التي تبدأ يوم غرة جانفي 2021 مكرسة انفصال بريطانيا العظمى نهائيا على الإتحاد الأوروبي. ولئن لم ينشر نص الاتفاق (1500 صفحة) بعد والذي يحوصل 10 أشهر من المفاوضات الدقيقة والصعبة والمتقلبة أحيانا، فإن المسؤولين في الجهتين اعتبروا أنه «طيب» للجميع. ويدخل هذا الاتفاق الاقتصادي حيز التنفيذ مع إعادة الحدود والجمارك ويدخل الطرفين في علاقات جديدة بعد أن رفعت الحدود عام 1993.
عبّر الطرفان عن ارتياحهما للتوصل إلى اتفاق تنازلت فيه بروكسل ولندن على بعض الطلبات مما مكن من التخلص من كارثة الطلاق دون اتفاق. وقال بوريس جونسون الوزير الأول البريطاني للأوروبيين: «سوف نكون أصدقاءكم، حلفاءكم، وسندا لكم، ولا ننسى أول سوق لكم». واعتبرت رئيسة المفوضية في مؤتمر صحفي أن الاتفاق «طيب ومقسط ومتوازن وعادل» وهو يفتح بين الجانبين صفحة جديدة من العلاقات ومن الاتفاقات الجزئية والقطاعية المؤجلة لما بعد جانفي 2021.
إزالة العقبات أمام الاتفاق النهائي
يكرّس الاتفاق نهائيا وضع بريطانيا العظمى كطرف خارجي عن أوروبا وهو ما يحتم إعادة الحدود بين الجانبين بما في ذلك مراقبتها من قبل شرطة الحدود والجمارك في الموانئ والمطارات وهي المعابر الوحيدة للجزيرة. ابتداء من غرة جانفي القادم ستدخل حيز التنفيذ بنود الاتفاق التي طويت في الأشهر الأولى وتعطل التفاوض خلال الأسابيع الأخيرة في 3 مسائل أساسية تعلقت بالحدود مع أيرلندا ورفض علوية القانون الأوروبي في المفاوضات والخلافات في مسألة الصيد البحري في المياه البريطانية.
في الأخير قبل بوريس جونسن عدم فرض حدود مع جمهورية أيرلندا – بالرغم من معارضة حزبه – وذلك للحفاظ على السلم الاجتماعية بين طرفي أيرلندا. في المقابل أرسى قانونا ينص على عدم قبول أي اتفاق يمس بالقوانين البريطانية وهو ما أغضب بروكسل لكن بدون أن يعطل عجلة التفاوض. وانتهى الاتفاق باعتماد تفاهم متبادل تقوم بموجبه بريطانيا باحترام «إطار قواعد المنافسة» والقواعد الأوروبية في مجالات البيئة ومقاومة الاحتباس الحراري والحقوق الاجتماعية والشفافية المالية والإعانات الحكومية للمؤسسات وهي مجالات لا تشكل خطرا على الاقتصاد الأوروبي الذي فرض قيودا صارمة و سبق في بعض المجالات قوانين الإتحاد الأوروبي.
الملف الثالث المعطل للاتفاق كان موضوع الصيد البحري. أصرت لندن على نمسكها بسيادتها على فضائها البحري وهو جزء من السيادة الوطنية وفي المقابل مكنت الأوروبيين من الصيد في مياهها مقابل 25% من عائدات الصيد (التي هي في الجملة 650 مليون يورو) مدة 5 سنوات. وسوف يعاد التفاوض في هذا الموضوع القطاعي بعد تقييم العلاقات لاحقا. ولا يعرف ما توصل إليه الطرفان في خصوص مراقبة الحدود وطرق دخول البواخر البحرية للفضاء البحري البريطاني.
علاقات على أسس جديدة
مع إعادة الحدود تصاغ علاقات جديدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية. وسوف يفرض التصريح بالأمتعة والسلع لدى الجمارك في الحدود لكن بدون فرض رسوم جمركية على التبادلات التي تصل إلى 700 مليار يورو سنويا. وتتمتع بريطانيا بالولوج للسوق المشتركة بدون قيود إضافية وهي تشكل 47% من صادراتها. وشهدت الأيام الأخيرة مع غلق الحدود الأوروبية مع بريطانيا من جراء تفشي سلالة جديدة من فيروس كورونا منعطفا أمام المشاهد التي نقلتها التلفزيونات لشاحنات عالقة على الحدود وهو، حسب الملاحظين، ما سهل عملية التوصل إلى اتفاق سريع خشية أن تدخل بريطانيا في أزمة اجتماعية واقتصادية حادة مع تواصل غلق الحدود.
الاتفاق يعطي المواطنين من الجهتين حق التنقل ولا تفرض تأشيرات للدخول بل يعتمد جواز السفر لإثبات الهوية على الا يتم ختمه من قبل شرطة الحدود. وسوف تقوم الجمارك بمراقبة الأمتعة، عند الحاجة، فيما يتعلق بالأمتعة التي ليست مدرجة في الاتفاق. باقي البنود المتفق عليها سابقا والمتعلقة بضمان الحقوق الاجتماعية للمقيمين الأجانب سوف تبقى سارية المفعول.
الاتفاق الحاصل يضبط جزءا من مجالات التبادل. ولا يتعلق بقطاع الخدمات الذي يمثل 80% من الناتج الداخلي البريطاني ويشمل ذلك القطاع المالي للسيتي اللندنية. هذا القطاع تتنافس عليه بوصة فرانكفورت الألمانية وبورصة باريس. وكان مجالا في الأشهر الماضية لمنافسة شرسة بين الإتحاد الأوروبي وبريطانيا شهد نقل سندات إلى أوروبا خشية عدم الاتفاق قدر بحوالي مليار يورو وزعت بين فرانكفورت وباريس. وقررت في هذا الصدد عديد الشركات نقل مقراتها إلى العواصم الأوروبية. ويقدر الأخصائيون في مجال الاقتصاد الخسارة البريطانية جراء الاتفاق بما قيمته 4 نقاط من الناتج الداخلي في عقد ونصف من الزمان.
ارتياح عام في عهد الكورونا
وعبرت سائر العواصم الأوروبية على ارتياحها لتوصل كبير المفاوضين الأوروبيين الفرنسي ميشال بارنيه إلى اتفاق مع بريطانيا العظمى. واعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن «الاتفاق مع المملكة المتحدة أساسي لحماية المواطنين والصيادين والمنتجين» وأن «أوروبا تتقدم وتنظر إلى المستقبل وهي موحدة وذات سيادة و قوية». أما المستشارة المانية أنجيلا ميركل فقد قالت: «أنا واثقة في أنه نتيجة طيبة. بهذا الاتفاق نحن نضع أسس صفحة جديدة من علاقاتنا. المملكة المتحدة سوف تبقى شريطا هاما لألمانيا وللاتحاد الأوروبي لكن خارج الإتحاد».
و»رحّب» رئيس الحكومة الأيرلندية ميشال مارتان بالاتفاق «الذي حصل بعد أربعة أعوام من المفاوضات» واعتبر أنه ينبغي التركيز على «حسن إدارة العلاقات في السنوات القادمة» على أساس هذه «الاتفاق المتوازن». ولو أنه يعتقد أن الاتفاق الحاصل هو أخف الضررين بالنسبة لجمهورية أيرلندا لكنه يضمن السلام والتعاون المثمر. وكان الملف الأيرلندي عقبة حقيقية في السنوات الأولى للتفاوض قيل أن يفضي إلى حل قبلت به الوزيرة الأولى البريطانية تيريزا ماي و كرسه فيما بعد بوريس جونسون.
بوريس جونسن يدخل التاريخ
مجمل المفاوضات تمحورت بين الفرنسي ميشال يارنيه، كبير المفاوضين الأوروبيين، الذي لزم مكانه مدة أربعة أعوام في حين غير الجانب البريطاني وجوه المفاوضين بتغيير الحكومات. وإن يخرج ميشال بارنيه في صورة رجل الدولة المنتصر في أعوام التفاوض بتوصله إلى توقيع اتفاق يضبط قواعد المعاملات بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، فإن المنتصر الحقيقي في هذا الملف يبقى دون منازع بوريس جونسون. فهو الذي دخل سباق البريكست بعد أن كان أحد مناصري المشروع الأوروبي خلال ولايتين كعمدة للعاصمة لندن. وغير موقفه عندما شعر – له حس سياسي متطور – أن الرأي العام البريطاني قد تغير ووجد في مساندة فكرة البريكست حصانا ركبه ليدخل به مقر الحكومة البريطانية بعد أن أطاح بحكومة تيريزا ماي واعدا البريطانيين ب «تحقيق البريكست». فبعد أن نجح في إخراج بريطانيا من الإتحاد في جانفي 2020 ها هو يجد اتفاقا للعلاقات المستقبلية معه.
النجاح الآني صفقت له جل الفصائل السياسية البريطانية. ووعد حزب العمال المعارض بالتصويت لفائدته في مجلس العموم. وسوف يغتنم بوريس جونس هذا الوضع ليكرس جهده لمقاومة جائحة كورونا بتعميم اللقاحات من أجل فرض صورة «المنقذ». ووجه بوريس جونسون خطابا للشعب البريطاني جاء فيه: «لقد استرجعنا سيطرتنا على قوانيننا وعلى مصيرنا، لقد حققنا أكبر اتفاق اقتصادي. وسوف تكون لنا علاقات اقتصادية قوية مع الإتحاد الأوروبي ونعمق تبادلاتنا وشراكاتنا في العالم كله بفضل سياستنا الاقتصادية المستقلة.» كلمات أكدت على استرجاع السياسة التي وعد بها والتي سوف يستغلها بفضل الأغلبية البرلمانية التي يتمتع بها لتوسيع رقعة المبادلات في العالم لضمان تخفيف وطأة البريكست.
تبقى بعض السحب متراكمة في سماء بريطانيا. أولها الانتهاء من المفاوضات مع إسبانيا في شأن مقاطعة جبل طارق التي تحتلها بريطانيا. المقاطعة تحتضن 34 ألف مواطن وتستقبل من اسبانيا 15 ألف عامل يوميا. وهي محل نزاع دائم مع مدريد. لكن رئيس حكومة جبل طارق فابيان بيكاردو صرح في بيان رسمي أنه «متفائل بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق» في اليام القادمة. السحابة الثانية جاءت من أسكوتلندا حيث اعتبرت الوزيرة الأولى نيكولا ستورجون أن «البركسيت جاء ضد إرادة شعب أسكوتلندا، الاتفاق لن يرجع لنا ما فقدناه مع البريكست»(الذي صوت ضده عام 2016 بنسبة 62%) وأنه «حان وقت تسطير مستقبلنا كأمة أوروبية مستقلة». عزم متجدد على مطالبة ضمنية بتنظيم استفتاء جديد حول الاستقلال بعد أن قبل الوزير الأول البريطاني الأسبق دافيد كمرون تمكين أسكوتلندا من ذلك بدون أن تنجح ستورجون في اقناع أغلبية بالتصويت لفائدة الاستقلال. مع دخول البريكست حيز التنفيذ سوف يجد بوريس جونسون نفسه أمام عقبة اسكوتلندية جديدة تهدد هذه المرة وحدة المملكة المتحدة.
اتفاق آخر ساعة تاريخي حول البريكست: لندن تخرج من الإتحاد ... وتبقى في أوروبا
- بقلم زين العابدين بن حمدة
- 09:32 26/12/2020
- 933 عدد المشاهدات
توصل الطرفان البريطاني والأوروبي يوم 24 ديسمبر، مع عيد الميلاد، إلى توقيع اتفاق علاقات نهائي حول مرحلة ما بعد البريكست