقات الرسمية مع «إسرائيل» باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية – خلافا لقرارات الأمم المتحدة الداعية إلى تنظيم استفتاء حول الاستقلال – بمغربية الصحراء الغربية. المغرب له جالية ضخمة في «إسرائيل» تقدر ب 800 ألف نسمة وهي لم تقطع وصالها مع المملكة بل تتمتع بتصاريح خاصة تمكنها من دخول المغرب بما يسمح لها من امتيازات جانبية متصلة. وتتواتر الأنباء على جدل عميق صلب العائلة الحاكمة السعودية يقوده ولي العهد محمد بن سلمان حول ضرورة الالتحاق بهذا الركب الذي يمكن أن يرى النور عام 2021.

انتكاسة الديمقراطية في العالم
صاحبت جائحة كورونا انتكاسة في النظم الديمقراطية وذلك في الدول المتقدمة أو في الدول النامية. وسهلت الجائحة صعود هيبة الدول وبسط سلطتها على الشعوب من أجل عزلها في بيوتها وفرض حمل الكمامات وتسليط عقوبات مالية على غير المرتدين لها. وشكلت الانتخابات في بيلاروسيا منعرجا بخروج الآلاف إلى الشوارع منددين بتزوير الانتخابات ومطالبين برحيل الزعيم البيلاروسي الكساندر لوكاتشينكو المدعوم من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وسجلت بعض البلدان الأوروبية انتفاضات شعبية متفاوتة الحجم في كل من بولندا وفرنسا وألمانيا والمجر وبريطانيا العظمى من أجل تغيير القرارات الحكومية.
أما في البلدان النامية فقد شهدت الساحة السياسية انتكاسة الحراك الجزائري وتطور النهج التسلطي في مصر وتخبط لبنان بالرغم من كارثة انفجار مرفإ بيروت في عملية تكوين حكومة جديدة - قديمة و تنامي دعم الحركات الإسلامية المعادية للمشروع الديمقراطي. في افريقيا رجع شبح التمسك بالسلطة في عدد من البلدان في مقدمتها ساحل العاج. أما مالي فقد رجع إلى مربع الانقلابات العسكرية لحل الأزمة التي تشارك فيها قوى عسكرية أجنبية في مقدمتها قوات برخان الفرنسية التي تقاوم الحركات الجهادية والانفصالية. هذا المشهد المتقلب يتكرر، ولو بأساليب مختلفة، في فينزويلا والمكسيك والأرجنتين والبرازيل و يفتح الباب أمام تقلبات جديدة عام 2012..

الإرهاب التكفيري ما بعد تنظيم داعش
حصيلة عام 2020 أظهرت تطورا نوعيا للإرهاب التكفيري بعد الإطاحة المعلنة بتنظيم داعش في سوريا والعراق. فقد تعددت العمليات الإرهابية في أوروبا وخاصة في فرنسا والتي خلفت ضحايا في صفوف المدنيين في مدينتي باريس ونيس. وتمحورت العمليات التي قام بها أفراد لا علاقة عضوية لهم مع تنظيم داعش الإرهابي. بل أن الانتماء إلى الفكر الجهادي خارج الحركة أخذ مكان المشاركة في الأطر التنظيمية للإرهاب. وهو ما جعل بعض الحكومات الأوروبية مثل حكومتي فرنسا وإيطاليا تسنّان قوانين جديدة ضد الإرهاب والهجرة غير النظامية لحماية حدودها والعمل على القضاء عبر وسائل أخرى على الوحش الإرهابي.

تشهد إفريقيا منذ أشهر تنامي العمليات الإرهابية في عدد من البلدان التي لم تكن في الماضي مسرحا لمثل تلك العمليات مثل ساحل العاج ودولة افريقيا الوسطى وزمبابوي. ولوحظ إعادة تمركز بعض المجموعات الجهادية التي أصبحت تنسق فيما بينها لتصبح إفريقيا أحد الفضاءات الحاصنة للإرهاب و الداعمة لما تبقى من المجموعات القتالية لتنظيمي داعش و القاعدة. تواجد قوات خاصة روسية في ليبا وجمهورية إفريقيا الوسطى ودخول تركيا على الخط في ليبيا ومالي وتشاد سوف يعقد من هذه القضية في الأشهر القادمة.

عام 2020 كان متقلبا على كل الأصعدة الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وخلف تداعيات على المستوى الدولي سوف تتواصل في الأعوام القادمة لما للأوضاع الدولية من تقلبات في كل مناطق الكرة الأرضية. ومع تغير مصالح الدول سوف يشهد العالم عام 2021 تواصلا لتلك الأزمات المفتوحة إلى حين التوصل إلى استقرار دولي مرتقب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115