انطلق النشيد اللبناني ليهزّ باحة معبد باخوس التي اعتادت في هذا الشهر من كل عام على احتضان فعاليات «مهرجانات بعلبك» وهو أحد أعرق المهرجانات الفنية والثقافية في بلد الأرز، ومرّ عليه كبار الشخصيات والرموز الفنية العريقة في العالم ليبقى شاهدا على تاريخ وعراقة وحضارة هذا البلد الاستثنائي في كل شيء.
ولكن بقي هذا الصرح فارغا هذا العام من رواده وعشاقّه بسبب جائحة كورونا وما فرضته من إجراءات الحجر الصحي العام ، وكذلك بسبب هذه الغمامة المظلمة التي تمرّ بسماء لبنان الذي يعيش أسوإ أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخه . وحتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية وأشدها قتامة، لم يشهد هذا البلد انهيارا كهذا الانهيار السريع في عملته الوطنية . وتُحمّل قطاعات شعبيه واسعة مسؤولية هذه الكارثة والأزمة الى الطبقة السياسة الحاكمة وقادة الطوائف وملوكها الذين عاثوا في البلاد فسادا وأرجعوه عقودا الى الوراء، بسبب تركيز سياسة الولاء والمحسوبية عوضا عن مبادئ دولة القانون والمؤسسات. ولم يجد قائد الاوركسترا الوطنية اللبنانية هاروط فازيليان خلاصا إلاّ بعزف نشيد لبنان الى جانب مقطوعات موسيقية سمفونية بمشاركة أكثر من 150 مشاركا ومغنيا نقلتها بشكل موحّد مختلف وسائل الإعلام اللبنانية المرئية والمسموعة على مدى ساعة من الوقت، وحملت عنوان «صوت الصمود» عسى أن يوقظ هذا النشيد بعضا مما تبقى من ضمير نائم لدى زعماء وسياسيي لبنان الذين باعوا بلدهم بأرخص الأثمان ورهنوه لمعادلات الداخل والخارج.
لأول مرة منذ أعوام تتوحد القنوات الإعلامية -والتي طالما مثلت أبواقا لهؤلاء السياسيين تنقل مهاتراتهم وتجاذباتهم وصراعاتهم وصراخهم الذي سئمه شعب لبنان - لنقل مشهد قد يُوحدّ الجميع ويجعلهم يُبقون خلافاتهم جانبا . في تلك الأمسية الاستثنائية المليئة بالمشاعر المتناقضة ، تفجرّ غضب بعلبك وقلاع عنجر وجبيل وصيدا وصور وطرابلس. تفجرّ أيضا غضب جبران خليل جبران ومارون عبود وإيليا أبو ماضي وبطرس البستاني وخليل مطران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وغيرهم من أعلام هذا البلد ومفكريه وأدبائه ومثقفيه. أيقظتهم في تلك الليلة صرخة معبد باخوس فخرجوا ليبحثوا عن لبنان الضائع، فلم يجدوه ،فصرخ جبران خليل جبران بأعلى صوته قائلا « لكم لبنانكم ولي لبناني»... قالها قبل أكثر من مئة عام ولا زال ملوك الطوائف الى اليوم يتصارعون ويتقاتلون على النفوذ والحكم والسلطة.
في خضم هذا المشهد المليء بالانقسام والشتات ، كان لا بد من مشهد تنقله عدسات الكاميرات ليوحّد اللبنانيين مجددا ، وليس أفضل من عزف النشيد الوطني عله يوقظ شيئا ما «من الروح الوطنية «الضائعة ويعيد بعض الضوء في تلك العتمة الحالكة.
انه لبنان يا جبابرة هذا العصر ...انه لبنان الذي خذلتموه ...انه لبنان الكبير لجميع طوائفه لجميع فئاته وأبنائه ...للمهمشين والمستضعفين ...انه لبنان كنز المتوسط الذي لن تضيع سنابله ولن تذبل حقول برتقاله وزيتونه المقدس ....انه أرض المقاومة والنصر، وسينتصر كما انتصر في عام الفين على الاحتلال الاسرائيلي سيدحر أيضا كل من تآمر عليه . انه لبنان أكبر من كل المؤامرات والأزمات ...وهم يرحلون ويبقى ترابه المقدس ليحكي قصة الحضارة ووجع التاريخ.