قد وصل انخفاض سعر صرف العملة الرسمية أمام الدولار الى حدود 3000 ليرة للدولار في ثمانينات القرن الماضي قبل ان يأتي اتفاق الطائف ويلجم هذا الانخفاض ويُثبّت سعر الصرف في حدود 1500 ليرة للدولار منذ سنة 1992 .
تشهد اليوم العملة اللبنانية انهيارا دراماتيكيا غير مسبوق أوصلها الى قرابة الـ 6000 ليرة مقابل الدولار الواحد ، مما أدى الى خروج مظاهرات عارمة في مختلف المدن ضدّ السلطة وسط اتهامات للطبقة السياسية الحاكمة بالفساد . واستهدفت الشعارات بشكل أساسي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وحملّه المتظاهرون مسؤولية الانهيار الذي يحدث.
عوامل عديدة
وللإشارة فان أسباب هذا الانهيار تعود الى عوامل عديدة لعل أهمها العقوبات الأمريكية التي تستهدف حزب الله وتفرض قيودا مالية كبيرة على التحويلات الى لبنان بعد ادراج بعض قيادات حزب الله على قائمة الإرهاب الأمريكية . وجاء قانون قيصر -والذي يفرض عقوبات على كل الأفراد والمؤسسات والدول التي تتعامل مع النظام السوري- ليزيد الطين بلة في بلد الأرز ، فقد استهدف هذا القانون ايضا التحويلات بالدولار الى لبنان باعتباره من الدول التي تتعامل مع دمشق ، وفي أقل من ساعات شهد اللبنانيون هذا الانهيار السريع في عملتهم. وفي الحقيقة فان طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني المبني على أسس هشة -الذي يعتمد بالأساس على قطاعي الخدمات والسياحة- شكلت مناخا ملائما لهذه الأزمة الجديدة، فهذه السياسة الاقتصادية كانت تهدف الى جعل لبنان قطبا مصرفيا هاما في المنطقة مع تثبيت سعر الدولار وهو ما شجع على قدوم الودائع الخارجية اليه طيلة الأعوام الماضية .. ولكن قامت هذه السياسية على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة والصناعة والتي تراجعت بشكل كبير وبات لبنان يستورد معظم حاجياته من الخارج. واللافت ان سوريا المستهدفة
الأولى بقانون قيصر والتي شهدت تراجعا أيضا في سعر عملتها في يوم واحد ، سرعان ما تمكنت من السيطرة نوعيا على الوضع ومن ضبط سعر عملتها أمام الدولار، لأن سوريا تعتمد في نظامها الاقتصادي على سياسة الاكتفاء الذاتي وهو العنصر المفقود في لبنان .
ويحمّل اللبنانيون الطبقة السياسية المسؤولية عن كل الأزمات المتلاحقة ، وعندما وقعت المظاهرات المطالبة بتغيير النظام، عمد كثير من الساسة الى تهريب أمولهم للخارج خشية من أية محاكمات قد تطالهم . ويوجه البعض أصابع الاتهام لمصرف لبنان باعتبار انه غضّ النظر عن هذه التحويلات الكبيرة وعن تهريب الدولار للخارج بشكل غير مسبوق . وجاءت أزمة كورونا لتعمّق من الهوة الاقتصادية ، فوجد عشرات الآلاف من اللبنانيين أنفسهم خلال الأشهر الأخيرة يخسرون وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم، مما رفع معدل البطالة إلى أكثر من 35 %، حسب إحصاءات رسمية.
وتبدو الحكومة اللبنانية عاجزة عن كبح لجام هذه الأزمة وإيقاف الانهيار الجنوني لليرة اللبنانية ، وأملها الوحيد معلق على مساعدة صندوق النقد الدولي للحصول على أكثر من 20 مليار دولار وفق خطة انقاذ شاملة.
سلاح العقوبات
ويرى البعض ان مساعدة صندوق النقد الدولي او اية مساعدة خارجية للبنان – حتى من حلفائه التقليديين في دول الخليج-لإنقاذه من محنته مرتبطة بقرار أمريكي . وهو أمر صعب الوقوع اليوم بالنظر الى ان جزءا كبيرا مما يحدث في لبنان يصبّ في خانة الضغط الداخلي على حزب الله وزيادة الخنق الاجتماعي وحالة التململ الداخلي من أجل استهداف سلاحه، بشكل يمكّن «إسرائيل» من تنفيذ ما عجزت عن تنفيذه بقوة السلاح وبالحروب طيلة الأعوام الماضية. لذلك لجأت هذه المرة الى «الحرب الاقتصادية الباردة» الخفية ضد لبنان بمساعدة حلفائها الأمريكيين.
وفي الحقيقة فان الحصار او «سلاح العقوبات» سبق ان استخدمته الولايات المتحدة ضد ايران لسنوات طويلة ولكن الجمهورية الاسلامية تعتمد بشكل اساسي في اقتصادها على الاكتفاء الذاتي ، وجعلت من هذه العقوبات قصة نجاح وعنصر قوة بلجوئها إلى تصنيع حاجياتها الأساسية، وتحولت بذلك الى قطب اقتصادي وعملاق عسكري وسياسي مؤثر في المنطقة . فتأثير العقوبات على طهران اقل وطأة من تأثيرها على لبنان... هذا البلد المكشوف اقتصاديا وسياسيا والذي بات شعبه مهددا أكثر من أي وقت مضى فيما يخيم شبح الفتنة من جديد في سمائه، وينتظر البعض إشعال الفتيل بالغضب الشعبي العارم .
ولكن الضوء الوحيد الذي يبقى بعض الأمل هو تلك الشعارات الموحدّة التي رُفعت في المظاهرات والتي تؤكد على رفض الطائفية بمختلف أشكالها . فانهيار الليرة في بلد يستورد 80 % من حاجياته من الخارج ، يهدد مختلف الشرائح اللبنانية بأمنها الغذائي ...ولا يقتصر الخطر على طائفة دون أخرى. وهذا من شأنه أن يسقط أي مخطط للفتنة ويبقي الغضب الشعبي في إطار المطالب الاجتماعية والسياسية بعيدا عن أية تأجيج طائفي وتحريض مذهبي لا تحمد عقباه.